شاب سوري يروي... قطعت يده بجرم لم يرتكبه


لم ينجو السوريون من تعذيب نظام الأسد، حتى وقع بعضهم بين يدي تنظيم داعش الوحشي، الذي أعاد ممارسات القرون الوسطى ووحشيتها للتداول. حكاية يرويها الصحفي كمال شيخو بعد أن التقى شهودها عن "أحكام" التنظيم القضائية وعن "قطع اليد" الذي جرى ويجري دون أية تهم سوى الوشاية الكاذبة.

08 آذار 2017

كمال شيخو

صحفي سوري، عمل مراسلاً لعدة وكالات دولية وكتب في صحف عربية وغربية ومواقع سورية.

(منبج/ غازي عنتاب) الخامس من تموز /يوليو عام 2016، تاريخ لن ينساه جمعة سليمان، الشاب العشريني المُنحدر من بلدة منبج التي تبعد نحو 80 كلم شرقي مدينة حلب، كان جمعة يستعد وقتها لاستقبال أول أيام عيد الفطر، لكنهُ لم يستطع إكمال يومه بيدين سليمتين، إذ اقتيد بعد الظهر إلى ساحة عامة بمدينة الباب و"قطعت يده اليمنى "بتهمة السرقة"، أمام حشد من المتفرجين والفضوليين.

جمعة لا يزال يتذكر شدّة صوت الساطور التي قطعت يده؛ وكأنّ ذلك حدث قبل قليل. وعلى الرغم من نفيه لتهمة السرقة الموجهة له، إلا أنه لا زال يلقي باللائمة على القاضي الذي تسبّب بعاهة دائمة لديه، بعد تعرّضه لضرب مبرح وتعذيب شديد ما دفعه للاعتراف بجرم لم يرتكبه، وتمنى لو حُكم عليه بالموت على أنْ يعيش بيد مبتورة.

شابٌ مكلومْ

روى جمعة قصته لموقع حكاية ما انحكت بعيون دامعة وخاطر مكسور، كما كانت تجلس والدته بجواره، وهي التي بقيت تبكي طيلة حديثه، كما انضم إلى الجلسة شريكه في المحل علي الديري (24 سنة)، والذي بقي صامتاً معظم الوقت.

كان جمعة يمتلك متجراً لبيع الدراجات النارية بالسوق التجاري في منبج، لكن مخبراً ذو صلة بتنظيم "الدولة الإسّلامية"، قدّم وشاية للمكتب الأمني للتنظيم أثناء فترة سيطرته على البلدة؛ مفادها أنّ جمعة وشريكه علي يبيعان دراجات نارية مسروقة.

مكابداً آلامه والمصيبة التي ألمت به، بدأ جمعة بسرد تلك التفاصيل وقال: "قبل شهر رمضان العام الماضي بحوالي أسبوع بالضبط، جاءت دورية من جهاز الحسبة التابع للتنظيم إلى محلي، وقبضت على شغيلي (عامل) وأخذوه ولم أعرف وقتها السبب".

جمعة وعلى حدّ تأكيده كان يجهل أنّه متهم بالسرقة، وذكر: "لو كنت عرفت لهربت فوراً، تنظيم داعش بقي قرابة ثلاث سنوات محتل منبج، بحياتي ما راجعت مكتب لهم أو طرقت باب مقراتهم، حتى إن صدف وكان يمشي عنصر بنفس الشارع الذي أمشي فيه كنت أغيّر وجهتي".

مقر المجلس المدني بمدينة منبج بريف حلب الشرقي بعد تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسّلامية.
تاريخ التقاط الصورة: 03/11/2016. حقوق النشر: تصوير كمال شيخو خاص حكاية ما انحكت

بعد أسبوع وتحديداً في 6 حزيران /يونيو من العام 2016، داهمت دورية منزل جمعة، حينئذ اعتقد في قرارة نفسه أنهم يبحثون عن الدخان أو أنّ فرداً من عائلته قام بالتدخين سراً، فالتنظيم يمنع الأهالي في المناطق الخاضعة لسيطرته من التدخين أو التجارة بالدخان.

وأضاف: "دخل ثلاثة عناصر وصاحوا على اسمي وقالوا لي أنّ المكتب الأمني يريد التحقيق معي. سألتهم لماذا يستدعوني، أجابوني: في المكتب سأتعرف على الأمر".

يومها كان الوقت قبل غروب الشمس بدقائق، وبعدما وصلوا إلى المكتب الأمني، وضعوه في السجن دون أن يوّجهوا له أيّة تهمة. في صبيحة اليوم التالي استدعاه المحقّق، وتابع جمعة شهادته مضيفاً: "المحقق كان سعودي الجنسية، سألني باختصار كم قبضت سعر الدراجات النارية المسروقة؟ ذهلت من التهمة وأجبته مستنكراً: لم أبيع دراجات مسروقة، ولم أسرق شيئاً بحياتي، وتجارتي حلال إنْ شاء الله، أعطوني دليلاً واحداً يثبت توّرطي بالسرقة".

"أخذت الاعترافات تحت التعذيب"

سرعان ما أفصح المحقّق أنّ عامله اعترف بذلك، وأمر السجان بإعادته إلى الزنزانة المنفردة، أبقوه فيها 5 أيام دون أن يمسّه أحد لكن مارسوا عليه أبشع أشكال التعذيب النفسي، وبحسب جمعة كان عناصر السجن يهدّدوه أنّهم سيضعونه في الحفرة مرة، أو سيشبحونه ويعلّقونه في ساحة عامة، ثم استدعاه المحقّق مرة ثانية وطلب منه الاعتراف، لكن جمعة رفض التهمة وشدّد أنّه لم يسرق.

مخفر سابق للشرطة الإسلامية التابع لتنظيم الدولة الإسلامية أثناء سيطرتهم على مدينة منبج
تاريخ التقاط الصورة: 14/08/2016. حقوق النشر: تصوير كمال شيخو خاص حكاية ما انحكت

توقف جمعة عن الكلام واغرورقت عيناه بالدموع، بقي لحظات يبكي ثم نظر إلى يده المقطوعة، وتابع حديثه ليقول: "بعدها تعرّضت لكلّ أنواع التعذيب الجسدي والنفسي. كلّ يوم بعد الساعة 10 بالليل كانوا يضربوني، مرّة بالكبل الرباعي ومرّة ثانية بالتشبيح ويضربوني بقطعة حديد لدرجة أنّ كل أنحاء جسدي تأذت من شدّة الضرب المبرح".

إلاّ أنّ الأمر لم يتوقف عند اتهام جمعة وعامله بالسرقة، فبعد خمسة أيام من حبسهما ألقى "جهاز الحسبة" القبض على شريكه علي الديري بنفس التهمة.

ولدى إفادته لموقع (حكاية ما انحكت) قال علي: "لمن استدعاني المحقق قال لي حرفياً أن شريكي جمعة وعامل المحل اعترفوا بكلّ شيء ويجب عدم إنكار التهمة. رفضت الاعتراف بجرم وتهمة لا أساس لها من الصحة، عندها طلب من عناصر السجن ضربي وتعذيبي للحصول على اعترافاتي".

وتعرّض علي أيضاً لشتى أنواع الضرب المبرح والتعذيب، ولم يحتمل جسده ما تعرّض له ما اضطره للاعتراف بسرقة الدراجات النارية والقيام ببيعها شراكةً مع جمعة.

وفي 25 من شهر حزيران /يونيو العام الماضي، عُرض جمعة وشريكه علي والعامل على قاضي الهيئة الشرعية في بلدة منبج، والذي أحالهم إلى لجنة عشائرية مؤلفة من كبار عوائل البلدة، هذه اللجنة تعتمد على الشرعية، وهي طريقة عشائرية قديمة، يقوم فيها القاضي بتسخين ملعقة طعام على نار ملتهبة ويطلب من المتهم مدّ لسانه حتى ملامستها مع الملعقة، فإذا احترق لسانه يكون المتهم مذنب، أما إذا لم يحدث شيء يكون المتهم برئ.

وذكر علي وجمعة إنّ اللجنة العشائرية برأتهم وأرسلوا خبراً إلى الهيئة الشرعية يؤكدون فيها براءتنا، لكن قاضي الهيئة رفض الحكم وقرّر إرسالهم الى محكمة مدينة الباب المجاورة.

مصير مجهول

في 4 تموز /يوليو العام الفائت، تمّ ترحيل الثلاثة إلى السجن المركزي بمدينة الباب، وعند نقلهم أخبرهم عناصر السجن في بلدة منبج أنّ القاضي في الباب سيحكم عليهم بدفع غرامة مالية، ثم يُفرج عنهم، ما أعطاهم بارقة أمل.

يتذكر جمعة وعلي إنهما لم يناموا ليلتها، بانتظار المثول أمام القاضي للإفراج عنهما وقضاء العيد مع أهلهم. وفي 5 تموز /يوليو 2016 بعد ظهيرة يومذاك، صاح السجان على أسماء الثلاثة، عصّبوا أعينهم وأخرجوهم من السجن وهم يجهلون المصير الذي ينتظرهم.

عندما أزال عنصر التنظيم "الطماشة" عن أعين الثلاثة؛ وجدوا أنفسهم يقفون وسط ساحة الجامع الكبير بمدينة الباب. وقد تجمهر عدد من الأهالي والفضوليين ليتفرجوا على تنفيذ الأحكام.

قال جمعة: "نادوا على أسمي أول شيء. كّنا 7 أشخاص، وقد وقف شخص طويل القامة وضخم البنية وبيده ساطور كبير ووضعت أمامه طاولة من الحديد وسط الساحة، أدركت حينها إنهم سيقطعون أيدي".

مقر آمني سابق لتنظيم الدولة الإسلامية في مدينة منبج
تاريخ التقاط الصورة: 09/08/2016. حقوق النشر: تصوير كمال شيخو خاص حكاية ما انحكت

وأضاف: "مسكني عنصرين وجروني كأنهم يأخذون شاة للذبح، وضعوا يدي اليمين على الطاولة، وعندما ضربها السجان الذي نفذ الحكم لازلت أتذكر صوت قطع يدي وكأنها حدثت قبل قليل".

فيما نقل علي، أنّ تلك اللحظات مرّت عليهم مثقلة ومحمّلة بالخوف، وقال: "كانت تقف سيارة إسعاف بجانب الساحة، ضربوا كلّ شخص إبرة يبدو إنها كانت مخدرة، وبعدما قطعوا يدي جاء ممرض وضربني إبرة ثانية، غبت عن الوعي وبعد خمسة ساعات لمن فتحت عيني كنت بالمشفى، لا أستطيع التحرّك وأشعر بألم شديد، تمنيت لو كان كابوساً".

بعد عدّة ساعات تعافى علي من الصدمة وعاد إلى وعيه، وعندما شاهد يده اليمنى مربوطة بشاش أبيض وهو ملقى على سرير المستشفى، أدرك أنّ المشهد لم يكن كابوساً بل حقيقةً مُرة، وأنّ الحادثة ستغيّر مجرى حياته إلى الأبد.

بعدها أعيد الثلاثة إلى السجن مرة ثانية وهم في هذه الحالة، وتابع جمعة كلامه، وقال: "كنت أموت من شدّة الألم، لم أحتمل كثيراً فضربت باب السجن وطلبت مقابلة المدير، فعلاً أخذوني عنده وصرخت بوجهه عالياً: أيدي وقطعت بعد في شيء ثاني؟ قال نعم عليك دفع غرامة مالية 250 ألف ليرة سوري (ما تعادل 500 دولار أمريكي)".

نهاية مأساوية

وتمكن جمعة من دفع الغرامة عن طريق مساعدة شقيقته التي كانت تسكن في الباب، وعندما وصل إلى منزله في منبج، تحدثت والدته لحكاية ما انحكت، قائلة: "لم أصدق أنّه رجع وهو على قيد الحياة. عندما وصل إلى البيت ودخل الباب وهو بهذا المنظر، قلت في نفسي لقد قتلوه وهو عايش. يومياً وأنا أبكي على حالته".

أما علي بقي نحو شهرين في السجن يكابد آلامه، فكلّما ازداد الألم كانوا يسعفونه إلى المستشفى ويحقنوه بإبرة مخدرة ثم يعيدوه إلى السجن مجدّداً، ثم أفرج عنه أخيراً بعد دفع الكفالة المالية.

وعند عودته إلى المنزل لم يصدّق والده الحكم وأصيب بجلطة دماغية، فيما تعرّضت والدته لانهيار عصبي وبقيت أسبوعاً بالمستشفى تحت العناية المشددة.

واختتم علي كلامه قائلاً: "منذ ذاك الوقت أعتبر حياتي توقفت. بعدني شب بأول عمري كنت أحلم بالزواج وبعمل محترم، لأكمل حياتي بشكل طبيعي مثل باقي الناس، الآن أنا محروم من كل شيء".

في حين يخجل جمعة من المشي في الشارع أو الذهاب إلى السوق، ويعزو السبب إلى قساوة الحكم إذ قطعت يده بتهمة السرقة والجرح لن يفارقه طيلة حياته، وقال في نهاية حديثه: "أتمنى لو  حُكمت بالموت.. أنّه أهون من العيش بيد قطعت بتهمة السرقة".

(الصورة الرئيسية: مدرسة ابتدائية بمدينة منبج حولها التنظيم لمقر أمني له. تاريخ التقاط الصورة: 19/08/2016. حقوق النشر: تصوير كمال شيخو خاص حكاية ما انحكت)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد