خمس ساعات متواصلة من انقطاع التيار الكهربائي تنتهي معها طاقة المدخرة الكهربائية لجهازي المحمول، وكذلك طاقة المدخرة الثانية. لم أنهي مادتي الصحفية المطلوبة بعد. لكن الحلول تنتهي هنا لأعود بعدها لأدواتي البدائية: ورقة وقلم.
انتهى عدد كبير من الصحفيين من استخدام هذه الطريقة لتدوين موادهم لكن الكتابة على الورق أفضل من الجري أثناء عودة التيار لكهربائي وتدويني للأفكار على الجهاز المحمول ونسيان عدد من الأفكار بسبب الجري لشحن المدخرات الإضافية ووضع وجبة من الثياب داخل الغسالة وكي ثيابي وكنس المنزل.. وذلك كله خلال ساعة! لا يمكنك أن تكون صحفي طبيعي ضمن ظروف غير طبيعية.
بين الناس
الوسيلة الأفضل لكتابة تقريرك أو مادتك الصحفية هي وضع جهازك المحمول فوق ظهرك والتوّجه إلى أقرب مقهى يتواجد فيه أنترنت والكثير من الناس، طبعاً ليس هذا هو الخيار الأفضل، لكنّه جيد لمن لا يعملون ضمن مؤسسات توّفر الكهرباء والأنترنت لموظفيها. يتوّجب علَي السفر لمدة تقارب الساعتين حتى أصل قلب العاصمة، هذا المشوار كان يُقضى بأقل من ساعة قبل بداية الحرب. لا تتوقف الأمور عند الوقت الذي يتوّجب أن نقضيه ونحن ننتظر على الحواجز العسكرية، فعند كلّ نقطة تفتيش عليكي أن تبقي هادئة ومتأهبة لأن يطلب منك العسكري الترّجل من السرفيس أو السيارة وإلقاء القبض عليك، لذا لا أستغرب من احتلال سورية مرتبة متقدمة في قائمة أسواء البلدان لعمل الصحفيين وحريتهم.
لا تفارق ذاكرتي اللحظات التي عشتها مع عائلتي من الخوف والقلق والترّقب نتيجة اتصال وردني في شهر أذار قبل عام، لم يبدو الرقم الذي يتصل بهاتفي رقم غريب أو مريب، هو رقم عادي مثل أيّ رقم، أجيب عادةً على الأرقام الغريبة دونما تردّد فأنا صحفية منذ عشر سنوات وتعاملت وأتعامل مع عدد كبير من الأشخاص ولا يمكنني الاحتفاظ بأرقامهم جميعاً. كان صوت المتصل هادئاً جداً، سألني عمّا إذا كنت أنا ذاتها الصحفية التي يبحث عنها، أجبت نعم، فعرّف عن نفسه بأنّه عنصر أمن يتبع لأحد فروع الأمن السياسي، وبأنّه يوجد مذكرة استدعاء بحقي لزيارة أحد الأفرع الأمنية. لم أنم ليلتها وأتى الصباح أخيراً، مسحت جميع الرسائل من حساباتي، ألغيت عدداً كبيراً من الصداقات التي كانت على حسابي الشخصي، حملت هاتفي القديم، توّجهت وحدي إلى الفرع، لم يكن معي أحداً، فأنا وحدي من تتحمّل تبعات عنادها والاستمرار في هذه المهنة التي تسميها والدتي بالملعونة، ونحن لا نملك اتحاد أو نقابة تدافع عني سوى على الورق والوزارة لا تعرف معظمنا إلا عند دفع التزاماتك المالية وتكتفي بتوجيه الملاحظات عن كتاباتك التي قد تؤدي إلى وقف نشاطك إذا أعدت الكرة مرّة ثانية.
الاستقبال كان جيداً، حسب ما سمعت من تجارب أصدقائي، أنا تم استدعائي ولم يتم جلبي ولم يتم توقيفي، وهذا يعني نقطة جيدة! يحقّق معي مساعد أول، رجل في نهاية عقده الرابع، تمضي نصف الساعة الأولى بشكل بطيء، كنت أملي عليه الأجوبة ويسجلها بخط يده. في نهاية الاستجواب الذي دام قرابة الساعتين واجهني المحقّق بأوراق مطبوعة أضع فيها إعجاب على بوست لأحد الأشخاص كان يتكلم فيه عن الانتخابات البرلمانية السورية، وأنا لم أنكر هذه التهمة. لم يكن البوست ذو خطورة، سواء من ناحية المحتوى أو من ناحية الشخص الذي كتبه. أحدهم كتب فيَ تقرير وكان الإعجاب مجرّد حجة. في نهاية التحقيق استدعاني الضابط المسؤول عن القسم وأمر بجلب فنجان قهوة لي، وتحدث بأنّ أعداء الوطن كثر ونحن كصحفيات قد نضع لايكات دون أن نعي خطورة هذا اللايك على أمننا وأمن البلد، وخاصة أننا نحظى بمتابعة عدد كبير من الأشخاص العاديين والذين سيتبعوننا أيضاً، فالضابط كما قال لا يشكّك بوطنيتي أبداً، لكني فتاة وقد أنساق دون تفكير بتبعات الأمور، وطلب مني أن أنتبه أكثر لأصدقائي، وأين أضع اللايكات، معقبّاً أنّ هناك عدد كبير من الصفحات التي تعرض الفساتين والثياب والطبخ وستكون مفيدة أكثر لي وأقل تسبّباً في وجع الرأس لي ولعائلتي وعينهم ستبقى عليّ من أجل مصلحتي.
أنا لست هنا
منذ بدايتي في العمل الصحفي كنت أطمح لأن أكون صحافية تحقيقات تكشف الفساد وتحقّق السلام للجميع.. حلم كبير وزهري، فنادراً ما يصادف المرء رئيس تحرير أو رئيسة قسم تشجعك على تحقيق هذا الحلم، فإذا كنت فتاة جميلة ستكون صفحة الفن والفنانين وأخبارهم مكانك، وإذا كنت على مستوى تمّ تصنيفه مقبول من الجمال فصفحة المطبخ والتسلية ستكون بيتك، وغير ذلك ربما يتم وضعك في تغطية نشاط المراكز الثقافية.
عدد قليل من الصحفيات السوريات كنّ قادرات على فرض أنفسهن في مجال صحافة التحقيقات، إلى أن وقفنا في الميدان لتغطية أخباره. صحيح أنّه يوجد عدد كبير من التجاوزات في هذا المجال، لكنّنا وضعنا قدمنا على أول الطريق.
استعمال الاسم المستعار كان بالنسبة لي كمن يرتدي ملابس مسروقة، لا أحد يناديني بهذا الاسم سوى المراسلات مع رئيس التحرير الذي يجلس بعيداً عني آلاف الكيلومترات. لم أسمع رنّة الاسم، ووقعه في نفسي لا تجلب سوى الغربة.
منذ بداية دخول النساء مضمار الكتابة، سواء الروايات أو الكتابة الصحفية، لجأن إلى الأسماء المستعارة التي كان في معظمها أسماء ذكورية، لكن اسمي الذي اخترته اسم انثوي له رائحة جميلة. فهل أكتب تحت الاسم المستعار أم أستعمل اسمي الحقيقي وأتحمّل تبعات الأمور الأمنية أو أصمت؟
فليكن هو اسمي، وسأردّده بيني وبين ذاتي. أنا أقبع في أكثر نقاط العالم اشتعالاَ، الجميع يبحث عن عين أو موضع قدم ليقف، ويقول للعالم: أنا هنا وهذا ما آراه.
صوتي..
لا يعتبر الحديث عن المشاكل التي تعرّض لها السوريون خلال سبع سنوات بشفافية ومهنية أمراً سهلا، وخاصة وسط الإشاعات والتغطيات المتحيّزة لأحد الأطراف المتنازعة دون طرف، مما صعّب عليّ طرح عدد من المواضيع، وخاصة فيما يتعلق بتجاوزات المقاتلين هنا أو هناك، فإذا انتقدتي تصرفات من يقاتل إلى جانب الحكومة السورية والنظام القائم فقلمك مأجور للمعارضة المعادية وهدفك النيل من هيبة الدولة وأجهزتها التي تحمي البلد، وإذا كتبتي عن تجاوز عناصر المعارضة وأجهزتها فـأنتِ شبيحة ومؤيدة لا ترى المجازر والمصائب التي جلبها النظام للسوريين.
أنا صحافية سورية تعيش داخل بلدها تريد أن تكون صوتاً لعدد كبير من الناس، فرض عليهم منذ بداية الحرب أن يكونوا صامتين. في الحقيقة هم ليسوا صامتين هم فئة لا يريد أحد أن يسمع صوتها.
لا أملك صورة متفائلة أو قاتمة عن مستقبل الصحفيات السوريات فالكثيرات خطين بأقلامهن تحقيقات وتقارير جيدة، لكني أدرك أنّنا قادرات على صناعة مستقبلنا بأنفسنا.
(تنشر هذه المادة ضمن حملة اليوم العالمي لحرية الصحافة 2017 ، بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات).
(الصورة الرئيسية: المصدر: الصفحة الرسمية لمجموعة كرتونة من دير الزور على الفيسبوك بتاريخ 22/11/2012، والصورة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للمجموعة)