تنحلُّ عظامهم بترابِ مسقط رأسهم أو بترابِ المنافي. حينها يمكن للحكاية أن تُروى بحياديةٍ ودون نبش في الجراح التي لم تجف بملحِ الحرب التي لم تتوقف بعد.
كان يمكن أن يكون عبوري معبر "باب السلامة" الحدودي الذي وقفتُ فيه بطابورٍ طويل مع آلاف السوريين في أيار/ مايو صيف عام ٢٠١٤ مجرّد حكاية ستنسى على هامش هذه الحرب، لو لم أترك نظرتي عالقة هناك على الحدود للأبد، لتبقى شاهدة على كلّ الموت الذي حدث وما زال يحدث هناك.
لو أنّ الحقيبة الصغيرة التي حملتها معي كانت تحتمل أن أحمل فيها أشياء أكثر من بدلين من الثياب وصورة والدي وصورة لصديقاتي وكتابين عزيزين أهديا لي بعيد ميلادي الخامس والعشرين، هما "ترجمة البازلت" لسليم بركات ورواية "ألف" لباولو كويلو، عزّ علي أن أخلّفهما ورائي مع بقية كتب مكتبتي في حلب.
لو أنّ الحقيبة استوعبت سنواتي الـ ٢٨ كلها، لو تحملت أرصفة وأزقة حلب القديمة مع برج القلعة الذي طالما وقفت عنده كثيراً، أمدُّ يديَّ كطائرٍ يريد الطيران لحريةٍ لم تعرفها حلب يومها.
لو استطعت أن أحمل فيها مقهى وبار "المشربية "وكان زمان" في الجديدة، لو أنها ضمّت حي العزيزية، ومشتل الورد في السريان الجديدة، ومنزل العائلة، وشجرة البرتقال المجاورة لنافذة غرفتي، عش الحمام المقيم على حواف نافذتي، لو أنّها ضمّت خطواتي الأولى للمدرسة في حي الشيخ مقصود مع عكاكيز الشوكولا التي كان يشتريها لي أخي الكبير في الطريق إلى المدرسة، ضحكاتي مع رفاقي وعائلتي، بكائي وخدوش ذاكرتي، صرخاتنا الأولى للحرية والثورة التي كنا نحلم بها في قصيدة رياض الصالح الحسين "اعتدت أن أنتظرك أيتها الثورة"، الثورة التي وهبتنا حينها الشجاعة أمام ملاحقة العسكر والأمن في المظاهرات، ذلك الحماس لكتابة اللافتات للمظاهرة الجديدة، ذلك الفرح الغامض بفكرة الحرية التي لم نكن نعرفها إلا من خلال القصائد والروايات، كيف ستستطيع حقيبة سفر صغيرة أن تحمل أرواح الأصدقاء وصخبهم ونزقهم للثورة بعد أن أخذتهم المعتقلات والمقابر.
لهذا.. الحقيبة لم تحتمل سوى تلك القطع الصغيرة التي أودعتها فيها لتؤنس غربة أعرفُ أنها ستطول كثيراً كالحرب التي خلفتها، وكان يجب أن أقطع الحدود، أن لا أنظر ورائي أبداً، أن أتجاوز الذاكرة وأبتعد قدر المستطاع عن صوت الموت الذي لم يتوقف لحظة في حلب، وليس بعيداً عنها في مسقط رأسي "كوباني".
الموت الكائن الوحيد الذي كان يتجول في تلك المدن، الهجران والأنقاض فقط كان يزدهر فيها، فصناعة الموت امتهنها الجميع، كلّ الأطراف دون استثناء بحيث استحال البقاء في بلد يأكل ذاته، ويقدّم مدنه قرابين للخراب، ذلك الخراب الذي لم أكن أعرف ماهيته تماماً حينما كتب شباب الثورة وتنسيقياتها عبارة من قصيدتي "أحبها تلك البلاد حتى في خرابها الأخير" على جدران حلب بداية عام ٢٠١٣، حتى شاهدتُ الدمار متراكماً كمشهد من فيلم عن الحرب العالمية وليس جزءاً من مدينتي، حينما مرّت سيارتنا المغادرة حلب بحي المعادي، بدت الأحياء بأبنيتها المتساقطة الواحدة فوق الآخرى كما لو كانت الأنقاض دعائماً تساند بعضها بعضاً، ذلك الخراب دفعني لأؤمن أنّ القصيدة أحياناً هي الرؤية المسبقة لما سنفقده للأبد.
الحكايات لا تروى إلا بعد أن يموت أصحابها، بحيث يكون بمقدورهم أن ينظروا من بعيدٍ لكل الألم الذي عاشوه بنوعٍ من السكينة التي لا يمتلكها إلا الموتى.
كيف يمكن للأحياء أن يسردوا وقائع الموت الرهيب الذي كان يتجوّل في معبر "بستان القصر" حينما كان عبور تلك الأمتار القليلة بين حلب الغربية وحلب الشرقية ضرباً من الانتحار الضروري للحياة، لتأمين الحد الأدنى من المعيشة للبقاء على قيد الحياة تحت سقف الحرب، كيف يمكن أن أروي اليوم بحياديةٍ عن الرجل الذي سقط ورائي برصاص القناص ونحن نعبر المعبر، وكان يمكن أن أكون أنا لا هو، لولا الرصاصة التي نحت بضع سنتيمترات لتستقر في ظهره لا ظهري! الموت عبثي بامتياز، أنا كنت لا مبالية به، في حين كان الرجل الذي ورائي يردّد الآيات لتنجيه من الموت، ويصل مع حقيبته المليئة بالخضروات إلى عائلته، لكن الموت اختاره وتفاداني مستخفاً من شجاعةٍ صبية تقطع طريق الموت من كوباني لحلب وحيدة ودون خوف، ذلك الطريق المحفوف بالحواجز العسكرية والدبابات والرصاص والطائرات التي كانت حين لا تجد هدفاً عسكرياً تضربه تتسلّى بإلقاء قنابلها على الباصات والسيارات المدنية.
الجثث التي كانت تبقى ملقاة على الأرض لأيامٍ حتى تنهشها الكلاب الجائعة دون أن تجد من يواريها التراب، من سيصدق بعد سنوات حين تنتهي الحرب أنّ المرء في سوريا كان يموت لأجل حقيبة خضروات لا حقيبة ألغام! كان الموت هو الند الوحيد في تلك الأيام الصعبة التي لم تنتهِ حتى هذه اللحظة ولذا كان يجب مجابهته، مقاومته باللامبالاة التي تناسب كلّ ذلك العبث الذي نال حياة السوريين موتاً ودماراً وأنقاضاً.
اليوم حين تروى الحكايات، تُهملُ التفاصيل الصغيرة، تُهملُ حيوات المهمشين، آلامهم، مقاومتهم اليومية للموت، رغبتهم في الحياة في مدينة كان الموت يتسيّد صباحاتها ولياليها، من كانوا يزرعون أصص الورد الجوري والياسمين بعد سقوط القدائف على شرفات منازلهم، الذين فقدوا كل شيء حتى البكاء، ورغمها كانوا يضحكون كالأطفال حين يخطئهم القصف مرة، الذين كانت لهم قصص حب نمت تحت ظل الحرب، وتجاوزت الكراهية المتفشية بين الأطراف المتقاتلة، فذهبوا مع حكاياتهم الصغيرة تحت الأنقاض.
من سيروي حكاياتهم حينما يموتون، من سيروي حكاياتنا التي بقيت تنمو هناك فيما غادرنا نحن للنجاة، حكاياتنا التي بقيت هناك معلقة بعنق الأمل، الأمل ببلادٍ لا ينبت القتلى في صباحاتها كالعشب.
(الصورة الرئيسية: لوحة للفنان محمد الويس. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك، والصورة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للفنان)