بات واضحاً أنّ المسألة السورية تتجه نحو حالة من اللاستقرار سيدوم طويلاً، حالة تجمع بين حل على المستوى السياسي يبقى فيه النظام بطريقة أو بأخرى، فيما تمسك المليشيات والقوى المسلحة على الأرض مناطقها، الأمر الذي يعني أنه لا سقوط النظام بات ممكناً، ولا التحرر من قوى الأمر الواقع بات ممكناً كذلك، إذ ستبقى الأخيرة ممسكة بمناطقها أو بما يترك لها ريثما يأخذ القطار السوري مساره، بكل ما يعني ذلك من أنّ العسكرة ستبقى جزءاً من يوميات السوريين لوقت طويل، حتى لو توقفت الحرب، أي سيبقى الوجود العسكري حاضراً في الشوراع والساحات العامة وعلى تماس مع حياة الناس اليومية، بحجج كثيرة أبرزها فرض الأمن، ومواجهة الإرهاب.
هذا الواقع "المعسكر" سيبقى على الأقل، طيلة الوقت الذي يحتاجه تمكن الحل المنزّل (أو الذي سينزّل قريباً) بالمظلة على المسألة السورية على أن يجد طريقاً أو سكة له على أرض الواقع، أي الزمن الذي يحتاجه هذا الحل ليجد نتائجه الملموسة على حياة الناس. وحين نقول حياة الناس، نعني الحد الأدنى من الحياة، أي المسكن والملبس والمأكل والأمان، دون أن نقارب مسائل الحريات التي لم يعد أحد يفكر فيها، وليست هي المعنية في الاتفاق الذي يجري العمل على ترويجه اليوم أو لاحقاً، وإن قال الاتفاق ذلك. إذ بات واضحاً أن سياقات المسألة السورية تتجه نحو جعل بند مكافحة الإرهاب هو البند الأول والوحيد، فيما تجيّر كل الملفات لخدمة الأول، الذي سيعمل النظام والقوى الداعمة له بتواطؤ أميركي وقوى أخرى تصنّف نفسها "صديقة" للشعب السوري لجعله دائماً وأبدياً، وذلك بالتواطؤ مع القوى الدولية والغربية التي باتت تفكر وتعمل جدياً وفق مقولة أن "السيء أفضل من الأسوأ"، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف أنّ هذا الكلام سيجد صداه في عدّة مسائل ذات علاقة بالمجتمع المدني السوري والنشطاء المدنيين، سواء من تبقى منهم في الداخل السوري أو دول الجوار، التي لن تُستثنى بعد اليوم من التجريف هي الأخرى. ولعل ما جرى من تضييق في تركيا على المنظمات السورية على خلفية الانقلاب ومسألة فتح الله غولين، وما يجري اليوم في لبنان من ممارسات عنصرية وتضييق على السوريين، يبين أن القادم أخطر.
إذن، استناداً لما سبق، يتوقع أن يواجه المجتمع المدني السوري مستقبلاً ثلاث تحديات أساسية:
أولها، أن يتعرّض لتضييق من حكومات دول الجوار، وذلك نزولاً عند منحى دولي إقليمي محلي، يعمل على لملمة تداعيات الربيع العربي وإجهاضه بشكل كامل، إذ يعمل المعسكر المضاد للثورات على إعادة الأمور إلى ما قبل عام 2011، وهو ما بات واضحا من عدّة مؤشرات، منها قرار القضاء المصري إطلاق سراح حسني مبارك من السجن بعد أن تمكن العسكر مجدداً من الإمساك بمقاليد الحكم، وانقلاب القصر المغربي على زعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران الذي كانت له اليد الطولى في إجهاض حركة عشرين فبراير المغربية والأزمة الخليجية وتداعياتها.. وغيرها من مؤشرات تدل على تمكّن معسكر الثورة المضادة من انتزاع المبادرة، وبات يعمل اليوم على إعادة ترتيب الساحات بما يجعلها خالية من أي نشاط مدني أو ثوري، بما يعني أن مؤسسات المجتمع المدني (والسورية منها) ستكون مستهدفة على امتداد المنطقة، أي أنّه قد لا تعمل في بيئات صديقة، ما يعني أنّ عليها البحث عن آليات وتصورات لما يمكن أن يكون عليه عملها في ظل سلطات تسعى لحصارها وتضيّق عليها، أو قد تعمل على تجيير عملها لمصلحتها بطريقة أو بأخرى.
ثاني التحديات، يتعلق بالعمل الدائم في ظل هيمنة العسكر والفصائل، سواء في مناطق النظام أو مناطق المعارضة. وإذا كان البعض يعتقد أن السنوات السبع قد حملت نوعاً من التعوّد على العمل في شروط العسكرة، فإن الأمر قد يكون مختلفاً في المستقبل، لأن توقف الحرب أو تراجعها، سيعني تفرّغ العسكر أكثر لفرض سيطرتهم، لأن ظروف الحرب والانشغال بها، فرضت عليهم جميعاً (معارضة ونظام) غض النظر عن الكثير من الأمور، بعضها بدواعي الحاجة (الاستفادة من الإغاثة والأموال) وبعضها بدواعي تقديم صورة جميلة للخارج، وهو الأمر الذي قد لا تكون هذه القوى بحاجة إليه بعد أن تكون تحددت التسوية وحصة كل منهم منها، الأمر الذي يعني أنهم "سيتفرغون" أكثر لهذه المنظمات وسيسعون أكثر لاحتوائها وربما الثأر ممن كان يزعجهم سابقاً، وتركوه يعمل لاعتبارات تحدثنا عنها.
ثالث تلك التحديات، يتعلق بأن أغلب تلك المنظمات تعتمد في تمويلها على المنح والمساعدات وبرامج الدعم من هذا الطرف أو ذاك. وغداً (وقد بدأ الأمر منذ اليوم أيضاً) ستتجه الكتل المالية نحو إعادة الإعمار، الأمر الذي يعني مواجهة مشكلة التمويل والاستدامة أو العودة إلى مسألة التطوع. ورغم أن لأمر كهذا فائدة، من حيث إنه سيريح الجسم المدني السوري من المنظمات التي ولدت لدواعي ربحية ضمن آليات الفساد التي تتوّسع في الحروب عموماً، فإن الأمر لا شكّ سيخلق مشكلة ستواجهها أغلب المنظمات السورية، ولن تفيد مسألة الاعتماد على العمل التطوعي وحدها للخروج منها، سيما أن الجميع منهك مادياً، خاصة من هم في الداخل السوري.
تلك تحديات ستفرض نفسها لاحقاً على المجتمع المدني السوري، وهي بدأت عموماً، ويمكن تلمسها من عدة مؤشرات: ما يحدث في لبنان اليوم من تضييق على اللاجئين على خلفية معركة عرسال هو مؤشر ورسالة للجميع، الصعوبات التي باتت تعتري التحويلات المالية الخاصة إلى سورية ودول جوارها، فهي تتجه من تضييق إلى تضييق أكبر تحت ستار مكافحة الإرهاب.. الأمر الذي يعني أن المجتمع المدني السوري سيكون عليه من الآن وصاعداً، البحث في آليات تكيفه مع الأوضاع الجديدة.
(الصورة الرئيسية: برشور دعائي لمؤسسة اليوم التالي ضمن حملة إعادة إحياء المجتمع المدني بتاريخ 2014-10-31. المصدر: اليوم التالي)