في الفترة بين 13-18 أيلول 2017، حضرت "حكاية ما انحكت" ورشة عمل في سراييفو في البوسنة والهرسك عن الصحافة الانتقالية بعنوان "مساهمة الصحفيين في استعادة السلام والمصالحة والتسامح في مجتمع ما بعد الحرب. قام بتنظيم هذه الورشة مؤسسة دعم الإعلام الدولي ورابطة الصحفيين البوسنيين-الهرسكيين، بحضور صحفيين سوريين وبوسنيين وعراقيين.
وكان من بين المتحدثين الضيوف في الورشة الدكتور غوران شيميتش، أستاذ القانون الجنائي والعدالة الانتقالية في جامعة سراييفو الدولية، وقد كان لـ"حكاية ما انحكت" هذا الحديث معه حول العدالة والمصالحة في مجتمعات ما بعد النزاع، بالإضافة لأوجه التشابه بين البوسنة وسوريا.
"حكاية ما انحكت": خلال المحاضرة التي قدمتها بدوت متشائماً فيما يتعلق بالمستقبل وتنبأت بعودة الحرب، لكنك بدوت متفائلاً على صعيد آخر حين قلت في نهاية المحاضرة إنك لو كنت متشائماً جداً لما بقيت في البوسنة بل في بلد آخر؟ لو تحدثنا عن مشاعرك وعن أسباب بقائك في سراييفو، ما الذي تسعى لتحقيقه؟
غوران شيميتش: لا أعتبر نفسي متشائماً أو متفائلاً. أفضل أن أقول إنني واقعي، وهو الأمر الضروري في مجتمعات ما بعد النزاع مثل البوسنة والهرسك. نحن بحاجة إلى التحليل الواقعي لجذور النزاعات وأسبابها وكيفية حلها. وبالعكس، العيش في فقاعة من الأكاذيب والأحلام والأوهام ليس الطريقة المثلى للوصول إلى أي حل.
بقاؤك يدفعني للسؤال عن دور المثقف والأكاديمي، هل تؤمن بهذا الدور وقدرته على التغيير؟ واستناداً إلى تجربتك وتجربة عدد من الزملاء الذين التقينا بهم، كيف تقيّم دوركم وقدرتكم على تحقيق التغيير؟
حسناً، أعتقد أنّ للمثقفين والأكاديميين في أي مجتمع، لا سيما في مجتمعات ما بعد النزاع، دوراً هائلاً، يفترض أن يكون هائلاً. المثقفون والأكاديميون هم صفوة المجتمع، وعليهم بالتالي المساهمة في إرشاده نحو الحلول التي يحتاجها.
للأسف ليس هذا هو الحال في البوسنة والهرسك. معظم الأكاديميين والمثقفين هنا هم جزء من المشكلة في الحقيقة، فقد فقدوا خلال الحرب ميزتهم، أي استقلالهم وموضوعيتهم، وصدورهم عن موقع يتيح لهم التحدث بحرية وبالمساهمة في الحلول. بعد انتهاء الحرب في البوسنة والهرسك كان معظم الأكاديميين والمثقفين مقرّبين من الطبقة الحاكمة، والتي هي واقع الأمر أصل البلاء.
التحدي الكبير الذي تواجهه مجتمعات ما بعد النزاع فيما يتعلق بالمثقفين والأكاديميين هو التعليم، الذي لا بد من النهوض به لإنشاء بناة السلام الجدد، أو بالأحرى "مقاتلي السلام". وإلا فقد ينتهي بك الحال كما انتهى بالبوسنة والهرسك اليوم، إذ تتم اليوم تنشئة الحاقدين الجدد وليس أي قادة أو "مقاتلي سلام" جدد.
بالعودة إلى مسألة الحرب، قلت في محاضرتك إن الحرب ستعود إلى البوسنة، فهل يمكن أن تقدم لنا الأسباب أو التحليل الذي يدفعك لقول ذلك؟
لم تتوقف الحرب في البوسنة والهرسك لأننا أردنا وقفها، أو لأننا نجحنا في حل المشكلة التي قادت لاندلاعها؛ لقد توقفنا عن قتل واغتصاب بعضنا البعض لأن هناك من أجبرنا على ذلك، لهذا بقيت المشكلة حتى بعد السلام. بهذا المعنى ربما الأدق القول إن "اتفاقية السلام" التي حققناها هي بالأحرى وقف إطلاق نار كلاسيكي، حيث تم تجميد النزاع المسلح في لحظة معينة. أما الحرب فمستمرة وتخاض بوسائل أخرى غير الرصاص والقصف، فنحن نستخدم الكتب والأفلام والتعليم والمنظمات الدينية.
هل تتابع ما يجري في سورية اليوم، وهل ترى تقاطعات وتشابهات مع ما مرت به بلادكم؟
للأسف أتابع أقل مما أرغب بمتابعته، لأسباب عديدة بعضها يتعلق بقلة المعلومات النوعية والموضوعية. لذلك أي شيء أشاهده في وسائل الإعلام أتعاطى معه بشيء من التردد. لكن نعم، هناك تشابهات مع ما نراه، أو رأيناه، في البوسنة ويوغوسلافيا السابقة. هذه مشكلات كامنة منذ فترة طويلة، لأن تصعيد النزاع إلى هذه الحدود القصوى لم يحدث فجأة بكل تأكيد. كذلك يمكننا تتبع الجرائم والفظائع الجماعية التي لا تزال بلا حل، ومن المستبعد للغاية أن يتم حلها في المستقبل.
ثمة تشابه آخر مع البوسنة يتعلق بالتهجير المهوّل لملايين الأشخاص الذين تم تشريدهم وطردهم من ديارهم.
وهكذا، فإن الوضع في سوريا أو في البوسنة، وكلاهما يصلحان لوصف ما يسمّى في علم الاجتماع "الحرب الجديدة"، يظهر السيناريو نفسه، حيث تشكل الأيديولوجيا مجرد غطاء للتقاتل على الأرض والمال والنفوذ السياسي وما إلى ذلك. في هذا السياق من الواضح أن المجتمع الدولي غير راغب أو غير قادر على منع أو حل مثل هذه المشكلات، فيما المجتمعات المحلية لا تريد حلها لأنها ترغب في تصفية حسابات تعود إلى قرون خلت.
هل كانت وسائل الإعلام الغربية تختزل النزاع اليوغوسلافي في بعده الطائفي مع تجاهل أبعاده الأخرى، كما يحدث اليوم مع سوريا؟
نعم كانت وسائل الإعلام الغربية تتكلم عن نزاع طائفي في البوسنة، وهو تقدير خاطئ باعتقادي. وقتها كانت نظرية صموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات ما تزال حية، لذلك كان ما يجري منسجماً مع الصورة. إلا أنّ الحرب التي جرت في البوسنة والهرسك، وتلك التي تجري الآن في سوريا، لم تكن حرب دين أو أية قضية "عليا"، بل كانت حرباً على الأرض والموارد والسلطة، ما كان يسميه النازيون "ليبنسراوم" (أماكن الإعاشة). كل ما تبقى مجرد غطاء يقدم للناس "العاديين" كي يتمكنوا بسهولة من "بلع" القصة.
الآن، بعد 25 عاماً على انتهاء الحرب، يمكنك أن ترى إلى أي حد كانت الجرائم الجماعية "استثماراً" ناجحاً، على الأقل في البوسنة والهرسك التي شهدت تطهيراً عرقياً لـ"الآخرين". بدلاً من اللوحة الفسيفسائية المتعددة الألوان التي كانت لدينا قبل الحرب، لدينا الآن ثلاثة مساحات صغيرة للغاية تسيطر عليها ثلاث مجموعات عرقية. هذا يكفي لتفسير الطابع المادي المذكور آنفاً للحرب، ناهيك عن تورط الدول المجاورة في النزاع.
لا يتعلق الأمر بطوائف أو إثنيات أو أديان، بل يتعلق بتمكين التعايش والتفاهم المتبادل بين أناس مختلفين وأفكار مختلفة. أعتقد أنّ هذا ينطبق على سوريا وعلى غيرها من بلدان العالم، بما في ذلك الشرق الأقصى، وهو يمثل تحدياً لنا جميعاً. فنحن، كحضارة، فشلنا في العثور على الإجابات الصحيحة لهذه المشاكل. حلولنا مؤقتة فقط، وسرعان ما يتجدد بعدها النزاع كل 20 أو 30 أو 50 سنة.
تركز الكثير من المنظمات الدولية العاملة في سوريا اليوم على المصالحة السياسية. هل كان هذا هو الحال في نهاية النزاع اليوغوسلافي؟ إذا كان الأمر كذلك، ما الدرس الذي يمكن تعلمه من جهود المصالحة هناك؟
حسنا أعتقد أن المنظمات المحلية والدولية (كما المجتمع المحلي والدولي) أبدت فشلاً ذريعاً في إيجاد حل لمجتمعات ما كان يسمى يوغوسلافيا. أحد أسباب ذلك هو أن المجتمع الدولي تحالف مع الشيطان بعد الحرب، أي وضع يده بيد مجرمي الحرب المعروفين. هناك مقولة شهيرة وبسيطة تقول إنه لا يمكن للذين هم جزء من المشكلة أن يكونوا جزءاً من الحل. لسوء الحظ، إذا نظرت إلى البوسنة والهرسك سترى أن الأحزاب السياسية التي جلبت الخراب على البلاد ما تزال تمسك بزمام الأمور. هل يمكنك أن تتخيل ما كان سيحدث في ألمانيا إذا فاز الحزب النازي في انتخابات 1945 (بعد الحرب) وانتخب أحد القادة النازيين مستشاراً أو رئيساً للوزراء؟ هذا بالضبط ما حدث هنا في البوسنة والهرسك، ويبدو لي أن سوريا تسير في اتجاه مماثل. كما يقول فيزيائي ألماني، للحصول على أفكار جديدة تحتاج إلى أشخاص جدد. وبالمثل، لإيجاد حل للبلدان التي مرت بحالة نزاع تحتاج إلى أفكار جديدة كلياً وأشخاص قادرين على بناء السلام والمصالحة.
لكن على النقيض من كل ذلك، نحن في البوسنة والهرسك نتصرف كما لو أننا في جنة اقتصادية منتعشة على طريقة الدانمارك أو النرويج، بينما يحرم من العدالة ملايين الناس، منهم ضحايا مباشرون للحرب ومنهم غير ذلك. لدينا هنا شعار سياسي أبله يقول "لا تنظر إلى الوراء، انظر فقط إلى المستقبل المشرق". ما هو المستقبل المشرق الذي ينتظر ملايين السوريين والبوسنيين، وما الذي يمكن أن يتوقعوه من ذلك المستقبل فيما حياتهم، وليس فقط منازلهم، مدمرة. المجتمع الدولي ببساطة لا يدرك أن المسألة في مجتمعات ما بعد النزاع لا تتعلق ببيت أو بقرة أو قطعة معدنية أو أي شيء. هناك حيوات تدمرت، ومن أجل إعادة بناء البلاد والمجتمع يجب الاستثمار في إعادة بناء حياة السكان. أنا لا أتحدث عن المترفين؛ هناك ملايين الأشخاص "العاديين" الذين يمكن رؤية الدمار الحقيقي الذي تتسبب به الحروب من خلالهم.
من ناحية أخرى، فإن المنظمات والحكومات والمجتمع الدولي لا يقومون بالاستثمار الكافي في إعادة بناء حياة الناس، فيتعاملون مع القادة السياسيين الذين قرروا أخيراً إظهار بعض الرحمة والإرادة السياسية. لكن لا أحد منهم مهتم بإعادة بناء حياة الأكثرية "العادية".
سمعنا جميعاً عن محاكمتي ملاديتش وكاراديتش، وهما من كبار مجرمي الحرب وكانوا مسؤولين عن مجازر عديدة بحق البوسنيين. ما هو أثر هذه التجارب على المجتمع البوسني؟ ففي سوريا بعد إعادة تأهيل نظام الأسد دولياً قد ينجو العديد من مجرمي الحرب من العقاب. هل المصالحة ممكنة من دون عدالة؟
أدت محاكمات جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، ولا سيما في البوسنة والهرسك، إلى تحقق العدالة لبعض الضحايا وللمجتمع ككل. لكن للأسف إذا كان لنا تقييم ذلك على مقياس بين صفر و100 فإنني سأختار درجة تتراوح بين 10 و20.
بطبيعة الحال هناك ضرورة للمحاكمات، والمحاكم الدولية والمحلية مكان مناسب جداً لإثبات الوقائع وليس فقط لإصدار أحكام سجن بحق أشخاص محددين. هذه مسألة ثانوية. الوقائع الراسخة هي ما يؤسس للحقيقة، وهي القاعدة الفعلية لإعادة بناء أي بلد.
ما يتوجب علينا وعلى المجتمع الدولي فهمه، في سوريا كما في أي مكان آخر، هو أن غاية المحاكم ليس تحقيق العدالة، بل تحديد المسؤوليات الجنائية الفردية وجمع الحقائق؛ هذا كل شيء. لا يمكن أن نتوقع من المحاكم صرف المعاشات التقاعدية أو إعادة بناء البيوت أو إطلاق برامج الدعم الاجتماعي والرعاية الصحية والنفسية للضحايا. هناك حاجة إلى حراك اجتماعي واسع لمعالجة هذه المشكلات، وفي نهاية المطاف ينبغي أن تقوم الدولة بمسؤولياتها حيال ذلك.
فيما يتعلق بإعادة تأهيل مجرمي الحرب، هذا خاطئ من ناحيتين: أولاً لأنه يقول للمجرمين "ما فعلتموه كان صحيحاً، لكن يرجى عدم تكراره في المستقبل ويمكنك متابعة حياتك بشكل طبيعي" وهي رسالة خاطئة للغاية، وثانياً لأنه يقول للضحايا "ما حدث كان مجرد صدفة، ومن سوء حظكم أنكم كنتم في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ" وهو أمر غير مقبول أيضاً لأن معظم الناس لن يتمكنوا أبداً من إعادة بناء حياتهم إذا بقي الحال كذلك.
في النهاية علينا أن نفهم أنه لا توجد مصالحة دون عدالة. لكن علينا أيضاً أن نفهم أن العدالة أوسع بكثير من استدعاء عشرين مجرم حرب إلى المحكمة ثم إرسالهم إلى السجن. حتى لو تمكنا من استدعاء المجرمين وإحالتهم إلى السجون، لن تتحقق العدالة هكذا. هذا الفهم المثالي للعدالة لا ينفع، فالضحايا والمجتمعات بحاجة إلى من يساعدهم بشكل يومي على استعادة حياتهم. هذا النوع من العدالة يحتاج إلى إعادة تشكيل وأنسنة لكي يتجاوز الفهم السطحي السائد.
هل من نصائح تقدمها للسوريين كي لا يكرروا أخطاءكم وكي يتفادوا الحرب مرة أخرى في المستقبل؟
إذا كان من نصيحة للسوريين فيما يتعلق بالمستقبل فهي: كونوا صادقين مع أنفسكم؛ كونوا مستعدين للبكاء والركوع أمام الذين عانوا بسببكم. وبالعكس، إذا كنتم تكذبون على أنفسكم بالقول إن كل شيء سيتم حله بالتفاؤل، سينتهي بكم الأمر حيث انتهى بيوغوسلافيا السابقة اليوم؛ فمنذ 150 سنة كانت أطول فترة سلام في بلادنا 46 سنة، في حين ما تزال الجرائم تعاود الظهور مرة كل 20 أو 30 أو 50 عاماً. ذلك أننا لم نحل أبداً المشكلات العميقة الكامنة وراء نزاعاتنا.
[الصورة الرئيسية: الدكتور غوران شيميتش يشارك في مؤتمر في المركز النرويجي لحقوق الإنسان بكلية الحقوق في جامعة أوسلو – 3-12-2016 (الجامعة الدولية في سراييفو/ الاستخدام العادل، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف)].