منذ أن خرجت العديد من المناطق والمحافظات عن سيطرة النظام السوري، والجدل مستمر حول إمكانية الحفاظ على مؤسسات الدولة، ومن بينها نظام التعليم العالي في سوريا، إذ يواجه عدداً من الصعوبات والتحديات المادية والسياسية التي تثقل كاهل الطلاب والكادر التدريسي على حد سواء.
في مطلع عام 2015 افتتحت الإدارة المدنية التابعة لهيئة تحرير الشام جامعة إدلب، غير أنها أعلنت استقلالها في شهر آب/ أغسطس من هذا العام، وانضمت لمجلس التعليم العالي الذي يعتبر نفسه مستقلاً أيضاً. في حين افتتحت الحكومة المؤقتة جامعة حلب الحرة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2015، ولديها عدّة فروع تتوزع في ريف حلب الشمالي والغربي وحمص والغوطة الشرقية والقنيطرة ودرعا.
تعتبر كل من جامعتي إدلب وحلب الحرة "حكوميتان"، إذ تتبعان للأجسام الإدارية والعسكرية التي حلّت محل مؤسسات النظام السوري.
كما توجد في المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة المعارضة عدة جامعات خاصة منها: جامعة ماري، وإيبلا، واكسفورد، والشام العالمية، بينما يوجد في الغوطة الشرقية أكاديمية مسار، وكلية الدعوة الإسلامية.
صعوبات مالية
بدأت حديثها وهي تستشهد بمقولة الإمام علي الشهيرة "لو كان الفقر رجلاً لقتله". هذا ما قالته صفاء (اسم مستعار) ذات الواحد وعشرين عاماً، من أبناء مدينة معرة النعمان، إذ عاشت فترة وجيزة في حلب عندما كانت طالبة سنة أولى بكلية العلوم.
أجبرتها الظروف الأمنية والعسكرية على ترك مقاعد الجامعة عام 2014 والانتظار ريثما تضع الحرب أوزارها، أو تجد مخرجاً لتوقفها عن الدراسة.
عندما تمّ افتتاح كلّ من جامعتي حلب الحرة وإدلب استبشرت صفاء خيراً بأنها ستتابع دراستها مجدداً، لكن ضيق حال عائلتها منعها من التسجيل، ودفع أقساط أي من الجامعتين، تقول: "هناك العشرات من أبناء المدينة يتململون من دفع هذه الأقساط ويعتبرونها فوق طاقتهم، في ظلّ انتشار البطالة وغلاء الأسعار وهبوط الليرة السورية.. أما بالنسبة للجامعات الخاصة فلم أفكر يوماً حتى بالذهاب إليها، والاستفسار عن التسجيل لأنني أعرف سلفاً أنه لا طاقة لي بأقساطها".
ترتفع أقساط الجامعات الخاصة مقارنة بالجامعات الحكومية، إذ يصل أجور الجامعات الخاصة إلى 1000$ سنوياً وما فوق، في حين تبلغ أقساط كلّ من جامعتي حلب الحرة وإدلب الحكوميتين ما يقارب 100-200$ حسب الاختصاص، وبالتالي ليس بمقدور جميع الطلاب الانتساب للجامعات الخاصة.
وتوضح الدكتورة سعاد (اسم مستعار) البالغة من العمر 35 عاماً، وتعمل ضمن الهيئة التدريسية في جامعة حلب الحرة، نوعية الفئة الطلابية التي تلجأ عادة للتسجيل فيها، وتقول: "عادة يسجل الطلاب أبناء العائلات الميسورة في الجامعات الخاصة، وفي حالات متعددة، وذلك عندما لا يسمح له تحصيله العلمي بالتسجيل في الجامعات العامة، أو سعياً منه لتحصيل الاعتراف بالشهادات حسب ما تدعيه هذه الجامعات من أن وثائقها معترف بها".
ريما (اسم مستعار)، عمرها 30 عاماً، أرملة، ولديها ثلاثة أطفال، تعيش في كفربطنا بالغوطة الشرقية، قرّرت بعد نجاحها في المرحلة الثانوية بمعدل 180 درجة من أصل 240 درجة، التسجيل بمعهد الرياضات في جامعة حلب الحرة، عوضاً عن دخول إحدى الكليات، حيث يبلغ قسط الكلية بجامعة حلب الحرة ما بين 100-200$ في حين يبلغ قسط المعهد المتوسط 50$ سنوياً. تقول:"فضلت التسجيل في المعهد، في سبيل توفير المال وإنفاقه على أولادي، سيما أنه لا يوجد لدي معيل يساعدني على تحمّل تكاليف أقساط الجامعة، في ظلّ الحصار الخانق".
بات موضوع فرض أقساط على الطلاب هاجساً ليس فقط لدى الطلاب أنفسهم، بل حتى لدى بعض أفراد الكادر التدريسي، ما دفعهم للبحث عن حلول، حسب ما تؤكده الدكتورة سعاد: "تّلقيت عدّة شكاوى من قبل الطلاب الذين ينوون الانسحاب من جامعة حلب الحرة لعجزهم عن دفع تكاليفها، ومن أجل ذلك تقدمت باقتراح لرئاسة الجامعة، يقضي بتشكيل صندوق خاص لدعم الطلاب المحتاجين، بما يحول دون تركهم لجامعاتهم بسبب الظروف المالية، وكذلك دون ارتفاع ظاهرة التسرب من التعليم".
من جهة أخرى، تعاني الجامعات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة من نقص في التمويل، يجعلها عاجزة عن تغطية كلفها التشغيلية، وهذا ما يدفعها لفرض أقساط على الطلاب، لكنها في الوقت نفسه تحاول أن تضع معايير تخفّف من عبئها حسب الظروف والإمكانيات.
ويؤكد وزير التعليم العالي في الحكومة المؤقتة، الدكتور عبد العزيز الدغيم لـ "حكاية ما انحكت" أنّه حتى اليوم لا يتوفر دعم يشمل كافة الكلف التشغيلية، حيث غطّت منظمة "تعليم بلا حدود – مداد" السورية العام الماضي ما يقارب 56-70% من تكاليف الجامعة، كما تكفلت منظمة "سبارك" الهولندية بتغطية تكاليف كلية الهندسة الزراعية والتمريض في درعا، وتمّ هذا العام التنسيق مع منظمة الجمعية السورية الطبية الأمريكية "Sams"/ لتغطية تكاليف المعاهد والجامعات الطبية، بينما تضطر الجامعة لاستكمال باقي النفقات، بالاعتماد على الأقساط، في ظلّ واقع فرضه النظام حال دون وجود اعتماد رسمي، ووزارة مالية تابعة للحكومة. و"تعتمد جامعة حلب الحرة معياراً خاصاً لمراعاة ظروف طلابها في المناطق المحاصرة، من أجل ذلك تمّ تخفيض أقساط الجامعة للنصف في تلك المناطق"، حسب قوله.
كذلك الأمر بالنسبة لجامعة إدلب، حيث تواجه ذات المشكلة في نقص التمويل واعتمادها على التمويل الذاتي في سبيل تغطية مصاريفها، من أجل ذلك اتبعت إجراءات تراعي وضع الطلاب في حالات خاصة. يقول رئيس مكتب العلاقات العامة في جامعة إدلب، عصام الخليف لـ "حكاية ما انحكت": "تتبع جامعة إدلب نظام الحسم في حالات معينة، فمثلاً في حال سجل أخوان اثنان في الجامعة فلهما حسم بمقدار 30%، و40% في حال كانوا ثلاثة إخوة، و50% لأربعة إخوة وما فوق، كما يعفى الطلاب ذوو الاحتياجات الخاصة من الدفع تماماً".
بالإضافة لارتفاع الأقساط، يعاني الطلاب والكادر التدريسي على السواء عدداً من التحديات الأخرى التي تعيق مسار التعليم، حسب ما يؤكده عميد كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة الدكتور إسماعيل الخلفان، إذ يقول:
"توجد صعوبة في تأمين المراجع العلمية والكتب الجامعية لأغلب الفروع، وصعوبة في تجهيز مخابر الكليات العلمية بالشكل المطلوب، بسبب عدم توافر الكثير من المواد وضعف التمويل، وعدم وجود سكن خاص بالطلاب، خاصةً في الكليات العلمية التي تحتاج إلى دوام يومي، فضلاً عن قلّة الكفاءات من حملة الشهادات العليا المؤهلين للتدريس في الجامعات بسبب هجرة أغلبهم خارج البلاد".
عدم الاعتراف الدولي
راميا محمد، 20 عاماً، تقيم في مدينة سراقب، تركت دراستها في جامعة حلب التابعة للنظام للسوري، حيث كانت تدرس الرياضيات، بسبب تعقد الظروف الأمنية، ومنعها من العودة إلى حلب.
لم تفرح كثيراً حسب تعبيرها عندما تم افتتاح الجامعات، فهي لا تريد أن تدرس وتتعب في تحصيل الشهادة العلمية، وفي نهاية المطاف يضيع تعبها أدراج الرياح، بسبب عدم وجود أي اعتراف رسمي حتى الآن بالوثائق التي تصدرها الجامعات العامة في إدلب.
وترى أن إدلب اليوم تقف "على كف عفريت"، وتتساءل عن مستقبل إدلب في ظلّ تزاحم الدول للسيطرة عليها، ومن يدري ما سيؤول إليه مستقبل التعليم، والجامعات التي لم تستطع حتى الآن الحصول على وثائق رسمية معترف بها!
وعلى الرغم من عدم قدرة الجامعات على تحصيل اعتراف رسمي بوثائقها، غير أنها لاقت قبولاً من قبل بعض الطلاب، ومنهم ريما، التي ترى أنه بالرغم من الإحباط الذي يسبّبه عدم الاعتراف بالشهادات التي تصدرها الجامعات العامة، إلا أنّها مصمّمة على استكمال تعليمها، فهي بحاجة للشهادة العلمية من أجل العمل في الغوطة الشرقية، والتي لا تتطلب اعترافاً دولياً على حدّ قولها، إذ يكفيها الحصول على الدرجة العلمية، من أجل كسب لقمة العيش، والإنفاق على أولادها، كما ترى أنها تحتاج لطلب العلم في سبيل تعليمهم.
تسعى الجامعات اليوم في المناطق المسيطر عليها من قبل المعارضة لتحصيل اعتراف رسمي بوثائقها، على الرغم من أنّ الأمر يبقى مرهوناً بشكل أو بآخر بالاعتراف السياسي بأجسام المعارضة. ويؤكد الدكتور الدغيم أنّ الجهود المبذولة تسير على قدم وساق في سبيل تحصيل الاعتراف بالوثائق الرسمية لجامعة حلب الحرة، إذ باتت تتبع المعايير العلمية، كتدريس المواد والمناهج العلمية التي كانت تدرس في الجامعات التابعة للنظام السوري، باستثناء بعض المواد كمادة القومية، واعتمادها الكادر التدريسي الذي كان يدرس سابقاً في جامعات النظام، بالإضافة لقيام المتخصصين بوضع خطط مدروسة، بهدف تطوير أداء الجامعة.
ويتابع الدكتور الدغيم: "تم الاجتماع منذ فترة مع مجلس التعليم العالي التركي في العاصمة التركية أنقرة، بهدف التنسيق معه، والعمل على اعتماد وثائق تصدرها جامعة حلب الحرة، وقدمنا تقريراً بعمل الجامعة وجهودها، ونأمل أن يتم الاعتراف بوثائقها، ما يفتح الباب أمامها للاعتراف من قبل الجامعات التركية".
أما جامعة إدلب فقد أعلنت استقلالها (على الاقل رسمياً) عن أيّة إدارة عسكرية وسياسية، وكذلك عن الإدارة المدنية، التابعة لهيئة تحرير الشام، في سبيل الحصول على اعترف رسمي ودعم مالي، وفق ما أكده نائب رئيس جامعة إدلب للشؤون الإدارية، والعضو السابق في مجلس التعليم العالي الدكتور فراس علوش لـ "حكاية ما انحكت": "أعلنت جامعة إدلب استقلالها من خلال بيان أصدرته بتاريخ 7 آب/أغسطس 2017، وانضمت إلى مجلس التعليم العالي، ما يمثل خطوة في سبيل إزالة العقبات التي تواجهها، وعلى رأسها عدم الاعتراف بوثائقها بحجة أنه مسيطر عليها من قبل الفصائل العسكرية". كما تم تشكيل لجنة تتبع لمجلس التعليم العالي من أجل متابعة سير التعليم فيها، وتقييمها، وإغلاقها في حال لم تلتزم بالمعايير العلمية.
تكاثرت الدلائل الإعلامية على علاقة الجامعة بالفصائل العسكرية، حتى قبل سيطرة هيئة تحرير الشام على إدارة مدينة إدلب بشكل كامل في تموز 2017، وتجسدت من خلال الصراع الأخير الذي نشب بين كل من جامعتي حلب الحرة وإدلب، وأدى لأن تستعين إدارة جامعة إدلب بالعناصر التابعة لتحرير الشام، وذلك عندما أصدرت جامعة حلب مفاضلة خاصة بها في أيلول لهذا العام، ما أدى لأن تستولي عناصر هذا الفصيل على مراكز المفاضلة التابعة لجامعة حلب في مدينة الدانا بريف إدلب.
بالإضافة لما سبق، يوجد عدد من التحديات التي تعيق العملية التعليمية، منها القصف الجوي المتواصل، كما أدى الصراع المتكرّر بين الفصائل العسكرية سواء في الجنوب أو الشمال، إلى إغلاق الطرق المؤدية إلى الجامعات.
دور منظمات المجتمع المدني في دعم عملية التعليم
عملت العديد من منظمات المجتمع المدني على دعم عملية التعليم في سوريا، وعلى ما يبدو، فإن الدعم ما زال خجولاً، لا يغني ولا يسمن، وإلا لما تُرك الطلاب فريسةً لأقساط الجامعات، وتحديداً الخاصة منها.
من جهة أخرى، سعت العديد من منظمات المجتمع المدني إلى سد الثغرات ضمن العملية التعليمية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، سيما تلك التي تعمل على دعم النساء، حيث أثقل الواقع السوري المتجسد في سيطرة الكتائب المتشددة والحصار المجتمعي كاهلهن، ودخول النساء إلى المجال العام نتيجة الثورة وضغط الظروف المادية.
وتعتبر منظمة النساء الآن من أجل التنمية، من المنظمات المحلية الداعمة للمرأة السورية، إذ تعمل من خلال مراكزها على تمكين النساء في مجالات متعددة، وتمتلك خمسة مراكز في سوريا، ثلاثة منها في الغوطة الشرقية، ومركزان في محافظة إدلب.
تتكفل منظمة النساء الآن بتدريب النساء والفتيات على عدد من المواد التدريبية، التي تساعد على بناء قدراتهن المهنية، وتؤكد مديرة مركز النساء الآن في معرة النعمان “مزنة الجندي”، أنّ برنامج القيادات بات يغطي شروط التوظيف التي تطلبها عادة المنظمات والمؤسسات، من خلال تطوير مناهجه، واتباع أساليب تدريبية علمية.
وترى الجندي أنه كثيراً ما تلجأ النساء إلى مراكز النساء الآن في سبيل التعلم، عوضاً عن الذهاب إلى الجامعات، بسبب وجود ظروف تمعنهن من ذلك منها: عدم قدرتهن على دفع أقساط الجامعات أو صعوبة التنقل في ظل الظروف الأمنية والعسكرية، بالإضافة لتخوف العديدات من الالتحاق بالجامعات بسبب عدم وجود اعتراف رسمي بوثائقها، وتتابع: "عادةً ننصح النساء باستكمال التعليم في الجامعة، ولكن عندما ترفض المرأة أو لا يكون بمقدورها الذهاب إلى جامعة، نوجهها لخوض التدريب في المجالات التي تلاءم إمكانياتها العلمية واحتياجاتها وتطلعاتها، بما يساعدها على بناء قدرتها في سبيل الحصول على عمل ضمن منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات".
لم يعد مفاجئاً سعي البعض للالتحاق بالورش التدريبية عوضاً عن التسجيل في الجامعات سواء الحكومية او الخاصة، وذلك نظراً لصعوبة تحمل دفع أقساط الدراسة، وعدم الاعتراف بالشهادات الجامعية، وسيبقى الأمر كذلك ما لم تتكاتف الجهود في سبيل الضغط لتحصيل على الاعتماد الرسمي الدولي، والدعم الكافي لخفض رسوم الجامعات.
(الصورة الرئيسية: طالبات في جامعة إدلب بتاريخ 13 سبتمبر 2017. المصدر: الصفحة الرسمية للجامعة على الفيسبوك. والصورة تستخدم بموجب سياسة الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)