رنّ هاتف البيت في الساعة الثانية ظهراً، قالت لي امرأة ما على الجانب الآخر إنّ طفلاً ما كُسرت يده في حادثة سيارة على الشارع العام، وهي تعتقد أنّ الطفل هو أخي الصغير نوّار. قلت ذلك لجدتي التي كانت تحضّر طعام الإفطار، كان الوقت صياماً. قالت لي: اذهب واشترِ بعض الفول ليزيّن مائدة الإفطار، مثل كلّ يوم، وفي طريقك استطلع النبأ.
ذهبت إلى مكان الحادثة ولم أرَ شيئاً. قلت لجدتي وعميّ، المتواجدان في البيت وقتئذٍ: لم أجد شيئاً يثير الانتباه. رنّ الهاتف مرّة أخرى، قالت المرأة نفسها إنّ نوّار متواجد في مستشفى ابن النفيس القريب من بيتنا الملاصق للجبل الدمشقي العتيق. التاريخ هو السادس من رمضان الموافق لليوم التاسع من شهر تشرين الأول سنة ٢٠٠٥ ونوّار يبلغ من العمر أحد عشر عاماً وأربعة عشرة يوماً. ذهبت جدتي وعمي إلى مستشفى ابن النفيس بسرعة وبقيتُ أنا في البيت محاولاً الاتصال بوالدي الطبيب في مستشفى العباسيين. لم أكن أملك حينها هاتفاً محمولاً. بعد عدّة محاولات استطعتُ إخباره باكياً بوجود نوّار في المستشفى.
لم أجد محفظة نقودي حينها، لم أرَها وعيناي مغشيّتان بالدمع. لم أستطعْ استئجار سيارة من أجل الوصول إلى المستشفى بشكل أسرع. قطعتُ المسافة ركضاً. وصلت إلى الباحة الأماميّة للمستشفى. سيارة مليئة بالجنود المُتأهبين تنتظر وهذا منظر غريب هنا. جدتي بثيابها الكرديّة المميزة تبكي وتندب والناس متحلقون حولها. سألتها: أين نوار. قالت إنّها، لا تعرف، عمي في الداخل يسأل عنه. خرج عمي بعد دقائق من الداخل وعيناه مليئتان بالدموع. قال إنّ نوّار في العناية المشدّدة وهو بخير. كان يكذب. وصل عميّ الآخر. وشوَشَهُ عمي، الذي يعرف، بشيء ما. لم يحرك ساكناً. لاحقاً عرفنا أنّهم قالوا لعمي إنّ نوار في ثلاجة المستشفى وقد فارق الحياة فور اصطدام السيارة به، وأرادوا منه تأكيد عودة الجثة إلى نوّار، فلم يتجرأ عمي على رؤية الجسد المسجى على الطاولة الحديدية. طلب من أخيه الآخر فعل ذلك فلم يتجرأ كذلك. كانوا ينتظرون قدوم والدي؛ "أبو الطفل الميت".
وصل أبي بعد دقائق بدت طويلة لنا. قبل وصوله كان أهل الحارة يصلون تباعاً. وصل جدي السبعيني. وصل شباب الحارة المستعدون للمساعدة. لسبب ما بقي مجهولاً توجّه سائق التكسي التي تقلّ أبي إلى مدخل برادات الموتى البعيد مسافة خمسين متراً عن مدخل الإسعاف حيث كنّا جميعاً. لم ننتبه لوصول الأب حتى اللحظة التي سمعنا فيها صرخته التي شقّت السماء. كان قد رأى وجه ابنه.
كنت جالساً مع جدي وجدتي على كرسي خشبي وسط الباحة المُشجّرة. أتى عمي الكبير وقال بهدوء يُحسد عليه: فليرحمه الله. اتجه أبي نحونا وهو محاط برجال نعرف بعضَهم ولا نعرف معظمهم. كان يبكي. عندما رآني احتضنني بقوة وصرنا نبكي سويّة. كان يهمس في أذني: نوّار مات يا بابا نوّار مات.
امتلَأت باحة المستشفى بالرجال. طلب أعمامي مني الذهاب مع جدي وجدتي إلى البيت والانتظار هناك. في الشارع أمام البيت سألني أحد الأطفال الصغار وهو يضحك ويقفز: لماذا تبكي؟ صفعته وأكملت الصعود إلى بيتنا في الطابق الثالث غاضباً باكياً. نادم أنا اليوم على تلك الصفعة. أغلقت على نفسي باب الغرفة وصرت أبكي. كان الجيران يتوافدون على البيت تباعاً ويحاولون إخراجي من الغرفة دون جدوى. جربت أن أصلي. لا أعرف كيف أصلي. كنت أبكي وأبكي وأبكي إلى أن أثقل الدمع جفوني فغفوت.
أيقظني أخي الذي يكبرني بأربع سنوات بعد ساعات قليلة. عرفت أنّه ذهب إلى المستشفى أولاً وكان كالمجنون هناك. أرسلَه أبي إلى البيت ريثما ينهي هو استكمال أوراق الوفاة القانونية. في وقت الإفطار أخذونا إلى بيت جيراننا في الطابق الثاني. لم يكن في بيتنا طعام، هناك تناولنا بضع لقيمات لكن معظمنا لم يأكل.
بعد الإفطار امتلَأ بيتنا الكبير بعشرات الأصدقاء والجيران والأحباب. أذكر تفاصيل ذلك اليوم كحلم بعيد. جدتي وقعت مغمياً عليها. جدي عرف بأنّ أخي يدخن ولم يفعل شيئاً سوى أن أخذ منه سيجارة ليدخّنا سويّة. أبي واقفٌ كجبل يتلقى العزاء. أنا وأخي وعمي الصغير نحضّر القهوة المرّة لتقديمها للمعزين. وصل شرطيان ليتأكدا من أقوال أبي. لم أفهم ما حدث فشرح أبي الأمر لاحقاً: السيارة التي دهست نوّار كانت سيارة نقل جنود عسكريّة، لذلك كان عناصر من الشرطة والجيش في المستشفى متأهبين، كانوا يخافون أن تحصل مشكلة كبيرة لأنّ القتيل هو طفل كردي والقاتل هو جندي في الجيش. سألوا والدي في المستشفى إن كان يريد رفع دعوة قضائيّة فأجاب بالنفي وبأنّ الأمر كلّه قضاء وقدر بعد أن عرف بتفاصيل الحادث.
تفاصيل الحادث تقول: كان أخي الصغير ورفاقه يرغبون في الذهاب إلى الحديقة العامة، التي تقع بمحاذاة الشارع الرئيسي، من أجل لعب كرة القدم. كانت الكرة مع نوّار. لسبب ما تدحرجت الكرة أرضاً في الشارع المنحدر الواصل إلى الشارع الرئيسي. ركض نوار لاحقاً بالكرة التي توقفت في منتصف الشارع فدهسته سيارة الجيش الكبيرة غير المجهزة بمكابح قادرة على التوقف فوراً. نزل السائق وحمل نوّار الذي مات من فوره وصار يركض ويصيح كالمجنون دون أن يعرف ما الذي يتوجب عليه فعله. بعض المارة وأصحاب المحال التجارية أوقفوا سيارة أجرة ووضعوه مع نوّار فيها ليتوجهوا نحو المستشفى القريب. هناك وضعوا الطفل الصغير في براد المستشفى والجندي السائق في السجن الخاص بمركز شرطة المستشفى.
لتكتمل مأساة ذلك اليوم مات السائق بسكتة قلبية. لم يره أحد منّا ولم نعرفه. والده وأخوه اتصلوا بأبي وطلبوا زيارته بعد شهر. رفض أبي استقبالهم في البيت وقابلهم في قهوة الروضة. كانوا يريدون دفع ديّة الميت لأنّ ابنهم قتل ابننا. رفض أبي وقال: كان قضاء وقدر، مات ابني ومات ابنك ونحن في الحزن سواء. لم يستقبلهم أبي في البيت ولم يقل لنا أسماءهم ولا حتى اسم القرية التي أتوا منها. قال: لا أعرف ما سيحدث في المستقبل، لا أريد لأولادي أن يفكروا بالثأر أو أن يقولوا ذات يوم هؤلاء الناس قتلوا أخونا أو أن يقولوا هذه قرية قاتل نوّار. كان أبي حكيماً في ذلك الموقف.
أمي لم تكن في الصورة حتى الآن. كانت حينها في العراق تزور مدينتها وأهلها. يوم الحادث اتصل والدي بزوج أختها وطلب منه إرسال أمي بسيارة خاصة من فوره دون أن يقول لها شيئاً، وهذا ما حدث. كنت وأخي وصديقه ننتظر أمي عند باب المبنى حين جاء أصدقاء نوار من المدرسة. سألوني: "صحيح ما سمعنا". "صحيح" قلت لهم. سألني آخر: "أين نوّار". أجبته بغباء دون أن أمهد الأمر لهم "نوّار مات". بكى هؤلاء الأطفال صديقهم بحرقة. وصلت أمي بعد الظهر فاستقبلها طفل صغير من أولاد الحارة قائلاً: "خالة خالة خالة… نوّار مات". سقطت أمي أرضاً.
أقيم عزاء نوّار في البيت المقابل لبيتنا عند أحد الجيران الذي قال لأبي: "أنت متل ابني ونوّار كأنّه واحد من أحفادي، العزا ما بيصير غير عندي بالبيت". وهكذا كان. أولاد الحارة اهتموا بكلّ شيء من التحضير إلى تقديم القهوة إلى ما يطرأ من أمور أثناء أيام العزاء وصولاً إلى مواساتنا. كانوا عائلتنا الكبيرة.
مضى أكثر من اثني عشر عاماً على رحيل نوّار لكنه ما زال كالطيف الجميل يزورنا كلّ حين. بقي نوّار جميلاً مثلما كان. لم تتغير صورته مع تغير السنين. بقي كما هو، حلواً كقطعة سكراً، دافئاً مثل كأس من الشاي في ليلة باردة. بقي نوّار في ذاكرتي مثلما كان؛ نلعب سويّة ونتعارك ونشاهد كرة القدم ونشجّع البرازيل سويّة. بقي هكذا مفتتحاً قائمة القبور التي أزرعها في قلبي.
في عيد ميلاد نوار الثالث والعشرين، بعد رحيله باثني عشر عاماً، كتبت أُمّي، أمّه، وهي الشاعرة العراقيّة خديجة السعدي على صفحتها الشخصية في موقع فيسبوك قصيدة صغيرة تقول:
نوّار:
برعمٌ اغتاله الموت فجأة.
وأنا في منفاي البعيد أُسائلُ الترابَ عن جسدِكَ
والخريفَ عن جهاتِ الريح.
أسائلُ الروحَ عن صمتِ الأمواتِ
وصمتُ نوّار رهيب!
(الصورة الرئيسية: نوار يوسف، طفل سوري ذهب ضحية حادث سير، وهو أخ الكاتب دلير يوسف، كاتب هذا النص/ تنشر الصورة بإذن خاص/ خاص حكاية ما انحكت)