في الأيام الأولى لدخول الجيش السوري وحلفائه إلى مدينة دير الزور وصلت إلى السجن المدني في مدينة اللاذقية إشاعات ضخمة تناقلها السجناء وسجّانوهم، حملت آمالاً كبيرة بقرب صدور عفو رئاسي عن المساجين، ولكنها حملت معها أيضاً مخاوف حقيقية من إحضار نزلاء مدنيين جدد من دير الزور تحت مسمى "الإرهاب أو الشغب" وزيادة ازدحام المكان المزدحم أصلاً.
مصدر الخوف هو أنه مع كل عملية دخول للجيش السوري لمدينة أو قرية على يد الجيش أو حلفائه تقوم الجهات الأمنية السورية الكثيرة (الأمن السياسي والعسكري والمخابرات وأمن الدولة وغيرها) بحملات دهم وتفتيش واعتقال لعشرات المقيمين ضمن هذه المناطق التي يسيطر عليها بتهم متنوعة وتسوقهم إلى أفرعها للتحقيق معهم، بالطبع آخر من يعلم بالاعتقال أهالي المعتقلين.
معتقلون بالجملة عشوائياً
"قضيتُ مع فرع أمن الدولة خمس سنوات متطوعاً، تنقلنا فيها عبر معارك دمشق وريف اللاذقية وحمص وكنتُ من اكتشف الأنفاق التي حفرها المسلحون باتجاه مبنى فرعنا في حلب وكافأني رئيس الفرع وقتها بمبلغ 400 ألف ليرة سورية (800 دولار) مع شهادة تقدير. أصبت في المعارك عدّة مرات وقضيت شهوراً في المشافي، ولدي شهادات تقدير من الحزب (حزب البعث) ومن العقيد سهيل الحسن. عندما عدنا إلى حينا (حي الصالحين في حلب) بعد خروج المسلحين منه تم اعتقالي أنا وعدد من أقربائي بتهمة التعامل مع المسلحين، ورغم إبرازي كل شهادات التقدير وأماكن إصابتي إلا أن المحقق في فرع الأمن السياسي مزّقها كلها وقال لي: عائلتكن فيها كثير مسلحين ولازم تنحبسوا كلكن".
يقضي صاحب هذا الكلام، وهو يعمل بالأصل سائق سرفيس في مدينة حلب، شهره التاسع في السجن المدني في اللاذقية رهن التحقيق بعد أن قضى مثلها في الفروع الأمنية متنقلاً بين سجون وفروع الأمن من حلب إلى دمشق فحمص ثم اللاذقية حيث يحاكم بتهمة "التعامل مع المسلحين" التي تحتمل عشرات التأويلات ولكل قصة منها عقوبتها الخاصة التي قد تمتد لعشرات السنوات وفقاً لقانون الإرهاب رقم 19 الصادر عام 2012.
ليست قصة محمد تطلي، 25 عاماً (والاسم مستعار) هي الوحيدة التي يتداولها نزلاء سجن اللاذقية المدني بشأن معتقلي "الإرهاب"، فهناك 1052 معتقلاً من أصل 1853 سجيناً في السجن المدني (من مصادر داخل السجن المدني) تحت مسمى الإرهاب أو الشغب أحضروا إليه بسبب ازدحام السجون الشديد مثل حلب والقابون وعدرا (قرب دمشق حيث يفترض إيداعهم كأمانات مؤقتاً) حيث تم تقدير عددهم بين 50 - 70 ألفاً (موزعون على مختلف السجون السورية) علماً أن مصادر محلية تؤكد أن عدد نزلاء سجن عدرا لوحده يقترب من عشرة آلاف سجين، ثلاثة أرباعهم من معتقلي الإرهاب.
رحلات استجمام بين المحافظات
يتم تحويل المعتقلين إلى محكمة الإرهاب بدمشق بعد رحلة طويلة في الفروع الأمنية لا تقل وسطياً عن تسعة أشهر، والأمر خاضع للتحقيق ولكمية الاتهامات التي توّجه للمعتقل ولمزاج المحقق، إضافة إلى ازدحام هذه الفروع بسبب هذه القضايا وغيرها، وبالطبع تلعب الواسطات والرشاوى دورها الكبير هنا، فمن الممكن أن يقضي المعتقل شهوراَ في التوقيف دون أن يسأله أحد عن سبب اعتقاله، ولا فائدة من وجود محامين لأي معتقل طالما أنه في ذمة الأجهزة الأمنية، "كان لدي محام وكّله أخي، رفضوا إدخاله إلى الفرع رغم أنه كان يحمل ورقة من النائب العام تسمح بمقابلتي، إلا أنّ المحقق أخبره أن التحقيق معي لم ينته بعد وبالتالي لا يمكنه رؤيتي" يتحدث عبد القادر قنديل (46 عاماً) (الاسم مستعار) الذي يحاكم حالياً من سجن اللاذقية.
دفع عبد القادر المتهم بالوقوف مع المسلحين على حاجز لهم، مبلغاً وصل إلى مليون ليرة سورية (2000 دولار) للمحامي عبر أخيه المقيم خارج البلاد كي يتم تسريع التحقيق في فرع الأمن السياسي في حلب والتحويل إلى محكمة الإرهاب بدمشق: "لولا أخي لم أخرج بعد من الفرع، هناك العشرات ممن سجنوا قبلي وبعدي ما يزالون في الأقبية وسط ظروف قاسية للغاية أهونها سوء الطعام والمعاملة وصولاً إلى التعذيب اليومي الذي لم تتغير فنونه حتى اليوم".
سيضطر عبد القادر إلى دفع المزيد من المال للمحامي كي يتمكن من الحصول على "إخلاء سبيل" أي الخروج تحت محكمة، يقول: "طلب المحامي مبلغ مليون ليرة ونصف (3000 دولار) لدفعها لقاضي التحقيق في دمشق للحصول على إخلاء سبيل، وإلى اليوم لم أتمكن من دفعها، بالنسبة لي ولتهمتي (وهي الوقوف على حاجز للمسلحين) يعتبر المبلغ ضئيلاً فقد طلب المحامي من جاري في المهجع (غرفة في السجن) مبلغ ثلاثة ملايين لأن تهمته التخابر مع المسلحين".
تتميز إجراءات محكمة الإرهاب بطول مدة المحاكمة وهي لا تقل عن عام يقضيه المعتقل رهن التحقيق في السجون المدنية، إذ إن وجودها في العاصمة ووجود المعتقلين في محافظات أخرى يجعل المحاكمات تجري ببطء شديد حيث يتم إبلاغ المعتقلين بموعد جلستهم أمام القاضي وينقلون حصرياً يوم السبت إلى سجن عدرا بدمشق (أو القابون) منتصف الليل بعد تقييدهم بالجنازير في القدمين واليدين في سيارات نقل محكمة الإغلاق عبر الشرطة العسكرية التي تتولى المهمة بالتعاون مع الأمن الجنائي أو عناصر السجن المدني من الشرطة.
ولكن ما هو هذا الإرهاب؟
يحاكم جميع هؤلاء المساجين المعتقلين تحت مسمى الإرهاب أو الشغب في محكمة الإرهاب بدمشق التي تقع في مبنى وزارة العدل على أوتوستراد المزة، وليس للمحكمة فروع في المحافظات الأخرى، وتتألف من سبع غرف قضائية وخمسة قضاة تترأسهم القاضية "زاهرة بشمان" التي شغلت منصب رئيسة محكمة الجنايات الثانية في العاصمة، وتعتبر أول امرأة تكلف بمنصب رئيسة محكمة الإرهاب في سوريا، وهذه المحكمة هي الوريثة الرسمية لمحكمة قضايا أمن الدولة الشهيرة التي وقف خلفها عشرات المعارضين السوريين سابقاً وتوقف عملها بعد إلغاء قانون الطوارئ عام 2011.
تهم الإرهاب التي يحاكم بها هؤلاء المدنيين تتعدد أسبابها وتتشعب، ولكنها جميعها تنطلق من تخوين الآخر السوري ممن لم ينضم إلى الجماعات المؤيدة للنظام أو لم يتدخل بالشأن العام أو ممن لم يغادر مناطق سيطرة المعارضة المسلحة أسوةً بغيره متحولاً إلى نازح تاركاً منزله وحارته للتعفيش، أو ممن تعامل مع النظام وأجهزته إلا أن له أقرباء ومعارف بين المسلحين.
أبرز التهم الرسمية: تمويل الأعمال الإرهابية والمشاركة فيها وتشكيل جماعات مسلحة والتعامل مع المسلحين والتستر عليهم..، وتستند غالبية التهم على الضبوط الأمنية التي تنتزع تحت التعذيب. إن الرواية الوحيدة المعتمدة لدى القضاة هي رواية تلك الأجهزة ولا يعتد برواية المتهم إلا فيما ندر.
من التهم ما هو بسيط كالتظاهر، ومنها الأكثر خطورة إذ يكفي أن يكون الشخص قد قضى وقتاً تحت سلطة هذه الجماعات المسلحة وفرض عليه تحت قوة السلاح التعامل معهم (كحال عبد القادر الذي كان يعمل فراناً في حي القلعة بحلب) ليتعرض للاعتقال. كما تتسبّب المكالمات الهاتفية التي تحتوي على معلومات تفيد "بتعاون" الشخص مع "الجماعات المسلحة" بالاعتقال أيضاً، وقد لا يكون هذا وذاك، فوجود تقارير أمنية بحق بعض الأشخاص كفيل باعتقالهم، وأحياناً تحدث عمليات اعتقال عشوائية بهدف ترهيب وبث الرعب وتثبيت حضور هذه القوى الأمنية من جديد بين الناس.
يمثل المتهمون أمام قاضي التحقيق لوقت قصير جداً لتثبيت التهم التي أوردها التقرير الأمني غالباً بغياب أي محامي دفاع عنه، فهذه المحكمة استثنائية لا تنطبق عليها شروط المحاكم الأخرى، ويقتصر تواصل المتهمين مع المحامين على أمور شكلية (مثل تقديم مذكرات أو طلبات إخلاء سبيل) وهي أمور يمكن لأهل المعتقل القيام بها. يقول المحامي، أنور الحسن، (اسم مستعار، 50 عاماً) من اللاذقية والموكل بقضية عبد القادر: "لا يسمح لنا بالحديث مع الموكل ولا تصوير أوراق القضية التي تعتبر كلها سرية، حقيقة نشعر بالعجز أمام الوكيل والأهل وليس لنا سوى اتباع الطرق الملتوية في الوصول إلى الأفرع الأمنية للحصول على إخلاء سبيل، فموافقة القاضي الشكلية على الإخلاء مرهونة بموافقة الفرع الأمني المرتبطة به القضية".
محامون آخرون وجدوا هذه الظروف مناسبة لتحقيق ثروات على حساب المعتقلين، خاصة أولئك المحسوبين على النظام بشكل علني، إذ يدّعون وجود علاقات قوية مع الأجهزة الأمنية والقضاة تتيح لهم إخلاء سبيل الموقوفين.
يعتبر ريمون (اسم مستعار) نزيل السجن المدني في اللاذقية (56 عاماً، من حمص محكوم عشر سنوات بتهمة أنه كان قناصاً) أن حصوله على الحكم إنجاز يتيح له راحة البال بعد رحلة عامين في السجون الأمنية والتوقيف، ويضيف: "دفعنا للقاضي أكثر من مليوني ليرة سورية (4000 دولار) عبر المحامي لتسريع الإضبارة، لم أحمل يوماً سلاحاً ولا أعرف من أين أتوا لي بهذه التهمة".
يضيف ريمون، أنه خلال استجوابه الوحيد أمام القاضي الذي استغرق ثلاث دقائق، استخدم في حديثه مفردة "النظام" الأمر الذي دفع بالقاضي إلى إغلاق المحضر بعصبية والصراخ بوجهه وشتمه ثم توقيفه وإرجاعه إلى سجن اللاذقية المدني حيث تابع المحامي بقية الإجراءات.
ووفقاً لمصادر فإن عدد القضايا المحالة إلى محكمة الإرهاب بدمشق حتى شهر حزيران 2014 بلغ 38 ألف قضية منذ تأسيس المحكمة في يونيو/ حزيران 2012، كما أنّ عدد النساء المحالات إلى المحكمة بلغ 400 امرأة. وحسب مصادر أخرى فإن المحكمة أصدرت 700 حكم تراوحت بين الإعدام والسجن لمدد مختلفة.
وفي غياب أرقام رسمية تشير مصادرنا داخل المحكمة إلى أنّ عدد القضايا المنظورة منذ مطلع العام حتى شهر تشرين الثاني الجاري كان بحدود 2300 قضية (يوجد في بعض القضايا أكثر من مائة متهم، إلا أنّ الحكم فيها مرهون بحضورهم جميعاً!)، أصدرت المحكمة فيها حوالي 350 حكماً بعضها مشدد بعد تغيير طاقم القضاة قبل شهر تقريباً من الآن على خلفيات الفساد المالي المعلن.
خلاصات ما لا يلخص
سمعةُ محكمة الإرهاب حالياً في الداخل السوري أسوأ بكثير من سمعة محكمة أمن الدولة المرحومة، التي كانت على الأقل تسمح للمحامين بالاطلاع على ملفات المتهمين، خلافاً لما يحدث من فظائع داخل وريثتها التي لا تتوفر فيها أبسط مقومات المعايير الإنسانية أو الحقوقية، عدا عن اعتبارها بالأصل محكمة ذات شخصية اعتبارية مستقلة، فالقضاة فيها مجرد أدوات تنفيذية للجهات الأمنية لا أكثر ولا أقل، ولذلك تكثر فيها الرشاوى ويعم الفساد والابتزاز.
(الصورة الرئيسية: تصميم كوميك لأجل سورية. واللوحة صمّمت خصيصا لهذه المادة. الحقوق محفوظة لحكاية ما انحكت)