(النص متوفر بالانجليزية)
أثناء مكوثه الاضطراري في مترو أنفاق لندن خلال الغارات الجوية الألمانية عام 1940، راح النحات البريطاني الشهير هنري مور يرسم الأشخاص المروعين من حوله. وقد أصبح الفنان في واقع الحال مراسلاً وشاهد عيان، تمثل رسوماته عن المأوى رمزاً لتحدي عدوان النازيين وسجلاً تاريخياً لا يكف عن مطاردتهم.
أما مجموعة الأعمال المؤثرة للفنانة الفلسطينية سامية حلبي، رسم مذبحة كفر قاسم، فهي حصيلة عقد من البحث وإحياء الذاكرة بهدف تصوير مقتل 49 مدنياً فلسطينياً على يد حرس الحدود الإسرائيلي عام 1956.
وعلى الرغم من الكثرة المهولة للصور الفوتوغرافية، ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنّ السنوات الأخيرة شهدت كذلك استخداماً متزايداً للرسوم التوضيحية بهدف التوعية وإعلام الجمهور وحكاية القصص. وقد استفادت المنظمات من تلك الوسائط الأكثر حرفية بكثير لالتقاط ورواية ملامح من حياة اللاجئين السوريين. وقد دأب موقع "حكاية ما انحكت" على استخدام الرسوم التوضيحية المصاحبة للمقالات منذ أول مرة في مقالة شادي الذي تأخر عنه البريد في يونيو / حزيران 2017.
يرى المصور البريطاني جورج بتلر أن "الرسوم التوضيحية ليست بحاجة للتنافس مع الصور، لكني أعتقد أنها تشد عدداً أقل من الناس بقوة أكبر، وأعتقد أنها أدوات عظيمة لإشراك كل من يهتم بها ويفهمها. أعتقد أنها تبقى في بالك مدى الحياة. أعتقد أنها تبقى الأشد ظهوراً في عالم مهجوس بالتصوير الفوتوغرافي".
رسم وجهات نظر مختلفة
شهدت الثورة السورية إنتاجاً فنياً طاغياً، بما في ذلك الرسوم الكاريكاتورية. وبحسب وداد الحموي (اسم مستعار) العضوة في مجموعة كوميك لأجل سورية، تكمن قوة الرسم التوضيحي في "الألوان، والعواطف، ووضوح الحدث، وحس الفكاهة المريرة أحياناً، ومعالجة الموضوع من وجهات نظر مختلفة، التقاط لحظة لا يمكن تصويرها أو لم يتم تصويرها، ولكننا نعلم بحدوثها. الرسم يمنحك المزيد من الحرية لتوثيق الأحداث والمشاعر".
وشدّدت على أن "الرسم يمتلك الحرية في رؤية الصورة من أي منظور تشاؤه، بكل بمعنى الكلمة. وهو ما يساعد الجمهور على وضع أنفسهم في مكان كل الشخصيات. الرسوم تضخم الحقيقة، عاطفياً ورسومياً؛ هي باختصار أن تقولي الحقيقة من خلال الكذب".
توقفت المجموعة عن النشر وتحديث صفحتها منذ سنوات، "لكننا نأمل أن نتمكن من توثيق لحظات جزء مهم للغاية من تاريخنا بطريقتنا الخاصة"، بحسب ما ذكرت الحموي، مضيفة "نحن ننتظر وننتظر الوقت الذي نتمكن فيه من العودة إلى النشر مجدداً".
مشاركة القصص المخفية
عمل الرسامة الأميركية مولي كرابابل بعنوان مشاهد من سوريا، والذي نشر عام 2015، هو حصيلة التعاون الرائع والتبادل الحي الذي جرى سراً عام 2013 بينها وبين الصحافي السوري مروان هشام، هي في نيويورك وهو في بلدته الرقة. اشتغل الثنائي في وقت لاحق على حلب والموصل، وحالياً يعملان على مذكرات من 82 صفحة توثق شغلهم وستنشر عام 2018. "سيتم إدراج موضوعات أخرى، مثل الملجأ وفكرة الوطن" بحسب هشام.
هشام الذي يتخذ من تركيا مقراً له قال "إن تعاوننا الأول كان حول الرقة. مولي (التي كانت في ذلك الوقت صديقة تويترية) اقترحت علي التقاط صور تعطي فكرة عن الحياة العامة في المدينة تحت احتلال داعش. وكما كان كلانا يعلم، كانت الفكرة محفوفة بالمخاطر لكن مغرية للغاية أيضاً. اتفقنا على تقديم حوالي عشرة رسوم توضيحية. بما أنها كانت مدينتي، كنت أعرف بالضبط إلى أين أتوجه، وفي بعض الحالات ماذا ألتقط بالضبط. كنا نتواصل يومياً لتبادل الأفكار. وقد انتهى بها المطاف برسم كل الصور المشهدية التسع التي لدي. شيء واحد كان يشغل بالنا: تصوير الحياة المدنية والإنسانية في الرقة وغيرها من المدن بشكل يبتعد عن القوالب النمطية".
الرسمة الأولى، ولعلها الأكثر إثارة للدهشة بين الرسمات التسع التي رسمتها كرابابل وعنونتها "مشاهد من الحياة اليومية في عاصمة الأمر الواقع لداعش" هي برج الساعة التاريخي، وهو نصب شهير كان يصور فلاحين وفلاحات يحملون شعلة، إلا أنّ رؤوسهم مقطوعة الآن، وثمة شخص وحيد بقي في النصب. أما قاعدة النصب المطلية بالأسود والمغطاة بشعارات داعش، مع بقع الحبر الأسود التي تميز السلسلة، فلا تقل رعباً عن السحابة الصاخبة التي تحوم فوق النصب أو عن رؤوس الفلاحين المقطوعة أعلاه.
"الرسم التوضيحي لبرج الساعة من الرقة... الذي يرمز إلى تخريب داعش للمدينة. لقد كان بداية رائعة، وقد منحني دافعاً جباراً للمساهمة في المزيد من الرسوم"، يتذكر هشام.
وإلى جانب تقديم أكبر قدر ممكن من المعلومات الإضافية، كان هشام يكتب تسميات الرسوم أيضاً: "في مشروع الرقة، التقطت مقاطع فيديو قصيرة حول بعض المشاهد التي التقطتها، لكي أسهل عليها رؤية الأمور من خلال عيني".
رداً على سؤال الجمهور الذي ينبغي وضعه في البال أثناء عرض رسوم توضيحية في سوريا أو عنها على سكان غير محليين، يرى المؤلف ورسام الكاريكاتير أندي وارنر أن الأمر نفسه بالنسبة لأي عمل إعلامي ينتجه أشخاص من الخارج: "هل فيه الجهد نفسه للتواصل والتعاطف ورواية قصة حقيقية يرى فيها المحليون أنفسهم؟"
يعترف بتلر بشعوره القوي بالمسؤولية أثناء إمساكه بقلم الحبر والورق والألوان المائية في اعزاز، قرب الحدود التركية، بعد سيطرة الجيش السوري الحر على البلدة عام 2012. "أعتقد أن مما يؤخذ على الرسم، أو ربما هذا رأيي لوحدي، أن من السهل انحيازه لصالح من يجلس أمامك. أنا أود لو تتحقق العدالة للناس الجالسين أمامي. في اعزاز شعرت أن ذلك أقل الواجب. لكنني أعتقد أن الصحافيين ساهموا في تغذية الشعور بأن المعارضة ستطيح بنظام الأسد (لأن وصولهم يقتصر على جانب واحد من المعركة) في حين لم يكن للنظام أن "يخسر" من دون تدخل خارجي"، يضيف الرسام البريطاني.
تحاول رسوماته التقاط الحياة اليومية: رجل يسند ظهره إلى حائط، بجانبه دراجة نارية ومن بعيد مجموعة من الناس المصطفين في طابور خبز. الرجل ينظر إلى الأفق، تعابيره عابسة، ويده اليمنى تضغط على جبينه. بعض أجزاء الرسم ملونة، ومعظمه مؤلف من خطوط رمادية وسوداء لإرشاد عيون المشاهدين.
يقول إن معظم هذه الرسومات "كما دوماً، انطلقت من الحياة... كنت أدرك تماماً فداحة ما أراه. الرسم داخل المرسم يتيح لك أن تكون حراً ومعبراً، لكن نما لدي هاجس تصوير تلك الدبابات والمباني والأشخاص بأدق شكل ممكن، بما يجعل الرسومات بمثابة سجل. ربما عنى ذلك أنها ليست الأفضل من الناحية الفنية لكن بدا لي أنها محملة بالمعاني في ذلك الوقت".
الوسيط المثالي؟
بهدف معالجة الرضوض النفسية التي تعرّض لها، ولتسليط الضوء على ما لم تتطرق إليه تغطياته الإخبارية الجافة، يشتغل الصحفي العراقي غيث عبد الأحد على التقاط ملامح للأماكن العدوانية التي غطاها سابقاً، ليس فقط باستعمال الكاميرا والكمبيوتر المحمول ولكن أيضاً كراسة الرسم. الصحفي المهندس المعماري يعمل في الوقت الحالي على كتاب يضم هذه المجموعة من الأعمال التي أنجزها في بلده، العراق، وأيضاً سوريا واليمن.
من جهته قام رسام الكاريكاتير السياسي باتريك تشابات، على مدى السنوات الثلاثين الماضية، بالموازاة بين عمله كصحفي تصويري، يسلط الضوء على القضايا والقصص الفردية التي تتجاهلها وسائل الإعلام، وبين أعماله الغزيرة التي تروي قصص أحكام الإعدام في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى فيلم رسومي عن أهالي القرى المتضررة من الألغام والقنابل العنقودية في لبنان ("لبنان: الموت في الحقول").
في الفيلم الوثائقي "خطط، إصلاحات، باتريك تشابات"، يؤكد الصحفي والفنان أن الصحافة التصويرية هي إحدى الطرق الصادقة لمخاطبة القراء، وأن الشكل الفني الذي بدأ بالتطور والانتشار منذ التسعينات نشأ، على الأقل جزئياً، بسبب حاجة وسائل الإعلام لتجديد نفسها.
ويؤكد تشابات أنه "بدلاً من النظرة السلبية العامة، بإمكان القصص المصورة أن تساعد في معالجة القضايا الخطيرة والصعبة. هذا النموذج يسمح للمراسل، ولعله يتطلب منه، أن يكون جزءاً من القصة التي يرويها، أن يكون الراوي والشخصية معاً".
"القصص المصورة الصحفية وغير الخيالية تناسب البيئة الإعلامية الحالية بشكل خاص، وانتعاش هذا النموذج دليل على ذلك"، بحسب وارنر. "ثمة قيمة هائلة في معالجة ما يحدث على مسرح التاريخ اليوم من خلال هذا الوسيط، وذلك بسبب طريقة تفاعل العنصر البصري مع القراء".
ويشير وارنر إلى أنه "يعمّر جيداً أيضاً"، فقراءة كتب القصص المصورة غير الخيالية مثل كتاب جو ساكو "فلسطين"، والمكتوب عام 1992 قبل نشره عام 1997، تساعد في شرح الكثير حول اللحظة التاريخية الحالية في الشرق الأوسط، رغم أن عمره عشرون عاماً".
من جهته يعتقد بتلر "أن هناك إهمالاً للرسوم التوضيحية كطريقة لتسجيل الأخبار، بما في ذلك الأخبار "الجافة". لا يعني ذلك أنها الأنسب. لكننا مدربون جيداً على قراءة اللوحات والرسومات، وبالنسبة للموضوعات الصعبة، كثيراً ما يبدي الجمهور استعداداً للنظر المطول في الرسمة وفهم ما يحدث من خلالها. الرسم رائع على مستوى إعطاء الناس مساحة لهم لتشغيل عقولهم".
بعد عودته من اعزاز، بدأ بتلر بمبادرة صغيرة مع بعض "أندية العشاء السورية"، والتي نمت تدريجياً إلى مؤسسة هاندز أب الخيرية.
"جمعنا ما يقارب 4 ملايين جنيه استرليني"، يقول بتلر. "لقد منحني الرسم فرصة لإمضاء وقت كافٍ في سوريا لأتأثر بما فيه الكفاية لأتحرك وأفعل شيئاً. هاندز أب هي طريقتنا في التحرك وفعل شيء".
(الصورة الرئيسية: رسم توضيحي من "سوريا: مخبز وسلم على دبابة". أعزاز، آب/ أغسطس 2012 ( جورج بتلر/ حكاية ما انحكت)