(نشر هذا النص أولا باللغة الانكليزية، ويمكن الاطلاع على قائمة المراجع في نهاية النسخة الانكليزية)
منذ صعود حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1970، بدأ النظام السوري التقرب من ودعم القطاع الخاص، وذلك عبر مختلف إجراءات اللبرلة الاقتصادية المباشرة. ترافق ذلك مع زيادة التواصل والتعاون بين قطاعات مجتمع الأعمال المديني الذي تغلب عليه الصبغة السنية. وهكذا أصبح رجال أعمال القطاع الخاص، الذين كانوا في مرحلة سابقة يُعتبرون تهديداً أساسياً لسطوة النظام الاقتصادية والسياسية، مكوناً رئيسياً من مكوناته، وأخذوا يندمجون أكثر فأكثر في مؤسساته المختلفة (Perthes 1992: 225).
استمرت وتكثفت هذه العلاقة بعد وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم، كما سنرى في هذه المقالة، مع بضعة اختلافات كبرى تجلت في تحول النظام السوري إلى دولة وراثية متكاملة الأركان، ما عزز وزن العائلات في شؤون الدولة. ما يزال النظام يسيطر على المجتمع عبر أدواته الكثيرة، كالطائفية والعنصرية والمناطقية والعشائرية والزبائنية وتوزيع المصالح، إلا أن مراكز السلطة (السياسية والعسكرية والاقتصادية) كانت وما تزال متركزة في عائلة طغموية واحدة، الأسد-مخلوف-شاليش، وذلك على غرار الوضع في ليبيا القذافي أو ممالك الخليج. هذا النوع من الأنظمة يفضّل رأسمالية المحاسيب التي تسيطر على اقتصادها برجوازية الدولة. بعبارة أخرى، غالباً ما يستغل أفراد الأسر الحاكمة ومقربوهم المناصب العليا التي تضمنها السلطة السياسية بهدف تكديس الثروات.
من هذه الزاوية، وعلى الرغم من ظهور جيل جديد من رجال الأعمال السنة، في حين غادر آخرون البلاد بعد انتفاضة 2011، ما تزال هناك شبكة معقدة من علاقات نخب السلطة وشظايا البرجوازية السنية تشكل جزءاً من أدوات السيطرة على المجتمع وبناء الولاءات ضمن قطاع الأعمال هذا.
التحالف بين النظام ورأسماليي المحاسيب وشظايا البرجوازية السنية
وفي أعقاب صعود سلطة بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، أدت السياسات النيوليبرالية وعمليات الخصخصة المتزايدة، التي كانت قد استهلت في العقود السابقة، نشوء احتكارات جديدة في أيدي الأقارب والمحسوبين على النظام، سواء من خلال الروابط العائلية أو هيئات القطاع العام أو مناصب الأجهزة العسكرية والأمنية. يجسد شخص رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، عملية الخصخصة المافيوزية التي كان يقودها النظام آنذاك، فقد كانت إمبراطوريته الاقتصادية شاسعة1 وكان المساهم الرئيسي في شركة شام القابضة (Sottimano 2016).
كان يمكن لزمرة الأسد-مخلوف الاحتكارية أن تضم عناصر خارجية ضمن "العصبية"2 (أي "التضامن الأهلي" أو "الرابطة الاجتماعية") الخاصة بها، كما جرى لمحمد صابر حمشو، الذي ما يزال أحد أبرز رجال الأعمال السنة في البلاد. قبل بضع سنوات من انتفاضة 2011، أصبح حمشو شخصية سياسية واقتصادية نافذة نتيجة صلته مع ماهر الأسد، شقيق بشار، بعد زواجه من شقيقة زوجة ماهر. وقد تم انتخاب حمشو في مجلس الشعب السوري بين عامي 2003 و2007 (Donati 2013: 40). قبل الانتفاضة أيضاً، تحول الكثير من أبناء البرجوازية الحكومية السنية القديمة إلى ريادة الأعمال، بما في ذلك وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس وأولاده (أصحاب "مجموعة ماس"، وهي سلسلة شركات تجارية وشبه صناعية) وأبناء نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام (أصحاب شركة عافية، إحدى أكبر شركات الغذاء في البلاد، حيث تنتج المعلبات وزيت الزيتون ومنتجات الخبز (Matar 2015: 110). أخذ رجال الأعمال الجدد هؤلاء في البروز في الحياة الاقتصادية في سوريا، ليتولّوا على نحو متزايد المواقع التي كانت تحتلها البرجوازية التقليدية.
منذ عام 2005، ارتفع عدد الروابط التجارية، وكان معظمها على شكل مشاريع مشتركة بين رجال الأعمال المحليين والأجانب، وكان يسيطر عليها عموماً رجال الأعمال ذوو الصلات الوثيقة بالنظام (Haddad 2013: 84). تولى رجل الأعمال عماد غريواتي3، الذي ظهر في عهد بشار الأسد، قيادة غرف الصناعة السورية المنشأة عام 2006، بالإضافة لغرفة صناعة دمشق، في حين تم تعيين رجل الأعمال الدمشقي بسام الغراوي بموجب مرسوم رئاسي لعام 2009 كأمين عام لغرفة تجارة دمشق، وكان الغراوي يشغل أيضاً منصب الأمين العام لاتحاد غرف التجارة السورية (Donati 2013: 41؛ Abd al-Aziz 2016).
شكل إنشاء الشركات القابضة ("الشام"4، التي يسيطر عليها رامي مخلوف و"السورية"5) خطوة أخرى في اتجاه تجديد الشبكات التابعة للنظام في عالم الأعمال. وكانت الشركات القابضة الأدوات التي تتولى فيها برجوازية الدولة القيام بأعمال تجارية خاصة مع البرجوازية التجارية الناشئة (عنب بلدي 2016).
أخذ الانسجام السابق بين النظام ومجتمع الأعمال يتعمق أكثر مع حيازة كل من الشركتين القابضتين على رأس المال والشبكات والدعم السياسي. وفي المقابل كانتا تتمتعان بفوائد اقتصادية جراء توسع السوق، وتستولي على المشاريع الأكثر ربحية، وتستفيد من الحماية السياسية للنظام. هذا الشكل من رأسمالية المحاسيب أو رأسمالية المافيا، والتي تعتمد فيها الفرص الاقتصادية على الولاء للنظام، قامت بإقصاء وتهميش بعض أبناء البرجوازية الذين لم يتمتعوا بعلاقات واسعة بما فيه الكفاية.
من المثير للاهتمام أن غالبية رجال الأعمال كانوا من خلفية سنية، باستثناء الدائرة الداخلية للرأسماليين المحاسيب. فوفقاً لتحليل نشر في المجلة السورية "الاقتصاد والنقل" عام 2011، من أصل 100 رجل أعمال نافذ في سوريا، كان 23% منهم من أبناء كبار المسؤولين، أو من شركائهم أو "واجهات" لهم؛ و48% كانوا رجال أعمال جدد، ولكن معظمهم كان يتمتع بعلاقات فساد وثيقة مع الأجهزة الأمنية؛ و22% كانوا من البرجوازية التقليدية السائدة قبل قرارات التأميم في الستينات، وكان لدى بعضهم علاقات فساد مع قادة الدولة؛ و7% كانوا يقومون بأبرز أنشطتهم التجارية خارج سوريا. فيما يتعلق بالتوزع الطائفي، كانت النسب المئوية كما يلي: 69% من أصول سنية، 16% من أصول علوية، و14% من أصول مسيحية، و1% من أصول شيعية، في حين لم يكن هناك وجود درزي أو إسماعيلي أو كردي. من المهم أن نلاحظ أنه، من بين أغنى عشرة رجال أعمال سوريين، كانت الأغلبية علوية، وعلى الأرجح ذات صلة وثيقة بآل الأسد، وعلى رأس هؤلاء رامي مخلوف. أما بالنسبة للتوزع المناطقي، فقد كانت شريحة الأعمال الأغنى مقيمة في دمشق، تليها حلب واللاذقية، وأخيراً حمص وحماة، في حين لم يكن هناك رجل أعمال واحد من المناطق الشرقية كالرقة ودير الزور والحسكة (Seifan 2013: 112-113).
وقد تعززت طبيعة الدولة الوراثية للغاية في عهد بشار الأسد مع زيادة وزن رأسماليي المحاسيب، وذلك على حساب القاعدة الاجتماعية التاريخية للنظام، وخاصة في الأرياف والبلدات المتوسطة. أدى ذلك إلى تراجع دور منظمات المصالح في المجتمع بشكل عام، كالاتحاد العام لنقابات العمال واتحادات الفلاحين البعثية وجهاز حزب البعث. لقد كان ينظر إلى هذه المنظمات على أنها عقبة في وجه الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية (Abdulhamid 2005؛ Hinnebush 2012).
نتيجة لذلك، ازدادت الروابط الزبائنية والقبلية والطائفية أهمية، وازدادت معها قيمتها الوراثية. وبالإضافة إلى شح الموارد وعوامل أخرى، أدت تلك السياسات إلى زيادة الفقر والتفاوت الاجتماعي، ناهيك عن تسعير العداوات الطائفية والإثنية في بعض المناطق6.
وهكذا لم يكن مستغرباً عام 2011 أن تجد قطاعات كبيرة من ضحايا عملية اللبرلة نفسها في طليعة الانتفاضة، ولا سيما القرى ذات الأغلبية السنية والمدن متوسطة الحجم.
ما بعد الانتفاضة: جيل جديد من رجال الأعمال السنة
بعد أكثر من ست سنوات على انطلاق الانتفاضة السورية، تم الحفاظ على التحالف بين النظام وشظايا البرجوازية السنية رغم بعض التغيرات.
فأولاً، لم تحدث انشقاقات جماعية من قبل رأسماليي المحاسيب ورجال الأعمال المقربين من النظام؛ بل على العكس، أخذ هؤلاء يضطلعون بدور سياسي متعاظم. فقد قاموا في البداية بتمويل المظاهرات الجماهيرية التي نظمها النظام، وحملات العلاقات العامة، في حين حاولت وسائل الإعلام الخاصة منذ الأيام الأولى للانتفاضة تشويه رسالة المتظاهرين وتعزيز دعاية النظام (Iqtissad 2015).
وفي وقت لاحق، انخرط هؤلاء أكثر في تمويل الميليشيات التي تدافع عن النظام. لم تنجح العقوبات المبكرة التي فرضتها جهات دولية وإقليمية مختلفة على النخب السورية في إقناعها بالتخلي عن الأسد، باستثناء عدد قليل من الأفراد مثل مناف طلاس. كذلك لم ينضم أي من الأفراد الخاضعين للعقوبات إلى المعارضة (Abboud 2013؛ Ahmed 2016). وقد واصل محاسيب رجال الأعمال والنخب المحسوبة على النظام أعمالهم في البلاد، بل ووسعوها إلى حد كبير. وقد منحهم الدعم المتواصل فرصة تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال منحهم وصولاً امتيازياً لصناعات وقطاعات تم التخلي عنها مع فرار منافسيهم من سوريا (Kattan 2014؛ Osseiran 2017).
وقد عاقبت قوات النظام رجال الأعمال الذين قدموا دعمهم العلني للـ "الانتفاضة" من خلال مصادرة ممتلكاتهم أو رميهم بتهم قانونية واهية في "محاكم الإرهاب" الناشئة حديثاً. فقد شهد فراس طلاس، الذي غادر البلاد بعدما عبر عن دعمه للمعارضة، على استيلاء النظام السوري على مختلف أصوله داخل البلاد (The Syria Report 2014؛ Lecadre 2017). كذلك تم استهداف كل من لم يدعم النظام بما فيه الكفاية: فقد جرى الاستيلاء على أصول 11 شخصاً من أفراد عائلة غريواتي، منهم عماد غريواتي وأربعة من أشقائه. وقد كان عماد غريواتي مقيماً في دبي بعد عدة سنوات بعد استقالته من رئاسة اتحاد غرف الصناعة السورية وغرفة تجارة دمشق عام 2012 (بلدي نيوز 2017). وبالمثل، استولى النظام على أصول موفق القداح، أحد أهم المستثمرين السوريين المقيمين في الإمارات، وقد كان يملك أسهماً في عدة مشاريع عقارية في منطقة يعفور الراقية خارج دمشق، وذلك بعد اتهامه عام 2014 بـ"تمويل المجموعات الإرهابية المسلحة" و"المساهمة في إدخال الأسلحة إليها في درعا" (Adulraszak 2013؛ الاقتصادي 2014). لم يكن الرجلان قد أدليا بأية تصريحات رسمية تعارض النظام أو تدعم الانتفاضة، لكنهما دفعا ثمن عدم دعم النظام.
أما الشرائح التقليدية من البرجوازية، والذين لا تربطهم صلة خاصة بالنظام، فقد تبنت موقفاً سلبياً من باب "ننتظر ونرى". لقد أرادت شرائح واسعة من هذه الطبقة الاجتماعية نجاح الانتفاضة في بدايتها، مع شرط الإبقاء على الحكم الاستبدادي والنظام النيوليبرالي، إلا أنهم كانوا، باستثناءات قليلة7، مترددين في المشاركة في الحركة الاحتجاجية (Abbas 2011).
مع تفاقم الحرب، قررت الكثير من النخب الاقتصادية مغادرة البلاد ونقل رؤوس أموالها إلى الخارج. ويقدر مجموع السحوبات التي تعرضت لها البنوك السورية مع نهاية 2012 بنحو 10 مليارات دولار. أعيد استثمار معظم هذه الأموال في البلدان المجاورة. وبعد تحصيل موافقة النظام السوري، نقل بعض المستثمرين أنشطتهم وآلياتهم إلى تركيا والأردن ومصر والإمارات (al-Mahmoud 2015). استفاد جيران سوريا من الضخ النقدي الكبير الذي أخذ يتدفق مع إنشاء شركات سورية ومشاريع مشتركة مع شركاء محليين.
معظم أبناء هذه الفئة الاقتصادية، ممن غادروا البلاد، لم يكونوا مندمجين في شبكات اقتصاد الحرب الناشئة، في حين باتت علاقاتهم النافذة في الاقتصاد السوري تواجه منافسين جدداً أو حتى تختفي (Abboud 2013: 6). كان هناك دليل فعلاً على تهميش بعض أبناء هذه النخب في سوريا، وقد تجسد ذلك بإقالتها بشكل صامت من الهيئات التنفيذية لشركات مختلفة، أو من المناصب الأخرى أو القيادات والسلطات الاسمية. أما "النجوم الصاعدون" الجدد فقد كانوا غالباً أطرافاً خارجية كانت قد نجحت في مراكمة بعض الثروة قبيل الانتفاضة.
هناك أمثلة قليلة معروفة. أهم هؤلاء سامر فوز، الذي أصبح على مدار الحرب أحد أقوى رجال الأعمال في البلاد. قبل الانتفاضة، كان يمتلك مجموعة "أمان دمشق"8، وهي شركة متعهدة لتطوير العقارات والسلع الغذائية، ووفقاً لموقعها الإلكتروني، لدى المجموعة "علاقات استراتيجية مع شبكة واسعة من المورّدين في أكثر من 30 بلداً (مجموعة أمان 2017، Swedeh 2017)".
قام فوز أيضاً بشراء أصول بعض رجال الأعمال "المنبوذين" الذين غادروا سوريا، مثل عماد غريواتي، بسعر منخفض. فخلال الحرب، وبفضل اتصالاته الوثيقة مع بشار الأسد، استفاد سامر فوز بشكل كبير من التعاقدات الحكومية، وعمل كوسيط لصفقات الحبوب مع الشركة المشترية الحكومية شراء الدولة هبوب (Saul 2013، عنب بلدي 2017، The Syria Report 2017). وعلاوة على ذلك، أسس جمعية الفوز الخيرية، التي تنشط في اللاذقية ومحيطها الريفي، وتخطط للتوسع نحو دمشق وريفها. كما تم اتهام فوز بتمويل "قوات درع الأمن العسكري"، وهي قوة شبه عسكرية تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية، وباستخدامها لاستعماله الشخصي (Swedeh 2017؛ الشرق الأوسط 2017).
في آب / أغسطس 2017، أعلنت شركة "مجموعة أمان" عن مساهمتها في إعادة إعمار منطقة بساتين الرازي في حي المزة بدمشق، بالشراكة مع محافظة دمشق وشركة دمشق الشام المساهمة. وقد أعلنت "أمان دمشق"، الشركة التي أنشأتها "مجموعة أمان" لهذا المشروع، عن رأس مال بقيمة 18.9 مليون دولار (عنب بلدي 2017). في تشرين الثاني/ نوفمبر، حصلت "مجموعة أمان" من "دمشق الشام القابضة" على حق تطوير العقارات بقيمة حوالي 312 مليون دولار كجزء من مشروع بساتين الرازي (The Syria Report 2017b).
قبل الاتفاق مع "مجموعة أمان"، كانت "دمشق الشام" قد أنشأت مشروعاً مشتركاً مشابهاً مع شركة "الزبيدي وقلعي ذ.م.م"، والتي يملكها خالد الزبيدي ونادر قلعي. الأخير رجل أعمال سني مقيم في دمشق ويتمتع بعلاقات مع النظام، وقد حصلت شركته "كاسل للاستثمار" عام 2017 على عقد طويل الأجل لإدارة فندق الخمس نجوم إيبلا في إحدى ضواحي دمشق (The Syria Report 2017a).
لم يمنع انتماء سامر فوز ونادر قلعي إلى الجماعة السنية من إقامة صلات وثيقة جداً مع النظام، ما أظهر مرة أخرى تعدد الاستراتيجيات والأدوات التي يتبعها الأخير لتشكيل قاعدة شعبية متنوعة من خلال الزبائنية والعشائرية والطائفية.
ثمة حالات أخرى جديرة بالملاحظة، مثل قضية حسام قاطرجي، وهو تاجر مقيم في حلب ولم يكن معروفاً قبل الانتفاضة. وهو يعمل وسيطاً لتجارة النفط والحبوب بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية (Yazigi 2016b: 4). على سبيل المثال، كان قاطرجي وتجاره يقومون بشراء القمح من الرقة ودير الزور وإعطاء تنظيم الدولة 20% من الأرباح، وذلك حين كان الأخير ما يزال مسيطراً على تلك المناطق. وقد حصل قاطرجي على مكافأة من قبل النظام تمثلت في "انتخابه" كعضو في مجلس الشعب لدورة عام 2016 ممثلاً لمحافظة حلب (El-Dahan and Georgy 2017). وبالمثل، أصبح محيي الدين المنفوش (المعروف بأبو أيمن) أحد أبرز التجار المهربين في محافظة دمشق، فقد دأب على تأمين الطعام والوقود للغوطة الشرقية المحاصرة عبر علاقاته الشخصية مع مسؤولي النظام، والتي سمحت له بنقل الإمدادات عبر حاجز حرستا وفرض أسعار تصل إلى 20 ضعف السعر المعتمد في العاصمة. وقد استعمل المنفوش بعض الأرباح التي جناها لكسب قلوب سكان غوطة، مثلاً عن طريق دفع رواتب المعلمين والإداريين، في حين استفاد النظام عبر أخذ حصة من أرباحه. وتماماً كأي أمير حرب آخر، كان المنفوش يحمي منشآته بالاعتماد على ميليشيا خاصة. وقد عمل حوالي 1500 شخص في مصنعه، الذي كان يزود دمشق بالجبن ومنتجات الألبان. وفي وقت لاحق، تمكن المنفوش من تطوير منشآته لإنتاج المعلبات والمخبوزات وتصديرها إلى مناطق الغوطة ودمشق (Sadaki 2016؛ الصالحاني 2017).
لقد تمكن هؤلاء المستغلون الجدد من الاستفادة من الفرص التي أتاحها رحيل شبكات النخبة التجارية التابعة. فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب وأحد الموالين المعروفين للنظام، أصبح رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية في يونيو/ حزيران 2012 (Abboud 2013: 6). في نهاية 2014، على سبيل المثال، شهدت غرفتا تجارة حلب ودمشق تغيراً كبيراً في أعضائها. ففي حلب، كان 10 من أصل 12 عضواً منتخباً من المستثمرين الجدد، معظمهم لم يكونوا معروفين قبل الانتفاضة. أما في دمشق فقد أتى 7 من أصل 12 من خلفية مماثلة (Yazigi 2016a: 4). في بداية عام 2014، قامت وزارة الصناعة بترشيح أشخاص جدد لتبوّؤ مقاعد في مجالس إدارة مختلف غرف الصناعة (في حماة وحلب وحمص ودمشق)، في خطوة اعتبرت بمثابة انتقام من المستثمرين المؤيدين للمعارضة. حدث شيء مماثل في انتخابات مجلس الشعب عام 2016، حيث تم استبدال 70% من النواب بالداخلين الجدد، ما عكس تغيراً كبيراً في قواعد السلطة التي يتكئ عليها النظام السوري (SANA 2016).
خاتمة
ختاماً يمكننا ملاحظة استمرار التعاون بين النظام وشظايا البرجوازية السنية والأجيال الجديدة من رجال الأعمال. لقد كان العنصر الأساسي وما يزال هو الولاء، ما عنى اتخاذ تدابير عقابية بحق غير الموالين، وذلك بخلاف ما يزعمه البعض، لا يعادي النظام السكان السنة أو هوية سنية معينة في حد ذاتها، بل يعادي جماهير معينة تعاديه وتنحدر بمعظمها من الخلفيات الشعبية السنية في المناطق الريفية الفقيرة والوسطى، بالإضافة إلى ضواحي دمشق وحلب.
لا ينفي ذلك أن الطائفية كانت إحدى أهم أدوات النظام للسيطرة على الشعب السوري وتقسيمه. لقد شهدت السنوات الماضية مذابح طائفية وعمليات تهجير قسري فرضتها قوات النظام وحلفائه ضد السكان السنة الفقراء الذين شاركوا في الانتفاضة أو على الأقل اتهموا بالتعاطف معها9، بالإضافة إلى تقويض معظم أشكال المقاومة الديمقراطية وغير الطائفية في البلاد. وبالمثل، قام النظام بشيطنة الانتفاضة منذ اليوم الأول عبر وصفها بأنها مؤامرة أجنبية تقودها حركات جهادية سلفية. هدفت هذه الحملة إلى تحييد الأقليات الدينية والعلمانيين عن الحراك الشعبي، وإلى ربط مصير هؤلاء بمصير النظام باعتباه الضامن الوحيد لوجودهم. وسرعان ما تلاقت السردية الطائفية للنظام مع صعود المتطرفين الإسلاميين وهيمنتهم اللاحقة على مسرح المعارضة المسلحة.
لكن شرح هذا الواقع يختلف تماماً عن الزعم بأن النظام يعادي جميع السنة. هذا التبسيط يتجاهل الدعم السني للنظام، ولا سيما في دمشق وحلب، فضلاً عن الوجود السني داخل مؤسسات النظام والميليشيات الموالية له. وكما هو الحال مع الجماعات الدينية والإثنية الأخرى، "يتألف" العرب السنة من عناصر مختلفة (طبقات وأجناس ومناطق ومذاهب وما إلى ذلك) وليس لديهم موقف سياسي متجانس. من هنا ينبغي فهم الطائفة على أنها علاقة اجتماعية، واعتبار العوامل الأخرى مثل الجنس والعمر والأصل القومي والإثني، وحالة المواطنة، كأجزاء تشكل نسيج الطبقة كعلاقة اجتماعية متماسكة. ينعكس ذلك أيضاً على كيفية معاملة النظام لمختلف أبناء الجماعة السنية بأشكال مختلفة، تماماً كمعاملته أبناء الجماعات الأخرى.
وبالمثل، تمثل طبيعة المؤسسات السياسية انعكاساً محدداً بشكل تاريخي لبنية الطبقة وعلاقتها بتراكم رأس المال. بعبارة أخرى، لا تنفصل الدولة عن مجال السياسة، الذي لا ينفصل بدوره عن المجال الاقتصادي. وبالمثل، هي علاقة اجتماعیة أو "مجموعة من الأشكال المؤسسیة التي ترتبط من خلالها الطبقة الحاكمة بسائر أفراد المجتمع" (الاقتباس مذكور في Hanieh 2013: 14). وهذا هو سبب قصور النظرة إلى النظام كعلوي حصراً عن استيعاب ديناميات السلطة ونظام الحكم، رغم "علونة" بعض المؤسسات. علاوة على ذلك، لا يخدم النظام المصالح السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية للسكان العلويين ككل، بل على العكس تماماً. فحصيلة قتلى الجيش والميليشيات الموالية للنظام تضم نسبة هائلة من العلويين. كما أن انعدام الأمن، والصعوبات الاقتصادية المتزايدة، أدت بالفعل إلى تأجيج توترات وعداوات بين مسؤولي النظام والسكان العلويين.
من هذا المنظور، لم تكن الطائفية أبداً هي الغاية السياسية ولكنها بقيت وسيلة هامة ومفتاحية للسيطرة.
كان الماركسي اللبناني الراحل مهدي عامل يجادل ضد أي محاولة لربط الموقف الطبقي بالانتماء إلى طائفة معينة، وبالتالي بناء تحالفات على أساس طائفي. وفقاً لعامل، من شأن مثل هذه التحالفات أن ترسّخ الدينامية الطائفية الكامنة في المنظومة، وبالتالي تعزيز موقف المتمسكين بالسلطة. بدلاً من ذلك، دعا عامل إلى موقف يضيء على الطبيعة الطبقية المتناقضة ضمن مختلف الجماعات، حيث تقوم الطائفية بطمس علاقات السلطة والسيطرة داخل كل جماعة.
عند مقاربة الشأن السوري، علينا أن نحذر من النظرة الماهوية للهويات الدينية والإثنية باعتبارها هويات متراصة؛ وإلا سنفشل في تفسير الديناميات السياسية والاجتماعية-الاقتصادية.
(الصورة الرئيسية: الرئيس التنفيذي لشركة فوز القابضة سامر الفوز، الذي أصبح بعد عام 2011 أحد أقوى رجال الأعمال في البلاد. وهو ينتمي إلى اللاذقية، وهو ابن عضو سني سابق في حزب البعث كان قريبا جدا من حافظ الأسد في السبعينات (ArabiskLondon/ الاستخدام العادل وجميع الحقوق محفوظة لأصحابها)