(ريف إدلب)، لم تكن تتوقع أم سليم (40عاماً) أن يتم استقبالها مع أسرتها في ريف إدلب بكل تلك الحفاوة والتكريم، فما إن ترجلت من الباص الذي كان يقلها مع عدد كبير من المهجرين حتى بادر إليهم أهالي إدلب، يرحبون بهم ويدعونهم إلى منازلهم بابتسامة وبصدر رحب، ما أنساهم مرارة تهجيرهم.
استوعبت مدينة إدلب وريفها أعداداً هائلة من المهجّرين المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد في الأعوام السابقة، ووصلوا على دفعات من جميع أنحاء البلاد. وُضعت ضيافة إدلب وأنظمة الاستجابة الطارئة فيها قيد التجربة عام 2016 عندما فقدت فصائل المعارضة سيطرتها على مدينة حلب الإستراتيجية. وأيضاً هذا العام، عندما هرب سكّان الغوطة الشرقية من مدينتهم التي تعاني من الحصار منذ فترة طويلة بعد أن شنّ النظام السوري وحليفه الروسي حملة عسكرية شرسة للسيطرة على المنطقة.
ماهي أعداد المهجرين وأماكن توزعهم؟
عضو فريق منسقو الاستجابة في الشمال السوري، ومسؤول السلامة في منظمة سوريا للإغاثة والتنمية، عبيدة دندوش (36عاماً) يقول بأن أكثر من 48654 مهجر من الغوطة الشرقية وصلوا إدلب وريفها خلال المدة التي تتراوح بين منتصف مارس 2018 ومنتصف أبريل 2018، وقسم كبير من هؤلاء كانوا بحاجة لدعم كامل، سواءً بالأغذية أو الألبسة، أو بالدعم الصحي أو النفسي. ويضيف الدندوش بأن عدد المصابين وصل لـ 1500 مصاب من الغوطة بشكل كامل، حيث استوعبت منطقة إدلب منهم 1250 مصاباً، والبقية استقبلتهم مناطق ريف حلب الشمالي.
أشار الدندوش إلى أنّ منظمة سوريا للإغاثة والتنمية، حضّرت نظام استجابة طارئة في المنطقة التي يعرفها طاقم الإسعاف المحلي بـ"نقطة الصفر". كجزء من جهود الإغاثة، ساعد الطاقم في نقل الناس من قلعة المضيق (وهي بلدة في ريف حماه الغربي اعتُبرت نقطة وصول المهجرين إلى المناطق "المحرّرة" التي سيطرت عليها المعارضة خلال أزمة الغوطة الشرقية) إلى إدلب.
أين سيذهب جميع هؤلاء الأشخاص إذا عانت إدلب المصير نفسه كالغوطة؟
أما فيما يتعلق بمراكز الإيواء "فقد أرسلنا لكل مركز سيارة إسعاف لنقل المصابين إلى المشافي، وفريقين دعم نفسي وعيادة متنقلة. وكل ذلك ضمن تنسيق مع المنظمات الأخرى حول كيفية نقل المصابين إلى المشافي ثم مراكز الإيواء، إذ لا تزال سيارات الإسعاف تقوم بهذه المهمة حتى اللحظة" وفق قوله لحكاية ما انحكت.
ويلفت الدندوش، إلى جود حالات كثيرة لأطفال لديهم سوء تغذية نتيجة الحصار، وأمراض نتيجة الجلوس في أقبية غير مجهزة وغير مخصصة للسكن لفترات طويلة، وهؤلاء يتم علاجهم عن طريق عدد من الجلسات الفيزيائية وتنظيم غذائهم، إضافة لتقديم جلسات دعم نفسي لهم.
تعتبر إدلب المدينة وأريحا ومعرة النعمان والأتارب أكثر المدن التي وصلها المهجرون، بالإضافة لمركز إيواء ميزناز ومناطق المخيمات في الشمال السوري. كما أن هناك مجموعة من المناطق المتفرقة في محافظة إدلب كان لها دور في استقبال أعداد من المهجرين.
آلية استقبال المهجرين وإيوائهم
منذ خرج مدنيي الغوطة باشرت المنظمات الإنسانية، ومنها: جمعية الوفاء للإغاثة والتنمية، غراس النهضة، مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية، مؤسسة رحمة الإنسانية، الدفاع المدني السوري، جمعية النور السورية للإغاثة، منظمة بنفسج، جمعية عطاء للإغاثة والتنمية، منظمة سوريا للإغاثة والتنمية، منظمة إحسان، جمعية التعاون وغيرها.. وكلها منظمات مجتمع مدني غير ربحية ومستقلة، ولا تتبع لأي جهة سياسية أو عسكرية، ويتوزع عملها في الشمال السوري وفي إدلب، (قامت) بتجهيز مراكز الإيواء المؤقتة حيث يقضي فيها المهجر مدة زمنية تتراوح بين اليوم والثلاثة أشهر ريثما يتم تأمينه في منازل سكنية أو مخيمات ثابتة (تكون مجهزة بكل ما يلزم لإقامة النازح الدائمة من خيام ومولات ومراكز طبية وتعليمية وما إلى ذلك(، وكذلك تجهيز المواد اللازمة ونقاط الاستقبال وسائل النقل.
عضو مجلس أمناء منظمة بنفسج العاملة في ريفي إدلب وحماة، فؤاد سيد عيسى (30 عاماً)، يقول لحكاية ما انحكت: "عملنا على استقبال المهجرين بنقطة وصولهم في قلعة المضيق بريف حماة، ونقل الوافدين منها إلى مراكز الإيواء المؤقتة والمجهزة قبل وصولهم".
ولفت انتباه العيسى "مظاهر التعب والإرهاق والجوع والخوف والحالة النفسية السيئة للوافدين من المهجرين، والتي تعكس ما لاقوه من أهوال أثناء حصارهم الطويل". كما وأكد العيسى بأن بنفسج لم تكن المنظمة العاملة الوحيدة بهذا الصدد، بل إنّ عدداً كبيراً من المنظمات المحلية كانت حاضرة مع غياب واضح للمنظمات الدولية.
جمعية التعاون، كانت إحدى الجمعيات البارزة بمساعدة المهجرين، وخاصة في منطقة جبل الزاوية. وحول استجابة هذه الجمعية يتحدث مديرها فضل العكل (36عاماً)، قائلاً "لحظة وصول أهلنا المهجرين بادرنا بإطلاق حملة إغاثية بغية تقديم الاحتياجات والمستلزمات الضرورية لهم، وقد حاولنا جاهدين استقبالهم الاستقبال اللائق وتعويضهم عمّا لاقوه من ويلات الحصار والجوع والقصف طوال سنوات". فكان ضمن ما قدمته جمعية التعاون أكثر من 75 منزل سكني مدفوع الأجرة لمدة ثلاثة أشهر، 32 لوح طاقة شمسية، 150 سلة غذائية، 1000 وجبة غذائية، 2000 ربطة خبز، 100 سلة نظافة، 1000 بطانية، 1000 سلة ألبسة، وأيضاً مبالغ نقدية ومواد غذائية ولحوم.
بعيداً عن المنظمات... جهود شعبية تطوعية
لم يقتصر الاهتمام بالمهجرين على المنظمات والجمعيات. إنما كان هنالك جهود فردية من الأهالي للمساعدة قدر المستطاع، إذ أطلق أهالي إدلب وريفها مجموعة من المبادرات بغية تخفيف معاناة أهالي الغوطة من حيث جمع التبرعات وتأمين السكن والأغطية والطعام والخضار للمهجرين. وكذلك قام البعض باستضافة عوائل من الغوطة في بيوتهم، وقام الكثيرون من أصحاب المحال التجارية كالخضراوات والمطاعم والمفروشات وحتى محلات الحلاقة بتقديم السلع والخدمات مجاناً لهم، ووضع أصحاب تلك المحلات لوحات كتب عليها عبارات ترحيب بأهالي الغوطة معلنة عروضها المجانية لخدمتهم.
عصام القدور (45عاماً) كان ممن استقبل عائلة من المهجرين في منزله حيث يقول "كنت على علم بأنّ المنظمات الإغاثية لن تكون قادرة على استيعاب كل تلك الأعداد من أهلنا المهجرين، وهو ما دفعني للقيام بواجباتي تجاه من عانوا كلّ أنواع الظلم والقهر على يد نظام ظالم لم يرحم فيهم صغيراً ولا كبيراً". القدور يمتلك بناء من طابقين حيث أسكن عائلة من المهجرين في إحدى الطوابق وعائلته في الطابق الآخر.
عائلة المهجرين المقيمة لدى القدور هي عبارة عن زوجين وخمسة أولاد، وهم من مدينة عربين في ريف دمشق، وفدوا إدلب كغيرهم من المهجرين في حالة نفسية سيئة، وقد عانوا ما عانوه من رعب وقصف وجوع، ويحملون داخلهم ألم فقدانهم لأحد أبنائهم خلال القصف الذي تعرضت له مدينتهم، وهم الآن يقيمون في منزل عصام القدور الكائن بمدينة أريحا.
عمر الجندي (39عاماً) من أهالي معرة النعمان وأغنيائها، ويعمل في مجال تجارة السيارات قبل الثورة وأثنائها، كان له دور بارز بمساعدة المهجرين وهو يدعو الجميع لمساعدتهم قائلاً "إن من واجبنا تقديم المساعدة لأهالي الغوطة الذين صمدوا ودافعوا بشرف عن الثورة على مدى سنوات". ومن هذا المنطلق قام الجندي مع مجموعة من الأهالي من خلال عمل فردي بتجهيز بيوت وإيواء عشرات العوائل، مؤقتاً ريثما يتم تأمينهم بمنازل مناسبة لهم، كما وقدم لهم وجبات غذائية ومفروشات وأدوات مطبخية.
ما هو دور المجالس المحلية والمراكز الطبية؟
شكلت معظم المجالس المحلية في منطقة الشمال السوري لجان استجابة طارئة منذ إعلان القرار بتهجير سكان الغوطة الشرقية، هذا القرار الذي تم بين روسيا وحركة أحرار الشام وفصيل فيلق الرحمن في 25 مارس 2018، ويقضي بإجلاء أهالي الغوطة من مدنيين وعسكريين.
وعن عمل هذه اللجان، يتحدث المثنى محمد (38عاماً) مدير المجلس المحلي لمدينة سراقب، قائلاً "من خلال هذه اللجنة أنشأنا غرفة طوارئ شاركت فيها جميع الفعاليات المدنية والأهلية في المدينة، من نشطاء مجتمع مدني وجمعيات خيرية وفرق أهلية تطوعية، وبدأنا عملنا بزيارة إلى النقطة صفر في قلعة المضيق، وهي نقطة استقبال سكان الغوطة، وقد قسمنا فريق العمل لمجموعات".
المجموعة الأولى عملت على تسجيل أسماء العوائل التي قدمت منازلها بالمجان لأهل الغوطة وتم توزيعهم في المنازل حسب عدد أفراد العائلة، أما المجموعة الثانية فقد قامت بتوثيق أسماء العوائل الوافدة من الغوطة بشكل دقيق لتلبية احتياجاتهم، والمجموعة الثالثة عملت على تقييم المنازل من ناحية صلاحيتها للسكن وتخديمها، أما المجموعة الرابعة فكانت مختصة بتقديم الخدمات الصحية والطبية للمهجرين، والمجموعة الخامسة أشرفت على مستودعات الإغاثة الانسانية في المدينة.
مازن السعود (57عاماً) أحد أطباء مديرية الصحة بإدلب تحدث عن استنفار للمشافي والمراكز الطبية في المحافظة بغية استيعاب مصابي الغوطة، فتم استقبال الحالات الأقل خطراً، أما الحالات الخطرة والحرجة فقد تم تحويلها إلى تركيا لتلقي العلاج المناسب، كما وأنه كان هناك مبادرات فردية لمجموعة من أطباء المنطقة باستقبال المصابين والمرضى من المهجرين في عياداتهم الخاصة بشكل فردي تطوعي.
موقف المهجرين من استقبال أهالي إدلب لهم
لم يخفي أهالي الغوطة سعادتهم بطريقة استقبال الأهالي لهم والحفاوة التي قوبلوا بها. هذا ما يعبر عنه أحد مهجري الغوطة،
ويدعى حيان العيسى (42عاماً) وهو مواطن مدني بدت على ملامحه كل سمات ما عاشه من قهر وألم على مدى سنوات، متوسط القامة، نحيف، أشعث الشعر يختلطه الكثير من الشيب، في عينيه لمعة حزن لم يستطع إخفائها رغم محاولته المكابرة. يقول متأثراً بما مروا فيه من ظروف ولحظات قاسية "خرجنا هائمين على وجوهنا، خرجنا مرغمين لحياة نجهل كل تفاصيلها، تركنا ورائنا أرزاقنا وبيوتنا وأحلامنا. كنا كمن فارق روحه ولكن جسده بقي حياً، انتابنا شعور لا أقوى على وصفه ولا أجد كلمات ممكن أن تصفه من الحزن والمرارة واليأس" ويستطرد قائلاً: "ولكننا ما إن وصلنا إدلب، حتى نسينا كل التعب وقسوة التهجير التي عانيناها من خلال استقبال الأهالي لنا، والذين لم يشعرونا للحظة بأننا غرباء بينهم". العيسى يقيم اليوم في إحدى المنازل بمدينة جسر الشغور، مقابل أجرة شهرية وهي 35 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 75 دولار أمريكي.
هذا الاستغلال دفع المهجرين ليخفوا حقيقة أنهم من الغوطة لتجنب استغلالهم
من جهتها، أعربت الأرملة أم محمد (41عاماً) عن شكرها لأهالي إدلب وللمنظمات الإنسانية التي ساعدتها على تأمين كل مستلزمات الإيواء لعائلتها المؤلفة من ستة أبناء، وهي تقيم اليوم في مدينة كفرنبل بإحدى المنازل المجانية. تقول مقارنة ما عاشته في الغوطة ثم ما لاقته في إدلب "شتان بين ما كنا نعيشه في الغوطة من خوف ورعب وجوع، وبين ما عشناه في إدلب من أمان وعناية وترحيب واهتمام، لقد كانت نفسيتنا جداً متعبة ولكننا الآن نشعر بتحسن وسط أهلنا الأدالبة".
لا يخلو الأمر من المضايقات والاستغلال
من جهة أخرى، لجأ بعض ضعاف النفوس لاستغلال حاجة أهالي الغوطة لتأمين سكن فعمدوا لرفع أسعار إيجارات المنازل على الرغم من الوضع الاقتصادي السيء لسكان الغوطة الذين بقوا محاصرين لخمس سنوات وكانوا بالكاد يستطيعون تأمين لقمة عيشهم.
هذا الاستغلال دفع المهجرين ليخفوا حقيقة أنهم من الغوطة لتجنب استغلالهم، فالحاج حسين الأتاسي الستيني، أحد مهجري الغوطة عبّر عن استيائه من وجود ضغط سكاني كبير في مراكز الإيواء، وحين أراد استئجار منزل لعائلته الكبيرة فوجئ بالأسعار المرتفعة، والتي تقدر بـ 50 ألف ليرة سورية كحد أدنى ( 110دولار)، ما دفعه للادعاء أنه من ريف حماه وحينها استطاع الحصول على منزل بأجرة مقبولة وهي 20 ألف ليرة سورية.
وفي السياق دعا ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي إلى التساهل مع أهالي الغوطة وتقدير وضعهم وعدم استغلالهم من قبل بعض أصحاب المكاتب العقارية.
بلغ عدد سكان إدلب 2،65 مليون نسمة بينهم 1،16مليون مهجر داخليا بحسب منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
رغم ازدحامها وضعف قدرتها على استيعاب المزيد، فإدلب على موعد مع دفعات جديدة من المهجرين قسريا من بقية المناطق المحاصرة (أرياف حمص ودمشق ودرعا) من سوريا، وسط احتمالات عن عمليات عسكرية جديدة محتملة قد تطالها وتتسبب بحركة نزوح داخلي فيها، ليبقى السؤال: أين سيذهب جميع هؤلاء الأشخاص إذا عانت إدلب المصير نفسه كالغوطة؟ هل هناك مدينة سورية أخرى مثل إدلب قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من المهجرين؟