ماذا يريد السوريون من المحاكمات خارج سوريا؟ (1 من 2)


رغم قناعة المحامي والناشط الحقوقي، أنور البني، بأنّ العدالة للسوريين لا تتحقق في محاكم أجنبية بعيدا عن سوريا، إلا أن المسعى برأيه ليس أحكاما بالسجن في أوروبا، وإنما مذكرات توقيف للمحاكم المحلية تفوق بقوتها تلك الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية

28 حزيران 2018

(المحامي والناشط الحقوقي أنور البني في مكتبه في برلين/ تصوير: حكاية ما انحكت)
مايا أبيض

صحفية وسينمائية ومدربة سورية، مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإعلامية.

(برلين)، يوجد اليوم عدد من القضايا التي رفعت في محاكم أوروبية ضد مسؤوليين سوريين متهمين بجرائم جسيمة معظمها مرتكبة في سوريا، كان آخرها إصدار الإدعاء الألماني مذكرة اعتقال دولية بحق رئيس جهاز المخابرات الجوية السورية جميل حسن، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

تعمل منظمات عدّة على جمع الأدلة والشهادات لبناء ملفات صالحة للقضاء الدولي، على الرغم من استمرار الصراع في سوريا وعدم إمكانية الوصول لمعظم مواقع هذه الجرائم، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال: ما الفائدة المرجوة من السعي للعدالة في الخارج لجرائم ارتكبت في سوريا؟ ما هي أنواع هذه المحاكم المختلفة وأي السبل هي الأفضل للوصول للمساءلة والعدالة؟

التقت حكاية ما انحكت مع المحامي، أنور البني، الحائز على جوائز متعددة لعمله في الدفاع عن حقوق الإنسان، للإجابة على بعض هذه الأسئلة، إذ حدثنا في هذا اللقاء عن القوانين والمعاهدات الناظمة لهذه المحاكم، مجيبا على أسئلة: ما هي أهم القضايا المرفوعة حاليا في أوروبا؟ وما الدور الذي تؤديه في تحقيق العدالة للسوريين؟

السيد أنور البني الشهير بمواجهته النظام السوري قضائيا في الترافع عن السجناء السياسيين، يرأس اليوم المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، ومقره في برلين.

هنا القسم الأول من اللقاء، مع مراجعة سريعة للقانون الدولي المتغير باضطراد، ومحدداته بالإطار السوري.

الجزء الأول: التشريع

المحكمة الجنائية الدولية و"قانون" روما:

من قلب الجهود المبذولة لتأسيس نظام قانوني عالمي يلاحق جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية انبثقت معاهدة روما، المعاهدة التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية الدولية في ١٧ تموز ١٩٩٨ ومقرها لاهاي. وقعت عليها ١٢٠ دولة، لم تصادق عليها من الدول العربية سوى الأردن وتونس وفلسطين. كما لم توقع عليها كل من الصين والهند ولم تصادق عليها الولايات المتحدة الأميركية ولا إسرائيل، أما روسيا فانسحبت منها عام ٢٠١٦ دون مصادقة.

أكد النص التأسيسي لنظام المحكمة الجنائية الدولية الأساسي على أنها "مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، في تركيز على احترام السيادة القضائية الوطنية للأعضاء من جهة، وعدم توسيع نطاق اختصاصها بشكل يصعب تطبيقه من جهة أخرى".

كما ورد في النص التأسيسي أنّ الجرائم الخطرة التي "تثير قلق" المجتمع الدولي يجب أن لا تمر دون عقاب ويجب ضمان مقاضاة مرتكبيها.

حددت المادة الخامسة من معاهدة روما الجرائم التي تملك هذه المحكمة اختصاص النظر فيها بالجرائم التالية: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جريمة العدوان، كما شملت اختصاصات المحكمة الجرائم المرتكبة ضد موظفي الأمم المتحدة. فصلت المواد التالية المقصود بكل من هذه المصطلحات، وفيما يلي نبذة مختصرة عن كل منها:

جريمة الإبادة الجماعية (المادة ٦):

الأفعال التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية كلياً أو جزئياً، ومنها: قتل أفراد الجماعة، أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، أو إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها، أو فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، أو نقل أطفالهم عنوة إلى جماعة أخرى.

الجرائم ضد الإنسانية (المادة ٧):

أي من الأفعال التالية المرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أية مجموعة من السكان المدنيين: القتل العمد، الاسترقاق، إبعاد السكان أو نقلهم قسريا، السجن بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، اضطهاد أيّة مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو قومية أو دينية، الاختفاء القسري للأشخاص، جريمة التفرقة العنصرية.

لم تتم إلى الآن إحالة ملف الانتهاكات السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية كون سوريا ليست عضوا مصادقا لمعاهدة روما، وبالتالي لا يمكن إحالة الملف السوري الا عن طريق قرار صادر من مجلس الأمن، كما حصل بالملف السوداني عام ٢٠٠٥ والملف الليبي عام ٢٠١١.

جرائم الحرب (المــادة ٨)

وهي عديدة، تقسم بشكل أساسي للانتهاكات الخطيرة لاتفاقيات جنيف 1949 أو للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة الدولية أو غير ذات الطابع الدولي. تشمل عددا كبيرا من الجرائم، نذكر منها: التعذيب أو المعاملة اللا إنسانية، الإبعاد أو الحبس غير المشروع، استخدام الغازات أو المواد الخانقة أو السامة، الاعتداء على كرامة الشخص وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، تعمّد تجويع المدنيين بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الإغاثية، تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه، تعمد توجيه هجمات ضد المواد والوحدات الطبية، نهب أي بلدة، حتى وإن تم الاستيلاء عليها عنوة، إصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع.

كونها تفتقر إلى قوة تنفيذية وجهاز شرطة خاص بها، تعتمد المحكمة الجنائية الدولية على دعم وتعاون الدول الأعضاء في التحقيق والاعتقال وملاحقة المجرمين. لديها صلاحيات محدودة للنظر في حالات وقعت ضمن دول غير عضوة.

لم تتم إلى الآن إحالة ملف الانتهاكات السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية كون سوريا ليست عضوا مصادقا لمعاهدة روما، وبالتالي لا يمكن إحالة الملف السوري الا عن طريق قرار صادر من مجلس الأمن، كما حصل بالملف السوداني عام ٢٠٠٥ والملف الليبي عام ٢٠١١.

إلا أن روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن، تمنع ذلك. استعملت موسكو، حليفة الأسد الأقوى، حق النقض الفيتو ١٢ مرة لمنع مرور قرارات أممية ضد سوريا.

نظرا لارتهان قرارات مجلس الأمن، يلجأ حقوقيون ومواطنون سوريون للقضاء المحلي في دول أخرى باستعمال مبدأ الصلاحية العالمية حيثما أمكن، والصلاحية الوطنية في حالات المواطنين الأجانب أو السوريين مزدوجي الجنسية من ضحايا الأسد.

أحد أشهر الأمثلة الحالية على تطبيق الصلاحية العالمية هي القضية المرفوعة حاليا ضد دكتاتورية فرانكو في الإرجنتين. بعد موت فرانكو، صدر قانون إسباني عام ١٩٧٧ يمنح عفوا عاما للجرائم المرتكبة ضمن الديكتاتورية، مما أدى لعدم قدرة المحاكم الإسبانية حتى اليوم على محاسبة أي من المجرمين المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بين عامي ١٩٣٦ و١٩٧٧، بما في ذلك التعذيب، عمليات التصفية خارج المحاكم والتغييب القسري.

في عام ٢٠١٠، قدّمت منظمات عاملة في حقوق الإنسان دعوى جنائية لقاضية تحقيق أرجنتينية بالنيابة عن ضحايا إسبان. بالاعتماد على الصلاحية الدولية الممنوحة لها في القانون الإرجنتيني، أصدرت القاضية مذكرات اعتقال ضد ٢٠ من المتهمين. ولا تزال القضية قيد التحقيق.

توجد العديد من القضايا المشابهة الجارية حاليا، كالتحقيقات الجنائية الألمانية والفرنسية في الجرائم المرتكبة في مركز الاحتجاز الأميركي في غوانتانامو من قبل مسؤولين أميركيين ضد مواطنين من جنسيات مختلفة.

الاعتقال أم المحاكمة؟

رغم قناعته بأنّ العدالة للسوريين لا تتحقق في محاكم أجنبية بعيدا عن سوريا، إلا أن المسعى برأيه ليس أحكام بالسجن في أوروبا، وإنما مذكرات توقيف للمحاكم المحلية تفوق بقوتها تلك الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية، يشرح ذلك قائلا:

من أشهر الأمثلة عن مذكرات توقيف المحكمة الجنائية الدولية المذكرة الخاصة بمحاكمة الرئيس السوداني عمر البشير. تمت إحالة الملف السوداني إلى المحكمة عن طريق مجلس الأمن عام ٢٠٠٥، كون السودان دولة غير مصادقة على معاهدة روما. في عام ٢٠٠٩ صدرت مذكرة التوقيف بحق البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لم يقم السودان بتسليم البشير للمحكمة ورفض التعاون معها، بينما استمر المتهم في منصبه كرئيس للدولة، إلا أنّ قدرته على السفر حتى في مهامة الرسمية قيّدت لدرجة كبيرة، حيث لم يسافر بعد صدور المذكرة خارج إفريقيا والشرق الأوسط سوى إلى الصين والهند.

تعتبر محاكمة الرئيس التشيلي السابق بينوشيه من أشهر الأمثلة السبّاقة في محاكمات القضاء الوطني المبنية على الصلاحية الدولية

بالمقابل، تعتبر محاكمة الرئيس التشيلي السابق بينوشيه من أشهر الأمثلة السبّاقة في محاكمات القضاء الوطني المبنية على الصلاحية الدولية. تم اعتقال بينوشيه في لندن عام ١٩٩٨ إثر إصدار محكمة إسبانية مذكرة توقيف بحقه. كانت المحكمة الإسبانية قد قبلت النظر في القضية عام ١٩٩٦ بناء على الصلاحيات الدولية التي يمنحها إياها القانون الإسباني، حيث أن التهم الموجهة إليه كانت بارتكاب جرائم على الأراضي التشيلية ضد مواطنين غير إسبان. إلا أنه بعد مرور عامين على اعتقاله، رفضت الحكومة البريطانية قرارا برلمانيا بترحيل بينوشيه إلى إسبانيا بناء على وضعه الصحي. سمح له بالعودة إلى تشيلي حيث مات بسكتة قلبية عام ٢٠٠٦.

يبدو هذا السيناريو اليوم ضعيف الاحتمال للأسد، حيث حّد الوضع الأمني الخطير من قدرته على الحركة ضمن الأراضي السورية نفسها، عدا عن السفر خارجا. لذلك فإن الاحتمال ضئيل جدا بأن يتم إلقاء القبض عليه أثناء سفره لدولة ثالثة تلتزم بتنفيذ هذه المعاهدات الدولية.

مع ذلك يستمر سوريون ومدافعون عن حقوق الإنسان حول العالم ببذل الجهود القانونية لتحميله ونظامه مسؤولية الجرائم التي ارتكبوها. في القسم الثاني من اللقاء مع السيد أنور البني نناقش أشهر هذه القضايا المرفوعة حاليا في أوروبا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد