(إدلب، سوريا)، غادر مئات من السوريين المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية الآن في أرياف إدلب الجنوبي والشرقي وحماة الشمالي وحلب الجنوبي، نحو المناطق التي سيطر عليها النظام منذ نهاية عام 2017، وهي حوالي 300 ناحية وقرية بمساحة تزيد عن ألفين وأربعمائة كيلومتراً مربعاً في منطقة شرق سكة حديد الحجاز، في عملية نزوح عكسي هي الأولى من نوعها.
رحلة النزوح هذه، هي نتيجة لظروف صعبة تعيشها تلك المناطق، مثل ارتفاع الأسعار وغياب العمل وقلة المساعدات الإنسانية واقتتال الفصائل فيما بينها في محافظة إدلب التي تشكل آخر معقل رئيسي للمعارضة (إلى جانب بعض مناطق محافظة درعا في الجنوب) التي تستوعب عددا كبيرا من المهجرين والنازحين إضافة إلى سكان المحافظة، حيث تكافح المجالس المحلية ومجموعات الإغاثة لسد احتياجات الناس؛ دون أن تتمكن من ذلك. النظام استغل هذا الأمر، وقام بإنشاء ممرات مؤقتة لتسهيل عبور المدنيين من جيوب المعارضة إلى الأراضي التي يسيطر عليها.
سوء الأوضاع المعيشية واستغلال النازحين في إدلب... أحد أبرز الأسباب
يمان الأمير (33 عاماً)، الذي عاد إلى قريته في ريف حلب الجنوبي بعد رحلة نزوح إلى محافظة إدلب دامت أكثر من شهرين، يقول لحكاية ما انحكت عبر الهاتف، أنه "عجز عن تأمين مسكن مناسب لزوجته وبناته الشابات في مدينة أريحا جنوبي إدلب بسبب ارتفاع الأسعار وقلة المنازل الفارغة المؤهلة للسكن، وغياب المساعدات الإنسانية من قبل المنظمات الإغاثية في المنطقة".
ويلفت الأمير أنه اختار العودة إلى قريته التي سيطرت عليها قوات النظام مؤخراً وإجراء مصالحة وطنية مع النظام لحماية عائلته من أية انتهاكات مشابهة لتلك التي سمع عنها في مناطق أخرى، مشيراً بنفس الوقت أنه لا يثق بعهود النظام السوري، وأنّه قد يتعرض للاعتقال في أي لحظة.
وقالت سماح رجوب (36 عاماً) التي عادت إلى قرية الشيخ هلال بريف حماة نهاية شهر مارس/ آذار الفائت، والتي كانت قد نزحت منها باتجاه محافظة إدلب نهاية عام 2017 لـ "حكاية ما انحكت"، أنها كانت تعمل معلمة في إحدى مدارس القرية قبل اشتداد وتيرة القصف والمعارك في المنطقة، وأنها حاولت البحث عن فرصة عمل تستطيع من خلالها تأمين مستلزمات أطفالها، كونها المعيل الوحيد لهم بعد اعتقال زوجها عام 2014، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، فلم يكن أمامها سوى العودة إلى قريتها لمتابعة عملها سعياً منها لتأمين حياة كريمة لأسرتها.
بينما قال أبو مصطفى (مستعار/ 54 عاماً) أنه نزح من قرية الظافرية شرق حماة هرباً من القصف الذي كان يطول منازل المدنيين باستمرار، تاركاً وراءه عشرات الكيلومترات من الأراضي الزراعية موشكة على انتهاء مواسمها الزراعية، مضيفا "كنت أضع في هذه الأراضي الزراعية كل ما أملك من مال جنيته طيلة سنوات حياتي، ولم أكن على عداوة مع النظام السوري أو ملاحق أمنياً، فكان لا بد من عودتي إلى القرية لأتابع مشروعي الذي بدأت به".
يشتكي يوسف مطر (48 عاماً) الذي نزح مع عائلته من قرية "رجم المشرف" بريف إدلب الشرقي من تردّي أوضاعهم المعيشية وغياب المساعدات الإنسانية لهم.
يقول يوسف المقيم اليوم في منطقة دير حسان بريف إدلب في مخيم عشوائي مؤلف من بعض الخيام التي لا يتجاوز عددها العشرين: "لم نجد أحداً يهتم بنا فعلياً، ولم نكن ندري أين نذهب وماذا نفعل. افترشنا العراء عدّة أيام قبل أن نستأجر أرضاً زراعية بنينا فيها عدة خيام مصنوعة من الخيش والبطانيات القديمة المهترئة، في منطقة تفتقر كافة مقومات الحياة، لا كهرباء ولا ماء ولا دورات مياه، وهذه كانت المشكلة الكبرى لدينا بالنسبة للنساء والفتيات، فكان عليهن انتظار غياب الشمس لقضاء حاجتهن أو يحاولن تغطية أنفسهن بقطعة قماشية إن وجدت".
يضيف مطر: "لم يرحم برد الشتاء أحداً من النازحين، فكانت لدينا جولة يومية صباحية للبحث عن كل ما هو قابل للاشتعال، كالعشب اليابس وروث الحيوانات الجاف لإشعال المدافئ التي كنا نستخدمها في التدفئة وإعداد الطعام".
وأشار مطر أن العديد من المنظمات الإغاثية المحلية جاءت إليهم وسجلت متطلباتهم لكنهم لم يعودوا مرة أخرى، وذلك على الرغم من توجيه عدة نداءات للمنظمات الإنسانية والإغاثية، طالبوا فيها ببعض الخيام التي تقيهم برد الشتاء ومستلزمات الأطفال والمواد الغذائية.
ينوي يوسف العودة إلى قريته الواقعة تحت سيطرة النظام في الأيام القادمة ريثما يطمأن على الأوضاع الأمنية في قريته ممن عاد قبله إلى القرية.
ضغط هائل على المنظمات الإنسانية المحلية
وفي هذا السياق يقول منسق الاستجابة (منسقو الاستجابة هم مجموعة من المتطوعين يعملون على التنسيق بين المنظمات الإنسانية والإغاثية والنازحين لتسهيل تلبية احتياجاتهم وتوثيق الأعداد بشكل صحيح، وهي جمعية محلية ليس لها أي شركاء، ولا تستفيد من أي جهة داعمة بالداخل أول الخارج) للمهجرين المهندس، محمد جفا، لـ"حكاية ما انحكت": "تفاجأت المنظمات الإغاثية بالكم الهائل من النزوح الذي بلغ معدله نحو ثلاثمائة عائلة يومياً (ديسمبر 2017 ويناير2018).”
كانت العائلات تفر من العمليات العسكرية في ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي، بين شهر ديسمبر عام 2017 وشهر يناير عام 2018 خلال الحملة العسكرية على قراهم من قبل النظام.
ولم تتمكن منظمات الاغاثة من وضع برنامج استجابة فوري في ظل النزوح المستمر من مكان لآخر. وعلى الرغم من تقديم العديد من المنظمات للسلال الإغاثية الطارئة، إلا أننا كنا بحاجة عشرات الآلاف من الخيام والشوادر والسلال الغذائية والغير غذائية والمنظفات، فباتت المنظمات عاجزة أمام التصدي للوضع الكارثي جراء موجة النزوح". ونعني بذلك موجة النزوح من ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي، بين شهر ديسمبر عام 2017 وشهر يناير عام 2018 خلال الحملة العسكرية على قراهم.
وأضاف جفا المقيم حاليا في مدينة أرمناز بريف إدلب الجنوني، أنّ ارتفاع أعداد الأطفال والصغار زاد العبء على المنظمات كون وجودهم يتطلب التلبية السريعة لتأمين مستلزماتهم وإيجاد وسائل تدفئة وأغذية لهم، خصوصاً أنّ عائلاتهم تبيت في أماكن مفتوحة في الأجواء الباردة.
وبحسب جفا الذي يعمل بشكل تطوعي، ولا يتبع لأي فصيل عسكري أو منظمة، فإنّ منسقي الاستجابة في الشمال السوري قاموا بتوثيق نزوح خمسة وخمسون ألفاً وخمسة وستون عائلة تضم ما يقارب ثلاثمائة وتسعة آلاف وخمسمائة وخمسة وستون شخصا. توزعون على ثلاثمائة وتسعة وسبعين نقطة بريف إدلب، وينقسمون إلى ستة وخمسين ألفاً وثمانمائة وخمسة وأربعين رجلاً وسبعة وستين ألفاً ومئتان واثنان وتسعين امرأة وتسعين ألفاً وثمانمائة وعشرين طفلاً وأربعة وتسعين ألفاً وستمائة وثمانية طفلةً، مشيراً أنهم لم يتمكنوا من توثيق أعداد جميع النازحين بسبب نزوحهم المتكرر.
اقتتال فصائل المعارضة سبب آخر
تركز انتشار النازحين بعيداً عن مراكز المدن في قرى وأرياف محافظة إدلب، حيث البيئة المشابهة لبيئتهم المعيشية الأصلية، ولا سيما في قرى جبل الزاوية والقرى القريبة من الحدود السورية التركية في ريف إدلب الشمالي، لكنهم لم يجدوا الأمان الذي نزحوا من أجله، فبالتزامن مع نزوحهم اندلعت اشتباكات عنيفة بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة بين "جبهة تحرير سوريا" الناتجة عن اندماج حركتي "أحرار الشام الإسلامية" و"نور الدين الزنكي" من جهة و"هيئة تحرير الشام" من جهة أخرى، في محاولة من الأخيرة للسيطرة على المدن والبلدات الخاضعة لسيطرة تحرير سوريا، ولا سيما المعابر الحدودية مع تركيا.
أشارت أم محمد (مستعار/45 عاماً) بحرقة ودموع ملأت وجهها، أنها نزحت من قرية المغارة بريف إدلب الشرقي هرباً من القصف والمعارك الدائرة في القرى المجاورة، إلا أنها خسرت ولدها الوحيد الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من العمر برصاصة طائشة جراء اقتتال فصائل المعارضة في قرية مصيبين المجاورة لمدينة أريحا بريف إدلب الجنوبي.
افتتاح معابر برعاية روسية تركية
اختار أهالي ريفي إدلب الجنوبي والشرقي وريف حلب الجنوبي العودة إلى ديارهم بعد استياءهم من الأوضاع التي شهدوها في محافظة إدلب، ولا سيما بعد انتهاء العمليات العسكرية بسيطرة قوات النظام على قراهم، فقاموا بالضغط على الفعاليات المدنية والمجالس المحلية للمطالبة بافتتاح معابر بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة فصائل المعارضة يضمن عودة جميع النازحين.
وبحسب رئيس المجلس المحلي في ناحية تل الضمان بريف حلب الجنوبي، خالد الحميدي، فقد تم افتتاح معبرا بعد واحد وثلاثين كيلومتراً شرق مدينة إدلب بالقرب من نقاط المراقبة التركية عند قرية "تل طوقان" الواقعة على الطريق الواصل بين مدينة سراقب وبلدة أبو الظهور، وذلك بتاريخ 4/ آذار/2018.
وأشار الحميدي أن افتتاح المعبر تم برعاية روسية تركية، وأن قوات المراقبة التركية ستقوم بتسيير أمور المعبر من جهة ريف إدلب والقوات الروسية من جهة ريف حلب، على أن تقوم العائلات الراغبة بالعودة إلى قراها بتسجيل أسمائها وإرفاقها مع صورة للبطاقة العائلية لتنظيم عبورها بشكل سليم، علما أن هذا المعبر سيبقى مفتوحا بشكل دائم، وبدوام إداري بين الساعة الثامنة صباحاً حتى الثانية ظهراً، على أن يكون يوم الجمعة عطلة أسبوعية.
وأوضح الحميدي أن قوات النظام قد أغلقت جميع المعابر بين مناطق سيطرتها والمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، وأبرزها معبر السعن وأبو دالي بريف حماة الشرقي ومعبر مورك الذي افتتح في ريف حماة الشمالي لتسهيل عبور القوافل التجارية وتسهيل حركة المسافرين عقب انطلاق حملتها العسكرية نهاية العام الفائت.
بينما أوضح الناشط في المجال الإغاثي، مروان الجبل (29 عام)، أنه لا إحصائية لأعداد العائدين إلى مناطق سيطرة النظام، إلا أنهم استطاعوا توثيق عودة ثلاثمائة عائلة إلى ريفي إدلب وحماة ومئتان عائلة إلى ريف حلب الجنوبي غالبيتهم من النساء وكبار السن، منوهاً أنهم اختاروا العودة إلى قراهم للحفاظ على ممتلكاتهم ومنازلهم وخشية عدم تمكنهم من العودة.
وأشار الجبل المقيم في قرية الزربة بريف حلب الجنوبي، أن معظم النازحين هم من غير المتفاعلين مع الثورة السورية، وأنهم كانوا يتوجهون إلى مناطق سيطرة النظام السوري في حماة ودمشق لتسيير تجارتهم وبيع محاصيلهم كونهم من المزارعين ومربي المواشي، مضيفاً أنهم اضطروا للنزوح مسبقاً نحو مناطق سيطرة المعارضة هرباً من القصف الهمجي والمعارك التي احتدمت في قراهم.
وبحسب الجبل، فإن من عاد إلى قريته عاد وهو خائف، تاركاً وراءه خيمة منصوبة أو منزلاً استأجره ليكون له مكان يؤويه مع أفراد عائلته في حال تكرر النزوح من جديد، خاصة بعد ورود أنباء عن عدة اعتقالات أجرتها قوات النظام بحق المدنيين العائدين إلى قراهم مؤخراً.
علما أنه تم افتتاح خمس معابر تجارية وإنسانية بين مناطق النظام والمعارضة شمال سوريا، ثم أغلق اثنان منها وبقي ثلاثة معابر تعمل بشكل دائم وهي: معبر مورك التجاري بريف حماة الشمالي، ومعبر تل الطوقان وهو معبر إنساني لعودة الأهالي في ريف إدلب الجنوبي، ومعبر الشماوية غرب مدينة الباب بريف حلب الشمالي، وهو أول معبر تجاري بين مناطق النظام والمعارضة، وتم افتتاحه في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول 2017، بالإضافة لمعبري أبو دالي وقلعة المضيق التي أغلقها النظام مطلع العام الجاري على أثر العملية العسكرية على المنطقة ولم يعد افتتاحهم حتى اليوم.
إجراءات الجهات المعنية للحد من النزوح العكسي
عملت المجالس المحلية والمؤسسات الإغاثية المعارضة العاملة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة (بعيداً عن المنظمات الدولية كالهلال الأحمر والصليب الأحمر وغيرها) على متابعة أحوال النازحين عقب توافد العديد منهم إلى المعابر التي تمّ افتتاحها مؤخراً بهدف الحد من عودة الأهالي إلى حكم قوات النظام.
وفي هذا السياق، يقول وزير الشؤون الاجتماعية والمهجرين في حكومة الإنقاذ الدكتور، محمد علي عام، لـ"حكاية ما انحكت: "قمنا ببناء عدة مخيمات بشكل عاجل لإيواء النازحين القاطنين في العراء وفي المخيمات العشوائية، وما زلنا نبذل جهوداً كبيرة لمشاركة المنظمات الإغاثية في مساعدة النازحين والمهجرين قسراً من مختلف المحافظات والمدن السورية".
وبدوره، قال مسؤول العلاقات الإعلامية في الجناح السياسي لحركة أحرار الشام، عمران محمد، لـ"حكاية ما انحكت" أنهم عملوا جاهدين على تحييد المدنيين عن الاقتتال الدائر في الشمال السوري وتوفير المكان الآمن لهم من خلال التصدي لأرتال هيئة تحرير الشام القادمة لمحاولة اقتحام المدن الخارجة عن سيطرتها بعيداً عن الأبنية السكنية"، منوهاً أن عناصر جبهة تحرير سوريا انسحبوا من مناطق عدة حفاظاً على سلامة المدنيين بعد توغل عناصر تحرير الشام بين المنازل والخيام.
ولفت محمد: "لا نستطيع إجبار الأهالي على البقاء في مناطق سيطرتنا والابتعاد عن قراهم، لكننا عملنا على توعية النازحين من خلال وسائل الإعلام الخاصة بنا وتحذيرهم من وعود النظام الكاذبة واستعراض نقضه المتكرر للاتفاقات السابقة.