(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
تكون الإجابة عادة: لا أنت ابن خديجة العربية ثم تتعالى ضحكات الموجودين على سذاجة هذا الطفل الصغير، أنا. كنتُ أسأل هذا السؤال دون أن أفهم معناه. في محيطي الكرديّ كانت هذه المقولة شائعة، فإن مثلًا تمّ توزيع كاسات الشاي على كلّ الحاضرين باستثناء شخص واحد، يقول هذا الشخص بصوت عالٍ: "لماذا لم أحصل على الشاي؟ هل أنا ابن عائشة العربيّة؟". لا أعرف من أين أتت هذه المقولة، ربما كانت هناك امرأة عربيّة، اسمها عائشة، تعمل في خدمة أحد الآغوات الأكراد ولم يكن أطفالها يحصلون على الطعام والشراب مثل أولاد الآغا.
أنا وإخوتي، مثلنا مثل الجميع، كنّا نردّد هذه الجملة، لكن إجابتها محسومة دومًا، فأمنا عربيّة في الحقيقة واسمها خديجة، لذا لم يكن من المفاجئ أن نسمع هذا الجواب دائمًا. وعلى سيرة أمي العربيّة، كان يقال لي أحيانًا من أكراد أكبر مني عمرًا أنّ على المرء أن لا يثق بالعرب، باستثناء أمي، فهي طيبة وموضع ثقة ليس مثل باقي العرب!
على كلّ حال كانت حياة عائلتي مبنيّة على احترام الآخر، لكن إذا نظرنا بعمق إلى أسس تعامل وتفاعل عائلات بلادنا وأفرادها مع المحيط، وعائلتي ضمنًا، نرى أنّ هذه الأسس مبنية على القوميّة والطائفيّة والعشائريّة إلى حد كبير، واحترام الآخر هو غلاف هش رقيق لا معنى له حين يجدّ الجد. وإن شئتم عزيزي وعزيزتي دققوا في الجمل التي نقولها في حياتنا اليوميّة بشكل طبيعي، نستعملها دون فهم، جملٌ فيها من العنصريّة ما يفوق التصور والقدرة على الوصف. فكم من مرة تردّد أمامنا، أو ردّدنا، جملًا مثل: "سوّد الله وجهك"، "اللي بياخد من غير ملته بيموت بعلته"، "كول عند يهودي ونام عند درزي/ مسيحي"، "المرشدين بيعبدوا الفرج وبيعملوا حفلات سكس جماعي كطقس مقدس وممكن الواحد ينام مع أخته أو أمه بهالحفلات بدون ما يعرف لأنه الضو بيكون مطفي" يقال هذا عن الإسماعيليين أيضًا.
كلّ القوميات تسخر من كلّ القوميات، ومعظم الناس يظنون أنفسهم أفضل من معظم الناس.
في الجهة المقابلة كنت أقابل بنظرات ازدراء واستنكار كلما تكلمت باللغة الكرديّة في محيط غير كردي، كان يُقال لي بشكل شبه يومي: لماذا تتحدث بلغة غير العربيّة؟ ماذا تقول، هل تشتمنا؟ لماذا لا تعودون إلى بلادكم؟...الخ.
تعالوا لأقصّ عليكم بعضًا من القصص الصغيرة:
في المدرسة الابتدائيّة في مدينة القامشلي، ذات الأغلبية السكانيّة الكرديّة، في الحيّ الكرديّ كان معظم الطلاب والمعلمين أكرادًا، رغم ذلك كان يُمنع علينا التحدث باللغة الكرديّة، بعض الأطفال لم يعرفوا لغة أخرى سواها وكانوا يعاقبون في كلّ مرة يتكلمون فيها باللغة الكرديّة. وفي المدرسة الثانويّة في دمشق كنت أسمع الطلاب يتهامسون وهم يشيرون إليّ: هذا كردي يجب أن نخاف منه.
حين أُجبر أحد أعمامي على أداء خدمته الإلزاميّة على حدود الجولان المُحتل قابل أحد الأشخاص القادمين من إحدى قرى سهل الغاب، كان هذا الشخص يخاف من الأكراد خوفًا شديدًا، وحين سُئل عن السبب، قال إنّ أراد المرء في قريتهم إخافة الأطفال قال له: جاي الكردي ياكلك.
أمي عراقيّة، عاشت في سوريا بدًءا من العام ١٩٨٧. بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق سنة ٢٠٠٣، وبعد موجات اللجوء العراقي إلى سوريا، ارتفعت أسعار العقارات بشكل جنوني، وارتفعت الأسعار لأنّ في البلاد عراقيين. حينها بدأت تنتشر إشاعات، أصبحت بحكم المؤكد أنّ معظم العاهرات في سوريا هنّ عراقيات. وكان من أراد إهانتي من أصدقائي، مزاحًا أو جِدًّا، ينعتني بـ"ابن العراقيّة" قاصدًا قول "ابن الشرموطة"، وهكذا دخلت مشكلات لا حصر لها بسبب نسب أمي العراقي.
مرة كنت برفقة سيدة كرديّة نمشي في إحدى الشوارع الهولنديّة في مدينة روتردام، واصطدم بنا أثناء المشي شابٌ ذو بشرة سوداء. قالت السيدة دون وعي لما تقول: لعن الله هذا الأسود المطلي بالخراء. انصدمت من هذا الوصف المهين خاصة من سيدة مثلها كادت أن تُقتل من قبل عائلتها لأنّها أحبت رجلًا إفريقيًا وأرادت الزواج منه. لاحقًا رضخت وتزوجت كرديًا لا تحبه. قطعت علاقتي بتلك السيدة في ذلك اليوم.
مئات المرات سمعت نكات تُروى عن الأكراد كمثلها: وقع كردي من الطابق العاشر ولم يمت لأنّه وقع على رأسه. وتروى هذه النكتة للدلالة على رؤوس الأكراد اليابسة. وفي نكتة أخرى يُقال إنّ الكردي حين يموت يُرسل الله له اثنان وسبعون ملاكًا، اثنان يحاسبانه على أعماله وسبعون يقنعونه بموته. هذه تُروى للدلالة على غباء الأكراد.
كلّما انتشر خبر على مواقع التواصل الاجتماعي يخص الأكراد بشكل عام، نقرأ تعليقات من نموذج: "البويجية وصبيان الأركيلة صار بدهم دولة"، وفي ذلك إحالة إلى الأعمال التي كان يمارسها بعض الشباب الأكراد في مدن دمشق وحلب وحمص. حتى اليوم يقول لي بعض أصدقائي السوريين، على سبيل المزاح، كلّما هممنا بالدخول إلى مطعم ما: هل تراهن أن كلّ عمال هذا المطعم أكراد؟
أمي عراقيّة عربيّة شيعيّة وأبي سوريٌّ كرديّ سني وبيئة المنزل كانت علمانيّة. هذا جعل من بيتنا مكانًا تلتقي فيه النكات والشتائم الموجهة ضد كلّ الأطراف، فيومًا نسمع تعليقًا على سني ويومًا سخريّة من شيعي ويومًا يخبرنا أحد الأصدقاء عن قصة تسخر من المسيحيين. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، انتشرت سنة ٢٠٠٥ نكتة في العراق، حملها أخي معه إلى البيت حين زار بيت خالته العراقيّة، تسخر من الطائفة السنيّة. تقول النكتة إنّ ولدًا صغيرًا شيعيًا شعر بألمٍ في أسنانه فنادى أمه قائلًا: يُمّا يُمّا سني خايس، فتردّ الأم: ليش أكو سني مو خايس؟ وكلمة خايس تعني العفن والمقصود بقول الأم، هل يوجد شخص سني غير عَفِنْ.
كان يُقال، على سبيل المزاح أحيانًا وعلى سبيل الجد في أكثر الأحيان، في وصف المرأة: "المرة مثل السجادة كل فترة بدها نفضة"، أي أنّ النساء مثل السجاد تحتاج إلى الضرب بالعصي كي تعود كما كانت نظيفة وصالحة للاستخدام. وكان يقال في دمشق: "المرة مثل الاسفنجة إذا ما دعستها بتنفش"، أي إن لم تدهس المرأة بقدمك ستأخذ مساحة أكبر، مثل الاسفنجة التي لا يوجد عليها أي ضغط فيزيائي، هكذا تأخذ المرأة حريتها إن لم تدهس.
كان من أراد إهانتي من أصدقائي، مزاحًا أو جِدًّا، ينعتني بـ"ابن العراقيّة"
عندي المئات من هذه القصص التي تحمل في طياتها الكثير من العنصريّة والطائفيّة والتحيّز ضد النساء، بعضها قصص وحكايات شخصيّة حدثت معي أو أمام عيني، وبعضها حكايات عامة يعرفها الكثير من الناس. بعضها حدث في المدن السوريّة المختلفة وبعضها حدث في دول الشتات والمهجر واللجوء. بعض هذه الأفعال والأقوال صدرت عن أغنياء وبعضها عن فقراء، لا تهم الطبقة الإجتماعيّة أو الطائفة أو الحالة الاقتصاديّة أو القوميّة طالما الموضوع متعلق بالسخريّة من الآخر، كلّ الطوائف تسخر من كلّ الطوائف وكلّ القوميات تسخر من كلّ القوميات، ومعظم الناس يظنون أنفسهم أفضل من معظم الناس.
أتذكر الآن المقولة الشهيرة الي يرددها المثقفون والفنانون بعد أن يقولوا نكتة عنصريّة أو طائفيّة أو جنسيّة: النكات المضحكة هي تلك الطائفيّة أو العنصريّة أو الجنسية (النكات ذات الطبيعة الجنسية، التي تستعمل أعضاء المرأة الجنسية). أما الباقي فغير مضحك. ثم يردف بالقول أنّه لا يقصد شيئًا سيئًا، وقد قال ما قاله فقط من أجل الضحك.