كتب أنطونيو غرامشي ذات مرة نصاً في نقد الحياد، نصاً أعتقد أنه من بالغ الصعوبة تجاوزه في كل مرة تتفسخ فيها المدينة القديمة، وتتعرض جدرانها للتصدّع بفعل تأكلاتها الذاتية وضغط التجديد على ما هو بالي وقديم، ومع ذلك تأبى أن تفسح المجال للمستقبل كي يبدأ بتشييد ما سيأتي.
وإن كان دانتي أليغيري في جحيمه قد سبق غرامشي إلى نقد الحياد، وللحقيقة فإن مقولة دانتي أليغيريه، قد حظيت بشهرة أوسع بكثير حيث حدد لمن يلتزمون الحياد في أوقات الأزمات الأخلاقية، المكان الأكثر ظلمة في الجحيم، فإن أنطونيو جرامشي بحداثته ومفهومه العلمي للتاريخ، قد تجاوز (برأيي) دانتي ومفهومه الأخلاقي عن التاريخ ونقده القيمي للحياد، إذ وضح غرامشي كيف يمكن أن يلعب الحياد دوراً في الحفاظ على المدينة القديمة البالية، بل وقد يلعب الحياد في الدفاع عن المتفسخ دوراً لهو أشد صلابةً وأكثر جدوى من بسالة المدافعين المرابطين على أسوار المدينة البالية.
يقول غرامشي: "إنّ الحياد هو حجر الرحى حول رقاب المجددين، الهور والسبخة المحيطان بأسوار المدينة القديمة، هناك حيث يغرق حماس المهاجمين، هناك في الحياد يحلّ الشر الذي لا يسبّبه مبادرة تلك القلة المجددة، بل تخلّي الكثرة وقعودهم مستسلمين محايدين، يتركون خيوط العفن لتتراكم، خيوط لن يقطعها بعد ذلك إلا السيف، قوانين يمكن أن تصدر في عفن الحياد لن تستطيع إلغاءها إلا الثورة، ويترك الحياد رجالاً في الحكم لن يسقطهم إلا تمرّد عام".
الفن والحياد
من هنا يبدو الحياد كمعضلة تاريخية أو فلنقل كدور تاريخي محدّد عندما تتعرض المدينة البالية للتصدع ويهاجم المجددون، فليس الحياد مجرّد إشكالية أخلاقية فحسب. هنا بالذات يقع دور الفن المحايد، الفن الذي يدّعي الوقوف خارج أسوار المدينة، غير مرتبط بها عندما تتعرّض للهجوم، إذ يدّعي الفن المحايد الإنغماس بقضايا الجودة والاحتراف، مدّعياً أنّ لا دور له ليلعبه، وأنّ الإنسانية هي مبتغاه، ولكن الحياد يؤثر على التاريخ وبشدّة، يؤثر بشكل سلبي. يعزّز الحياد شعورنا الجمعي بانتصار الحتمية، حتمية ليست لنا، حتمية فرضها المنتصر علينا وعلى مجرى التاريخ.
ولعلّ الحديث بهذه الصيغة المجرّدة يبدو نظرياً جداً، و جرامشي هو ليس دانتي على أيّة حال، وهو ليس فايا يونان أو ريحان يونان شقيقتها بكل تأكيد، ولا شك أنّ شهرة الشقيقتين في سوريا لهي أكبر بما لا يفتح أي مجال للمنافسة من شهرة جرامشي، هذا لأنّ للحياد قدرة طينية على ابتلاع المهاجمين على المدينة البالية.
أما عن فايا وريحان، فقد خرجتا للعلن في خريف عام 2014 بعمل موسيقي وبكائي جداً؟ وبعيداً عن أنّ العمل الذي جمع الشقيقتان بعنوان "لبلادي موطني" قد حظي بنسبة مشاهدة عالية جداًعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ منتجهما قد كان تكثيفاً لكل تلك المشاعر البسيطة المنمّقة التي تغرق الجمهور في مستنقع عاطفي هو ذات المستنقع الطيني المحيط بأسوار المدينة البالية وفق توصيف غرامشي، فإنّ ذلك العمل "الفني" كان ينضح باللاسياسة بشكل جعله يتربع على عرش الفن المحايد المتعلّق بما يجري في سورية منذ عام 2011 وحتى الآن، وكأن ذلك العمل كان تكثيفاً لكل ما يتوجب على الحياد قوله وفعله.
يصعِّدُ الفن المحايد عادةَ من أهمية الوقف الفوري للقتل، هو مطلب نبيل بظاهره، ولكن وعلى موقع أبعد بقليل من النبل والأخلاق الحميدة، يظهر دور هذا الفن كمشاركة في تأبيد ما هو راهن
أعود هنا لجرامشي الذي لم أتخلى عنه لأقول بأنّ تباكي هؤلاء الحياديين مقلق للغاية، إذ يظهر تباكي فايا وريحان جميلاً ومنمقاً وكأنه لا يخفي خلف زوايا التصوير المختارة بعناية والصوت المذهل لفايا وتعابير الوجه الممتلئة حزناً لأختها ريحان، مستنقعاً طينياً يخنق حماس كل من يحاول بناء "مدينة المستقبل".
في العمل "الفني" الآنف الذكر، وهو على أيّة حال عمل ذو جودة فنية متدنية للغالية، يتجسّد الموقف الحيادي في القسم المخصّص لسوريا، والذي يتباكى على الوطن الجميل الذي تم تدميره بفعل فاعل غير واضح المعالم، إذ يأتي التباكي على وقع كلمات ريحان المكتظة بالأخطاء النحوية واللفظية (كأن يرفع المنصوب أو أن تستبدل الفتحة ألفاً، والضمة بالكسرة)، إذ لا نعرف ما هي تلك الحرب اللا منطقية والمجنونة والأنانية، ولا من هو الأناني، ومن هو المجنون، من الذي دمّر العقول والنفوس والقلوب؟ كيف يمكن لحرب ألا تعرف البداية؟
محاولة غير جيدة على الإطلاق، لدفع الجمهور للبكاء، يقول جرامشي: "لن أشاطر دموعي معهم، لن أرحمهم".
لم تستطع تلك الظاهرة بكونها تكثيفاً للحياد أن تصمد طويلا، سرعان ما ظهرت الأختان على شاشات النظام السوري ليعلنا تلك القطيعة مع الحياد، بعد أن ثارت شكوكٌ حول وجود موقف مؤيد للثورة في عملها، وخصوصاً أنّ جمهور النظام لم يكن الأسرع في تلقف تلك الظاهرة بل قطاع أوسع من المحايدين و جزء من جمهور الثورة، كان ذلك طيناً وتماماً كما وصفه جرامشي كان خروج الأختين على قنوات النظام سبباً لنشر الإحباط لدى جمهور واسع من مهاجمي المدينة القديمة.
الفنان والدكتاتورية
ورغم أنّ التاريخ المعاصر شهد جدلاً حاداً حول طبيعة الفن وموقعه في الصراعات الاجتماعية، وفي حين يعاد قراءة بيان أندريه بريتون "من أجل فن ثوري مستقل"، فإنّ المزيد من التساؤلات تطرح عن علاقة الفنان سيلفادور دالي وفنه بالديكتاتورية والفاشية. لم يفعل دالي الكثير، جلّ ما فعله هو عدم اتخاذ موقف في حينها، إذ يقول بريتون في المانيفيستو: "أنّ الفن الحقيقي لا يرضى بأن يلعب ضمن أدوارٍ محددة، بل يصرّ على التعبير عن الحاجات الداخلية للإنسان في زمن محدد، الفن لا يمكن إلا أن يكون ثوريا".
وعندما تضاف علاقات القوة محلياً وعالمياً إلى منظورنا في قراءة ما يحصل في سوريا على سبيل المثال، حيث يبدو أنّ نزع صفة التسييس هي محاولة مستميتة من المدافعين عن الوضع الراهن لتأريض أو تشويه صورة المطالب الشعبية بالحرية والانعتاق، إذ يحاول النظام السياسي المسيطر في سوريا نزع صفة السياسي عن تلك المطالب التي اتخذت شكلاً حدّياً مع بدء الثورة في عام 2011، بأن يقنع العالم بأنّ ما يحصل ليس سياسياً كما يدعّي المحتجون، بل "هم طائفيون، مأجورون دفعهم حقدهم للنزول إلى الساحات، ولا مطالب محقة لهم...".
وفي نفس السياق، تأتي قراءة العالم المتحضر لصراعاتنا، نحن من لم تصل مراكبنا شواطئ الحداثة بعد، عاجزون عن صياغة مطالب سياسية، موتنا مجاني. وهنا تأتي الأغنية المحايدة في هذا السياق صرخة "نبيلة" ضد القتل، ولكن قتل من؟ على يد من؟ ما الذي يجب على المرء فعله بعد أن يستمع لبكائية فايا يونان وغيرها على هذا الوطن الذي يدمر و يقتل أبناءه؟ ما خلف الحياد
يصعِّدُ الفن المحايد عادةَ من أهمية الوقف الفوري للقتل، هو مطلب نبيل بظاهره، ولكن وعلى موقع أبعد بقليل من النبل والأخلاق الحميدة، يظهر دور هذا الفن كمشاركة في تأبيد ما هو راهن، إيقاف القتل والدمار هو غاية الفن المحايد غالباً، مطالب من يُقتل ليست بأي شكل من الأشكال على ذات المستوى من الأهمية في فن المحايدين، يعلو لديهم صوت الإنساني على حساب السياسي في الفن المحايد، وهنا يقع موت السياسي، وموت المجابهِ سياسياً هو فعل سياسي. ديناميكية ذاتية التوليد تنفي عن المحايد صفة الحياد، فتجعل تقاطعه مع السلطة الحاكمة أمراً طبيعياً ومنتظراً. من هنا يصبح ظهور سيلفادور دالي مع الجنرال ديكتاتور إسبانيا الفاشية، فرانكوا، في صورة ودية ودعم فايا يونان وأختها لنظام القتل في سوريا ظهوراً متوقعاً، وعلى اتساق مع طبيعة الفن-الأغنية المحايدة، فالحياد في طبيعته انتصار للراهن، والراهن هو انتصار القديم البالي.
يغرقك الفن المحايد في تفاصيل الموت وضرورة وقف القتل، والتباكي على البشر. الفن المحايد في هذا السياق هو فعل يخدم المنتصر، فعل يمكن بسهولة تجييره لتدعيم مواقف من يهتف: "أعيدوا لنا الأمن والأمان"
يغرقك الفن المحايد في تفاصيل الموت وضرورة وقف القتل، والتباكي على البشر. الفن المحايد في هذا السياق هو فعل يخدم المنتصر، فعل يمكن بسهولة تجييره لتدعيم مواقف من يهتف: "أعيدوا لنا الأمن والأمان". وعندما يتم تمييع القاتل وتغييب المطالب السياسية يصبح انتصار البالي القديم تلقائياً.
يمكن في النهاية العروج على ما قيل عن المثقف العضوي، (الفن هو فعل ثقافة)، ويمكن قراءة ما قاله الكثيرون عن الثقافة كفعل مجابهة ضد ما هو سائد وعادي ومتوقع، فدور المثقف هو تحدي كل ما هو سلطوي. وبمناقشة حياد الفن من هذا المنظور يمكن نزع صفة الفنان كفاعل ثقافي عن كل من يقدم الأغنية المحايدة، ولكن يمكن المجادلة بأن هذا التصور هو تصور إيديولوجي يحاول أن يدفع بالفنان لاتخاذ موقف. ولكن وبعيداً عن التصورات الإيديولوجية، يجب التأكيد على أنّ الحياد هو موقف سياسي بالدرجة الأولى، الحياد هو انتصار لمن يملك السلطة في لحظة ما، وبهذا تصبح إشكالية الأغنية المحايدة أنها وبشكل أساسي وحين تدعي عدم اتخاذ موقف سياسي وتفضل التمسك بمواقف إنسانية، فإنها تحاول التحايل على التاريخ والجمهور، ولربما على من منتج العمل أو منتجته في محاولة لإيهام الجميع بأن لا موقف لها، بينما تقف على يمين كلّ الصراعات الاجتماعية، والفن وإن لم يجابه فلا يمكنه بمكان التباكي على أن يضعه النقاد في سياقات الدفاع عن القديم البالي في وجه محاولات التجديد.