- صباح الخير أبو هيثم، انشالله ما بتفارق هالضحكة وجهك..
- عراسي أبو هيثم، حوّل واشرب كاسة شاي.
- لوين أبو هيثم؟ يسعد رب هالصباح وهالوش الحلو. شو أخبار الشباب؟
يتلقى أبو هيثم (اسم مستعار) عشرات العبارات الترحيبية كلما مر من حارته وفي أي وقت. يفرض هذا الرجل الستيني، الذي يصبغ شعره بصبغة شديدة السواد ويحلق ذقنه مرتين في اليوم، حضوراً لطيفاً وإيجابياً أينما حل، بابتسامة هادئة واثقة وعينين تشعان ذكاء وبراغماتية. وعلى الرغم من أنّه تاجر عقارات ومؤجر لأكثر من عشرين مستأجراً، في زمن أصبحت هذه المهنة رمزاً للجشع ونهش لحم الفقراء والنازحين وأعزاء القوم الذين أذلتهم الحرب، إلا أنه كان محبوباً ومحترماً من قبل الجميع تقريباً، يشهد له المستأجرون بحسن المعاملة والأسعار المدروسة ببعض الإنسانية، وهو أمر لا يستهان به ويحسب له مقارنة بغيره.
في الحقيقة، لم تكن تجارة العقارات وتأجير البيوت مصدر رزق أبي هيثم إلا منذ عام 2013، فقد كان قبلها تاجر ذهب في حي تشرين القريب من منطقة برزة والقابون. وفي نهاية عام 2012 أصبح حي تشرين مستهدفاً من الطرفين المتحاربين برصاص القناصة، وتدهورت الأوضاع الأمنية فيه إلى حد كبير، وحصلت اشتباكات وقع بسببها ضحايا من المدنيين. وفي عام 2013 لم يعد بوسع أبي هيثم أن يبقي على محل الذهب في الحي بعد أن شعر بأنّ عصابة سرقة تستهدف المحل، حتى إنّها حاولت تفجير دراجة هوائية مفخخة أمام باب المحل. فباع كلّ ما يمتلكه من ذهب واشترى عدّة بيوت ومحال تجارية في منطقة ركن الدين لكي يقوم بتأجيرها للعائلات الباحثة عن سكن وللمستثمرين الباحثين عن مكان يعملون فيه.
كان أبو هيثم مستهدفاً من عصابات الخطف والابتزاز التي نشطت كثيراً في العاصمة دمشق عام 2013-2014، فهو صاحب رزق لا يخفي ثراءه
كان أبو هيثم يختار مستأجريه بعناية، وكان يفضل ذوي السمعة الطيبة والمعارف على من يستطيعون دفع أجرة أكبر. لم يكن كريماً لدرجة أن يقدم بيوتاً مجانية للنازحين، لكنه كان يحدد بدقة أسعاره التي تظهره بمظهر القنوع الشبعان، وفي نفس الوقت تدر عليه الأرباح.
كان أبو هيثم يتجنب تأجير العسكريين والعائلات التي انخرط أبناؤها في الجيش أو السلك الأمني. لم يكن ذلك بسبب موقف سياسي اتخذه، لم يكن أبو هيثم من النوع الذي يهتم بالشأن العام، كان همه فقط تأمين مستقبل ولديه الشابين وابنته بعد أن توفيت أمهم. وكان فقط يحاول تجنب المشاكل ووجع الرأس الذي يمكن أن يصيبه بسبب التعامل مع الشبيحة، خاصة بعد الكثير من التسهيلات التي قدمتها القوانين التي سنّت وعدّلت خلال الأزمة، مثل قانون يمنع تخلية المؤجر للعائلة المستأجرة في حال استشهاد أحد أفرادها من العاملين في القوات المسلحة، حيث جاء في نص القانون "ولا يحكم بالتخلية للسبب المبين في هذه الفقرة إذا كان مستأجر العقار قد استشهد أو فقد أثناء العمليات الحربية أو أسر واستمرت أسرته في إشغال المأجور دون أن تحصل على سكن من الدولة ويقصد بالأسرة في هذه الحالة الزوجة والأولاد مجتمعين أو منفردين طيلة استحقاقهم أو استحقاق أحدهم للمعاش التقاعدي، وكذلك من كان يعيلهم المستأجر من أبوين وأخوة وأخوات مجتمعين أو منفردين إذا كانوا مقيمين معه في المأجور ويثبت الاستشهاد أو الفقدان بوثيقة تصدر من وزارة الدفاع".
بالتأكيد كان أبو هيثم مستهدفاً من عصابات الخطف والابتزاز التي نشطت كثيراً في العاصمة دمشق عام 2013-2014، فهو صاحب رزق لا يخفي ثراءه، وعلى الرغم من محاولاته للابتعاد عن الخطر والمتاعب إلا أنها لاحقته أكثر من مرة.
بعد شهر وعدّة أيام رمى الخاطفون أبي هيثم على طريق الصبورة في الخامسة صباحاً. وبقي في مكانه مقيّداً لساعات حتى أتى ابنه الأكبر وحمله إلى السيارة ومن ثم إلى البيت
في أواخر عام 2013 كان ابنه الأصغر محمود (مستعار)، وهو شاب في الثالثة والعشرين، يعمل في تجارة الأدوات الكهربائية، يقود سيارته وبرفقته صديقان اثنان على طريق قاسيون. لم يكن الوقت متأخراً، ومن المعروف أنّ الطريق الجبلي محاط بالثكنات العسكرية. اعترض السيارة ما يشبه الحاجز الطيار، تبيّن فيما بعد أنّها عصابة خطف استحوذت على السيارة وقيدت الشُّبَّان وعصبت عيونهم وصادرت هواتفهم. تواصل الخاطفون مع أبي هيثم من خلال هاتف محمود، وطلبوا فدية بمقدار 30 ألف دولار. ثم انقطع التواصل بينهم لفترة من الزمن حسبها أبو هيثم دهراً، ليطلبوا زيادة المبلغ إلى 50 ألف دولار. كانت خسارة أبي هيثم هائلة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يتعامل مع عصابة خطف عادية، وأنّ أغلب العصابات هي من المحسوبين على اللجان الشعبية والأمن في المنطقة، فلم يكن أمامه سوى الانصياع. فسلّم المبلغ واستلم ابنه وصديقيه مقيدين في منتصف الليل في منطقة مقفرة على طريق ضاحية قدسيا، ولم تعد السيارة إلى أصحابها طبعا.
أما ابنه الأكبر هيثم، البالغ من العمر ثلاثين عاماً ويعمل كمحاسب قانوني، فتعرض أيضاً إلى عدّة محاولات خطف. ولكن كان بالغ الحذر بعد تجربة الابن الأصغر، وبات يتجنب الخروج ليلاً أو التنقل وحده في شوارع نائية، وبات يبتعد خاصة عن المناطق التي تعج بقوات الأمن والشبيحة.
كان أبو هيثم مهتماً بسلامة أولاده إلى الدرجة التي نسي معها أن يحتاط لنفسه. وفي بداية عام 2014 تعرّض بنفسه لحادثة خطف كادت تودي بحياته وبكل ما يملك.
في إحدى ليالي شباط الباردة، كان أبو هيثم عائداً إلى منزله بعد يوم عمل طويل. كانت الكهرباء مقطوعة والشارع خالياً تماماً إلا من سيارته المتحرّكة. ركن أبو هيثم السيارة في حارته وتوّجه إلى منزله، عندما أنيرت فجأة أضواء سيارة كانت مركونة وبداخلها أشخاص كانوا ينتظرونه على ما يبدو. وتحت تهديد السلاح والتلويح بقتل ولديه، أُجبر أبو هيثم على الصعود إلى السيارة دون أن يصرخ طالباً النجدة. وضعوا كيساً قماشياً أسود على وجهه وربطوا يديه وقدميه معاً بوثاق واحد واقتادوه إلى مكان ما، كان الطريق إليه بالغ الوعورة. قضى أبو هيثم شهراً كاملاً في غرفة قذرة ومعتمة دون أن يعرف من خطفه وكم كان الثمن المطلوب لكي يطلق سراحه. وبعد شهر وعدّة أيام رمى به الخاطفون على طريق الصبورة في الخامسة صباحاً. وبقي في مكانه مقيّداً لساعات حتى أتى ابنه الأكبر وحمله إلى السيارة ومن ثم إلى البيت. هناك كانت العائلة بانتظاره، ولداه وابنته وزوجها، وفريال. لم تكن فريال من العائلة بعد. لكنها أصبحت كذلك بعد وقت قصير. كانت فريال مصففة شعر أربعينية، غير متزوجة، تعمل في محل صغير استأجرته من أبي هيثم. كانت ثمة علاقة خاصة بين الاثنين، تتجاوز في ودها علاقة صاحب ملك بمستأجر. كان أبو هيثم يستمتع بالحديث معها عن أي شيء، خاصة مع خفة ظلها ولهجتها الغريبة. وكثيراً ما أمهلها بعض الوقت حتى تدفع الأجرة عندما كانت تضيق بها الأحوال، كانت تتأخر أحياناً في الدفع لكنها كانت تدفع في النهاية، لأنها لم تكن تريده أن يراها متطفلة عديمة الكرامة. كانت فريال تعيش في حي يعد منبع الشبيحة في المنطقة، ولم تكن تشك للحظة في أن عصابة منهم هي من قامت بخطف الرجل. كان التحدي فقط هو أن تعرف هويتهم، وتجد من يقبل أن يضغط عليهم لتركه على قيد الحياة، وبأقل خسائر ممكنة.
خاطرت فريال بنفسها وتعرّضت للتهديد المباشر بسبب كثرة أسئلتها وبحثها. لكنّها استطاعت في النهاية التواصل مع الخاطفين عن طريق وسيط والوصول إلى اتفاق معهم لتركه مقابل بضعة آلاف من الدولارات. لم يكن ذلك ممكناً لولا تدخل كبار العائلات والطائفة العلوية التي تنتمي لها والضغط على الشبان الذين قاموا بعملية الخطف وتهديدهم بتسليمهم للسلطات الرسمية.
خاطرت فريال بنفسها وتعرّضت للتهديد المباشر بسبب كثرة أسئلتها وبحثها. لكنّها استطاعت في النهاية التواصل مع الخاطفين عن طريق وسيط والوصول إلى اتفاق معهم لتركه مقابل بضعة آلاف من الدولارات.
عندما عرف أبو هيثم بما جرى طلب من فريال أن تتزوجه، فوافقت. تدخل بعض أصدقائه لتحذيره، فلعلها كانت متواطئة معهم. لكن أبا هيثم كان يثق بحدسه، ولم يكن يراوده أدنى شك بأنّ تلك المرأة أرادت له الخير والنجاة. ولم يدع أياً من تلك الشكوك تصل إلى مسامعها لكي لا تجرح مشاعرها أو تسبّب لها الإهانة.
لم تنته متاعب أبي هيثم، فقد كان يحاول بشتى الطرق أن يجنّب ابنيه مشقة ومخاطر الخدمة العسكرية خلال الحرب الدائرة في البلاد. كان يدفع المبالغ الطائلة لكي يستمر تأجيل ولديه. وحاول إيجاد طرق ليغادرا البلاد إلى الخليج للعمل. لكن ذلك كان مستحيلاً مع التضييق الكبير على سفر وعمل السوريين هناك. حاول أن يجد طرقاً آمنة للسفر إلى أوروبا، لكن كل الخيارات كانت تنطوي على مخاطر كبرى. وفي إحدى المرات أوقف حاجز التفييش أحد أبنائه الذي كان تأجيله العسكري سينتهي خلال شهرين. وقرر الحاجز الاحتفاظ به في الفرع الأمني حتى ينتهي التأجيل ومن ثم سوقه إلى الخدمة. كلف حلُّ هذه القضية أبا هيثم مئتي ألف ليرة سورية، ما يعادل أربعمائة دولار تقريباً، دفعها للحاجز فوراً كي يترك العناصر ولده. وبعد أن انتهت كل المناورات الممكنة، لم يجد بديلاً عن لبنان ليعيش الولدان بأمان. وذلك في انتظار أن تنقضي السنوات الأربع التي يُسمح له بدفعِ بدل الخدمة العسكرية بعدها ومقدارها ثمانية آلاف دولار عن كل ابن.
كل هذه القصص والحوادث والخسارات كانت كفيلة بأن تكسر عزيمة أقوى الرجال، لكنها لم تنل من بطل هذه القصة. لم تفارقه الابتسامة يوماً، كان في كل مرة يتعرض فيها لخسارة مادية يجد طريقة للتعويض عنها، كان بارعاً في إيجاد الحلول. كان وما زال الصخرة التي يستند الجميع إليها ماديا ومعنوياً. صخرة كان يمكن أن تتفتت إلى مئات القطع الصغيرة لولا تدخّلِ فريال، حبِّ حياته، لإنقاذه من حادثة الخطف المشؤومة التي لا يصدق حتى اليوم أنه خرج منها على قيد الحياة.