شهداء من نوع آخر


لم تلاحظ منى تلعثمه كما لم يلاحظ عرجها، كان تواصلاً إنسانياً متحرّراً من كل التصنيفات والأحكام المسبقة، لم تفكر منى بأنّ عليها توخي الحذر أو التعامل معه برسمية لأنه "درعاوي"، ولم يفكر محسن للحظة بأن منى "درزية".

28 آب 2018

(لوحة رسمت خصيصا لهذه الحكاية/ خاص حكاية ما انحكت)
أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

Translated By: بسكال مناسا

(دمشق)، شعرت منى بطعم الدم في فمها، طعم حامض ومر وحديدي، بعد أن عالجها أخوها الأكبر بلكمة قوية على وجهها المبلّل بدموع الهلع. لم يتوّرع عن ضربها مرّة أخرى وكأنه يضرب ندّاً من الرجال على الرغم من صراخها بأنها حامل في الشهور الأولى. عرفت منى عندها بأنّ قرار مكاشفة أهلها بزواجها من شاب "من برّا الملة"، كان قراراً في منتهى السذاجة.

منى فتاة درزية من قرية في مدينة السويداء، في الثلاثينات من عمرها، واحدة من سبعة إخوة وأخوات، جميعهم متعلمون وثلاثة منهم، بما فيهم أخوها الأكبر، سلطان، جامعيون. والدها ووالدتها يعملان في هدوء وسكينة في زراعة  أرضهما الواسعة في القرية. أحد إخوتها الشباب، عامر، سافر سابقاً إلى الاتحاد السوفييتي وتزوّج هناك امرأة روسية مسيحية. وعلى الرغم من امتعاض الأهل ولومهم لابنهم إلا أنهم لم يقاطعوه أو زوجته، بل اكتفوا بأن يستثنوها من المناسبات الاجتماعية التي يمكن تحمل خصوصية دينية كزيارات التعزية على سبيل المثال. كانت العائلة ودودة مع الآخرين وبين أفرادها، وما عدا بعض المنغصات والمشاكل العابرة، كحال الأسر الكبيرة، كانت العلاقة بين الإخوة ومع الأهل طيبة وحميمة.

تزوج جميع الإخوة والأخوات في وقت مبكر، لكن منى تجاوزت الثلاثين من عمرها دون أن تتزوج. كانت صبية لطيفة الوجه وحلوة المعشر، لكنها كانت عرجاء، وكان ذلك كفيلاً بأن لا يقترب منها شباب الضيعة، الذين كان معظمهم يسخر منها عندما كانت وإياهم في المدرسة عندما كانوا أطفالاً. أنهت منى دراستها الثانوية وتوظفت في إحدى المديريات الحكومية في مدينة السويداء، وحين غيّبت عن بالها فكرة الزواج والارتباط ناهيك عن الحب والعلاقة مع الجنس الآخر، تعرّفت على محسن.

في هذه البلاد تنتشر ثقافة الاستقواء على المختلف، والذي يعاني من نقص ما حسب المعايير الدارجة

كان محسن موظفاً منقولاً من درعا إلى السويداء، في الثلاثينات هو الآخر، يعاني من صعوبة التواصل مع الآخرين بسبب مشاكل في النطق لديه، كان يلثغ ويتلعثم حتى أثناء السلام. كان يسمع الهمسات والضحكات الخافتة وراء ظهره، ما زاده توتراً وتلعثماً.

في هذه البلاد تنتشر ثقافة الاستقواء على المختلف، والذي يعاني من نقص ما حسب المعايير الدارجة، ويتصرف حتى البالغون بسطحية وصبيانية مع أصحاب الإعاقة، حتى أولئك الذين يحاولون أن يكونوا لطفاء ينتهي بهم الأمر إلى إحراج المختلف والضغط عليه. ضمن هذه البيئة لم يجد محسن صديقة له سوى منى، التي كانت رغم الخلل في مشيتها أحسن حالاً منه لأنها تعيش ضمن مدينتها ومجتمعها، تستعمل نفس اللهجة والمفردات التي يستعملها الآخرون، وتمتلك نفس الذاكرة المكانية والزمانية التي يحظى بها سكان السويداء. كان أجمل وقت في النهار بالنسبة لمحسن هو الجلوس مع منى في المكتب وقرقعة المتة بمصاصتها التي كانت تغسلها بالماء الساخن عندما تبادلها معه. لم تلاحظ منى تلعثمه كما لم يلاحظ عرجها، كان تواصلاً إنسانياً متحرّراً من كل التصنيفات والأحكام المسبقة، لم تفكر منى بأنّ عليها توخي الحذر أو التعامل معه برسمية لأنه "درعاوي"، ولم يفكر محسن للحظة بأن منى "درزية".

الحب...

وبعد فترة من الزمن، وشيئاً فشيئاً، أحبّا بعضهما حبّاً شديداً. تلامست الأيدي المرتجفة، وتسارعت الأنفاس، وشعر الإثنان بسعادة لا تشبه شيئاً من ماضيهما المثقل بالإحباط والحَرج والنبذ. لكن قرار الارتباط كان شبه مستحيل. كانت منى تسمع قصصاً عن أشياء رهيبة حصلت لفتيات تزوجن من غير درزي، من تعذيب وتشويه وحتى قتل. وتذكرت منى قصة مرعبة تناقلها أهالي الضيعة عن عائلة درزية قطعت قضيب شاب سني تزوج من إحدى بناتها سراً. لم يكن محسن بعيداً عن المجتمعات الريفية، لقد كان في درعا يسمع عن جرائم شرف حصلت بحق فتيات تزوجن دون موافقة الأهل، كان مدركاً بأنّ زواجه بمنى قرار خطير جداً ستترتب عليه عواقب، بالنسبة إليها أكثر منه ربما، إلا إذا حاولوا قتله أو قطع قضيبه، عندها سيكون عليهم التعامل مع أهله وعشيرته في درعا التي لا تزال تحكمها أعراف الثأر.

كانت فكرة الملاحقة والتشويه أو القتل مضحكة ومثيرة بالهلع بالنسبة لمحسن، وفي الوقت نفسه كانت تجعله يرجع خطوتين إلى الوراء ليتقدم عشر خطوات إلى الأمام في علاقته مع منى. إنه يحبها، وهي تحبه، والقانون وحتى الدين في صفه، فهو يستطيع أن يتزوج من أيّة ملة أو دين، فبأي حق يمكن لأي أحد أن يمنعه من الارتباط بها؟

لم تكن منى تتحلّى بنفس الصلاحيات الاجتماعية التي يتحلّى بها محسن، كانت تتخوف من مقاطعة أهلها ومن الجلد الاجتماعي لهم بسبب زواجها بسني، وكانت تتخوف من أن يضربها والدها في أسوأ الأحوال، لكنها لم تكن تشك أبداً في أنهم يمكن أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك. فهم متعلمون مثقفون، وهناك حادثة زواج من غير الملة في العائلة. فما الذي يمكن أن يحدث؟ هناك حلّ لكل شيء، فكرت منى.

قرار الارتباط كان شبه مستحيل. كانت منى تسمع قصصاً عن أشياء رهيبة حصلت لفتيات تزوجن من غير درزي، من تعذيب وتشويه وحتى قتل. وتذكرت منى قصة مرعبة تناقلها أهالي الضيعة عن عائلة درزية قطعت قضيب شاب سني تزوج من إحدى بناتها سراً

بالنسبة لمحسن كان الأمر سهلاً، أخبر والدته التي بقيت من أسرته بعد وفاة والده منذ زمن طويل وهجرة أخيه خلال سنوات الأزمة في سوريا إلى أوروبا. أخبرها بأنه سيتزوج سراً من فتاة درزية، لم تتقبل الأمر بسهولة خوفاً على ابنها، وقصّت عليه قصصاً مروعة عن حوادث قتل حصلت لشبان من درعا تزوّجوا بفتيات من السويداء، تغلغل مزيد من الرعب إلى قلبه لكنه لم يتراجع عن قراره، وقال لأمه: إذا كنت تريدين أن أظلّ على قيد الحياة إياك أن تخبري أحداً بالأمر.

تزوّج الاثنان سراً، كانا يأخذان إجازات ساعية من عملهما ليذهبا إلى منزل صغير  في بناء غير مسكون ليمارسا الحب ويعيشا كأسرة صغيرة. كانت ساعات مسروقة من الجميع، من عائلتها ومن عملهما البيروقراطي التافه ومن زملائهما الساخرين ومن مجتمع لن يدع قرارهما يمرّ بسلام. كانا يشعران بحرية وسلام وسعادة لا يوازيها شيء في الكون على الرغم من غمامة الرعب التي كانت ترمي على كلّ التفاصيل، ظلّها المعتم. كانت المرة الأولى التي يشعران بها أنهما يعيشان حقاً. وكان ذلك يستحق كل عناء وتضحية بالنسبة للإثنين.

مواجهة الحقيقة

بعد شهور قليلة حصل أمر متوقع بين زوجين، حملت منى، وبات الخوف مضاعفاً. لم يعد بالإمكان التحكم بتوقيت مصارحة أهلها، ولم يعد الأمر متعلقاً بها وبمحسن، بل بابنهما أو ابنتهما التي ستحتاج إلى الأمان والقبول في العالم الذي ستأتي إليه.

رغم الخوف والتوتر من التعقيدات التي ستلي المواجهة، قرّرت منى أن تخبر أهلها، منحها شعور الأمومة الذي كان ينمو في داخلها ببطء شجاعة لم تكن تملكها من قبل. انتظرت حتى موعد اجتماع الأسرة الدوري كلّ عطلة نهاية أسبوع في بيت العائلة. طلبت من محسن أن ينتظرها في منزلهما الصغير حتى تتصل به بعد أن تحل الأمر مع أسرتها. قبلته مطمئنة إياه أنّ أهلها ليسوا مجرمين ولا يمكن أن يؤذوها أو يؤذوا جنينها. ربما سيغضبون، بعضهم أكثر من البعض الآخر، لكنها ستحاول إقناع أختها وأخيها الأكبر بالوقوف في صفها.

العائلة التي أصبحت عدوا

عادت منى إلى البيت، كان الجميع متحلقين حول بطيخة كبرى مقطعة ويتناقلون المتة وصحن البزر ويتبادلون الأحاديث والضحكات. جلست معهم قليلاً ثم دخلت إلى غرفة أخرى ونادت أختها سعاد، وهي امرأة أربعينية متزوجة ولديها ثلاثة أولاد في عمر المراهقة. أخبرتها بالأمر، بأنها متزوجة سراً منذ عدة أشهر وتنتظر مولوداً. ظنّت الأخت أن منى تمزح، لكنها سرعان ما شعرت بجدية الأمر عندما سالت دموع منى على وجهها وهي تترّجى أختها أن تساندها. ما حصل بعدها كان غاية في البرود والقسوة والغرابة. وقفت الأخت بوجه خال من التعبير، وكأنها مسيّرة بجهاز تحكم عن بعد، خرجت إلى المضافة حيث كان يجلس الجميع، وعادت بعد قليل مع سلطان وعامر الذي تزوّج بروسية، أغلقوا الباب خلفهم، وقبل أن تتفوّه منى بكلمة لكمها الأخ الأكبر سلطان على وجهها فنفر الدم من فمها.

-دخلك يا خيي، أني حامل!

صرخت منى، وهي تكاد لا تعرف من هؤلاء، لماذا تمتلئ عيونهم جنوناً، وكأنّ شيطاناً تلبّسهم وسلب روحهم. لقد كانوا يضحكون منذ قليل، سلّمت عليهم واحداً واحداً وقبّلت رأسهم. إنهم إخوتها، لعبت معهم عندما كانوا صغاراً في الحرش،  نامت بجانبهم في نفس الفراش، ذهبت معهم إلى المدرسة، تقاسمت معهم الطعام وتبادلت الألعاب والملابس. كيف يمكن لهؤلاء الواقفين أمامها أن يكونوا على صلة بإخوتها؟ لم تجد منى وقتاً لتلاقي أجوبتها، لكمها سلطان مراراً، أما أخوها عامر الذي خالف قوانين العائلة بنفسه فأمسك بخناقها وطرحها أرضاً وجعل يركل بطنها بوحشية، توسلت لأختها التي كانت واقفة بجمود، كان باقي أفراد العائلة قد تجمعوا عند الباب محاولين معرفة ما الذي يحصل.

الغريب في الأمر أن جميع أهل القرية كانوا يعلمون بأن منى أسيرة في منزلها كالشاة التي تنتظر الذبح، ولم يخبر أحداً منهم السلطات، أو يحاولوا التدخل لإنقاذ حياتها

خرجت سعاد وأخبرتهم بأن منى ارتكبت خطيئة لا تغتفر وأن إخوتها يؤدبونها. سمعت منى صراخاً وشتائم بحقها، سمعت أمها تلعنها، وباقي إخوتها يحاولون الدخول لقتلها، لكن سلطان صرخ بهم قائلاً: "لن نقتلها قبل أن نعرف الوغد الذي لطخ شرفنا ونقطّعه إرباً".

انهالت عليها اللكمات والركلات، وبعد أن شعرت بالهلع لسلامة جنينها بعد اللكمة الأولى، كان من الجليّ أنه يستحيل أن تحتفظ بجنينها بسبب كل هذا الضرب الذي استمر حتى غابت عن الوعي.

حبست منى في الغرفة عشرين يوماً دون طعام، أجهضت بكل تأكيد، أبقوها على قيد الحياة كل تلك الفترة فقط لتعترف من وأين هو زوجها "السني"، وعندما فقد إخوتها الأمل في معرفة شيء عنه، ذبحها أخوها الأكبر، الجامعي، بالسكين، ثمّ دخن سيجارة، أطفأها في ساقها العرجاء الهامدة، وسلّم نفسه إلى السلطات مرفوع الرأس لاسترجاعه شرف العائلة ولو جزئياً لأنه لم يقتل الزوج، متلقياً تطمينات من وجهاء القرية والمحامين فيها، بأنه لن يحبس أكثر من سنتين بسبب ملابسات القضية والعذر المخفّف قانونياً.

الغريب في الأمر أن جميع أهل القرية كانوا يعلمون بأن منى أسيرة في منزلها كالشاة التي تنتظر الذبح، ولم يخبر أحداً منهم السلطات، أو يحاولوا التدخل لإنقاذ حياتها. كان شأناً عائلياً داخلياً وشأناً اعتباريا داخل المنظومة الاجتماعية للطائفة لا علاقة للقانون به. أما محسن، فانقطع عن العمل واختفى من السويداء ودرعا ولم يسمع له أثر.

ربما هرب خارج البلاد، كما فعل ذلك الناشط الحقوقي الذي يعرف جميع أهل درعا قصته، إذ أحبّ فتاة مسيحية من مدينته فقتلها إخوتها وتوّعدوا بقتله فهرب وغيّر لقب عائلته تيمناً باسمها، كان اسمها هي أيضاً منى، وكانت أيضاً شهيدة السطوة الذكورية والمذهبية التي تطالب النساء بأغلى ما يملكن، وتضعهن أمام خيارات بالغة الصعوبة، بين الحرية التي تعني الموت والخضوع الذي يعني حياة تعيسة ومديدة.

لربما ماتت منى مقتولة مغدورة من أهلها وجيرانها، لكنها عاشت حرة الإرادة ولو سراً ولفترة قصيرة. هي تجربة من الصعب على إخوتها أن يدركوا قيمتها، وأنهم لن يستطيعوا سلبها ذلك على الرغم من سلبهم لحياتها.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد