ينشر موقع حكاية ما انحكت سلسلة مقالات بالتعاون مع موقع نوى تتناول الثقافة الشفوية، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سوريا. سلسلة بحسب ما قرأت تتناول تجارباً فردية لكتّاب مع طوائفهم، ونظرة تلك الطائفة للطوائف أو القوميات الأخرى في سوريا.
وبالطبع وبعد كل الخطابات الطائفية التي سمعها السوريون خلال الحرب وما قبلها، فمن المفيد الحديث عن منشأ هذا الخطاب وفهمه وتحليله. وبحسب مقدمة الملف فإن الهدف هو جمع هذه الشهادات ومن ثم تقديمها لباحثين متخصصين لقراءة هذه الشهادات والتعليق عليها من زاوية فكرية وبحثية، النقطة غير المنوّه لها في بداية المقال والتي لن تغيّر كثيراً من التأثير السلبي لهذه المقالات.
ضمن الملف، نُشر مقال بعنوان "الشوام وما أدراك ما الشوام"، العنوان يدل بطريقة ما على محتوى ساخر، أو هكذا يُظن للقارئ، إلا أنه لم يكن يحتوي على شيء من السخرية المتعارف عليها، بل احتوى على سخرية حقيقية من الدمشقيين، من "داخل السور وخارج السور"، بحسب تعبير الكاتبة. كما تمّ في كثير من المرّات استخدام كلمات وتوصيفات ما كنت أتوقع قراءتها في مقال ينشر ضمن ملف يحاول فهم جذور الطائفية والقومية في سوريا. كوصف عادات "الشوام" بالتخلف، ووصف الفئة ككل بالشكل المشوّه وادّعاء المظلومية وأصحاب الامتياز، وصفاقتهم كأكثرية.
وأنا هنا لا أهاجم الخطاب المنقول عن لسان "الشوام" لأنّ هدف الملف هو نقل خطابهم المناطقي والطائفي من غير تحليل. لكن كاتبة المقال نفسها اختارت أن تحلل "الشوام" وتصرفاتهم وتملي على القارئ نظرتها لهم.
ليست المشكلة في تناول موضوع الثقافة الشفوية لمجموعة من الناس، لكن المشكلة في نقل هذه الثقافة من دون محاولة تحليلها منطقياً والبحث في أسباب نشوئها وأثرها
وللتوضيح، هذا الرد ليس محاولة للدفاع عن الشوام أو غيرهم من السوريين، فلكل مشاكله وخطاباته الطائفية الخاصة به، وإنما بصدّد نقد طريقة طرح لا تخدم القضية المعلن عنها ضمن الملف، بل يفتح باباً جديداً للكراهية ويعطي مساحة للخطابات الطائفية. كما وأنني لست بصدد الترويج للصوابية السياسية كطريقة للتعامل مع الخطابات الطائفية في سوريا، أو منع نقد الآخر أو الاستفهام عن ثقافته. فلا أعتقد أن الصوابية السياسية المروّج لها عالمياً يمكن أن تحمي أحد من الشعور بالكراهية تجاه آخر، فمن غير الممكن معالجة مشكلة مجتمعية بالصمت والتظاهر بعدم وجودها.
و كما يجادل سلافوي جيجيك، الفيلسوف الأوروبي، فإنّ الطريقة الأضمن لكسر الصور النمطية والكليشيات المتعلقة بالآخر هو الحديث بها صراحة، لكن بطريقة ساخرة، ويشدّد أن الحديث بها يجب أن يكون بطريقة ساخرة وخفيفة لجعل تناول هكذا موضوع أسهل على الأطراف كلها. هذا دفعه لأكثر من ذلك فنشر كتاب "نكت جيجك"، الذي يجادل فيه أنه لا يمكن تناول موضوع مُحمّل بذاكرة كراهية أو عنصرية أو عرقية من دون روح ساخرة ونكتة.
إلا أن كمية الكراهية المنقولة بشكل فجّ وغير مدروس وغير أمين برأيي على لسان "الشوام" ضد غير الدمشقيين مخيفة. وعلى ما يبدو، فإن قرار نشر المقال وترجمته جاء من أن للكاتبة أحقية الحديث عن الشوام السنة، كونها شامية وسنية، القاعدة الأولى لثقافة النقد داخل المجموعة. لكن هذا في حال النقد والتحليل أو نقل الخطاب بأمانة لا في حال إنتاج خطاب كراهية جديد.
إنتاج محتوى طائفي
ليست المشكلة في تناول موضوع الثقافة الشفوية لمجموعة من الناس، لكن المشكلة في نقل هذه الثقافة من دون محاولة تحليلها منطقياً والبحث في أسباب نشوئها وأثرها. ما أدى في هذه الحالة للمبالغة في تبسيط منشأ الخطاب oversimplification، والوصول لنتيجة أنّ هذه المجموعة تنتج خطاباً طائفياً ومناطقياً فقط لأنها تمثل الشر المطلق وتمتلك من الفوقية القدر الاستثنائي، ما يدفع القارئ للنظر إلى المجتمع السوري بثنائية الخير والشر المطلقين.
خطاب الطائفية أيضاً يحتوي على التقليل من شأن الثقافة الشعبية والتقاليد للآخر
خطاب الطائفية أيضاً يحتوي على التقليل من شأن الثقافة الشعبية والتقاليد للآخر، السمة البارزة في المقال أيضاً. كالقول أنّ "الشوام" قد قاموا بجلب عاداتهم معهم للريف والتي تتجلى في الأعراس التي انتقلت من الاحتفالات المختلطة في الساحات لاحتفالات "تعري" بين النساء. أو القول بأنّ اختيار الاحتفال بالصالات ما هو إلا بسبب "الكبت" و"الردة الاجتماعية" دون البحث في الأسباب الأخرى. أو أيضاً القول "يتفاعل التاريخ القديم، السياسة وتغييرات الديموغرافيا كلها في نسج علاقة الشوام بغيرهم، وببعضهم تنخر علاقات الفقر والغنى، ويفقدون فرصتهم في التعرف على ثقافات وصلت حتى عندهم، غيّرت وجعلت من مدينتهم أكثر مدنية، لاختيارهم أن ينظروا لكل آت كمحتل، ثم ينسجوا علاقات مصالحهم مع المحتلين الحقيقيين، فيثبتون مظلوميتهم الحقيقية، ويغفلون جوانبها الإيجابية، ويتعالون دوماً خاسرين، لا غاية لهم إلا العيش والاستمرار، ووجودهم غير مؤثر إلا كشركاء لنظام مستغل." التحليل والاتهام المفاجئ حقاً في شهادة من المفروض أن لا تتطرق للتحليل، لكن التحليل غير المدروس مغروس فيها.
الريف/المدينة..
الثنائية الأكثر انتشاراً في المجتمعات هي ثنائية الريف والمدينة. كان من الأجدر إذا كان قد فتح باب التحليل بجمل كصفاقة الأكثرية وتوصيف أفعالهم بالتنمرية، أن يتم على الأقل وكبداية توضيح ثنائية الريف والمدينة الحاكمة لعقلية الدمشقيين "الشوام"، حتى لا يسوّق لهذا الخطاب على أنه فعل كراهية صرف غير مفهوم مصدره، أو أنه نابعٌ من إحساسهم بأنهم هم الثابتون والباقون عبر الزمن أيضاً حسب توصيف كاتبة المقال.
العديد من المجتمعات حتى اليوم لم تتجاوز الثنائية تلك، والتي أسست لمفهوم الطبقة الاجتماعية Social Class، والتي تُلحق بها الحالة الاقتصادية، والتصرفات أو "الأصول" ( manners). وبحسب ماركس فإن كل طبقة اجتماعية تحتوي على مجموعة من الأفراد تتقاسم مصالح اقتصادية مشتركة وتتشارك في عمل جماعي يختلف عن المجموعات الأخرى داخل المجتمع، لتشكل هيكلاً إنتاجياً خاصاً بها ووعياً طبقياً جمعياً، المنشأ الأهم للصراعات الطبقية، والتي يعتبر "الشوام" غير بعيدين عنها إطلاقاً. إذ شكّل الشوام عبر العصور وعياً طبقياً جمعياً يفرق بينهم وبين أبناء الريف، والذين أيضاً (أبناء الريف) قد شكّلوا بدورهم وعياً جمعياً خاصاً بهم، ومن هنا تأتي العلاقة الشائكة بين الاثنين.
شكّل الشوام عبر العصور وعياً طبقياً جمعياً يفرق بينهم وبين أبناء الريف، والذين أيضاً (أبناء الريف) قد شكّلوا بدورهم وعياً جمعياً خاصاً بهم، ومن هنا تأتي العلاقة الشائكة بين الاثنين.
وهذه الثنائية ليست في سوريا حالة استثنائية ولكن بالطبع بارزة أكثر. ففي المجتمعات التي نصفها بالمتطورة كالمجتمع الأوروبي، ما زال من الممكن لمس وجود الطبقة الاجتماعية. فالقارئ في روايات جين أوستن وويليام ميكبيس ثاكيراي، اللذين حاولا تحليل الطبقة الاجتماعية في انجلترا منذ أكثر من قرنين، يرى أنّ أعمالهما ما زالت ذات صلة بالواقع الذي يعيشه معظم الإنكليز اليوم. وفي مقاربة سورية سريعة، نجد أنّ الشوام لا يختلفون كثيراً عن أبناء حلب المدينة أو حماه أو حتى طرطوس المدينة، التي تحكمها ثنائية الريف والمدينة والذي يقال عنها اصطلاحاً، ثنائية الطبقة الاجتماعية The two class dichotomy.
تذكر مقدمة الملف أن هذه الشهادات المنشورة ستقدم لباحثين متخصصين كما ذكرت سابقاً للتحليل ومحاولة ربطها بما نمر به في حال وجود رابط، من دون ذكر من هم هؤلاء المختصين أو تاريخ نشر التحليل، أو ما الضامن لمن قرأ مقالاً كهذا أو غيره أن يقرأ التحليل. فهم جذور الطائفية والقومية يحتاج لتحليل خطاب حقيقي Discourse Analysis، لا لنشر شهادات مؤججة لمناطقية مكبوتة أو منسية، حتى لا ننتهي لتصوير الفئة المنتجة لهذا الخطاب على أنها الفئة "الشريرة" وحدها، بل من المهم التوضيح المرافق لهكذا شهادات وتسليط الضوء على العوامل السياسية والاجتماعية والتاريخية التي مرت بها سوريا والتي أدت لإنتاج هذه الخطابات.