هناك حين تحولت سجون سوريا إلى مسالخ بشرية ترتكب فيها شتى الجرائم والمجازر والإعدامات بحق الآلاف من المعتقلين السياسيين والمعارضين، وقبل ثلاث سنوات من الآن، راح أحمد (اسم مستعار، 30عاماً) ينتظر مصير صديقه حيان (26عاماً)، والذي طلب للتحقيق في سجن صيدنايا، الكائن في مدينة صيدنايا بالقرب من العاصمة دمشق.
في تلك الزنزانة الفردية، كان يجتمع أكثر من عشرة شبان، نصفهم يقف بينما يجلس النصف الآخر ليستريحوا قليلاً. هواجس عديدة راحت تدور في رأس أحمد: هل يعذبونه الآن؟ أم أنّهم تخلّصوا منه؟
يقطع أفكاره المرعبة فتح الباب الحديدي ليركل حيان إلى الداخل بقوة فيقع أرضاً. كان الدم يسيل من أنفه وفمه وآثار الركلات واللكمات بدت واضحة على وجهه، أسرع إليه أحمد ليساعده على النهوض وراح يمسح عن وجه حيان الدماء المتناثرة بقطعة قماش، لطالما حافظ أحمد على نظافتها لهذا الغرض. وحينها نظر حيان لصديقه أحمد بيأس متناهي ولمعة الدمع في عينيه قائلاً "عالجادر خيي أحمد..عالجادر" (وفق تأكيد أحمد الذي عاش كل تلك الأحداث). فلم يكن من جميع المعتقلين إلا أن بهتوا وساد الصمت في المكان، ليقطع أحدهم هذا الصمت بعبارة: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
كلمة جادر، كانت مصدر رعب للمعتقلين، ولعل الكثيرين يجهلون ما هو الجادر ولماذا كان المعتقلون يخافون منه. إنه وسيلة إعدام ابتكرها جلادو النظام داخل السجون، في سجن صيدنايا العسكري سيء السمعة، إذ أعدم الكثير من الأبرياء بالجادر وبدم بارد، حيث كان الجلادون يتلذذون بمعاناة المعتقل قبل موته.
يتم استدعاء المعتقل مقيّد ومعصوب العينين، ثم يقتاد لغرفة الجادر، وهي آخر مكان يدخله المعتقل في حياته قبل نزوله القبر. والجادر هو قطعة كبيرة من القماش البلاستيكي العازل، غالباً ما يستعمل كأغطية للسيارات أو لصنع الخيام، إذ يوضع المعتقل وسط الغرفة ويحرر من قيوده ثم يغطى بالجادر الذي يُشد بإحكام إلى زوايا الغرفة الأربعة بحيث تصبح أرض الغرفة كلها مغطاة بالجادر فيما المعتقل تحته. وهنا تبدأ أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ بحق الإنسانية حيث يجتمع جلادو النظام السوري للاستمتاع بقتل نفس بريئة، كل ذنبها أنها أرادت بعض الحرية والكرامة التي افتقدتها لعقود، حيث يقومون بإحضار قضبان حديدية ومطارق بأوزان ثقيلة ويبدؤون بضرب المعتقل بكل قوتهم، وبينما هم يتباهون بمن هو أقوى ويوّجه ضربات أكثر، تختلط دماء المعتقل بملامحه، فتتكسر عظامه وتعلو صرخاته ثم يبدأ بالاحتضار وهم يتابعون ضربه وكأنهم وحوش مفترسة تكالبت على نهش لحم فريستها الضعيفة.
كان اختيارهم للجادر تحديداً لأنه يعتبر عازلاً فلا يتطاير دم المعتقل عليهم، وإنما يسيل بصمت على الأرض دون أن يزعج أولئك الوحوش، فيتحوّل المعتقل إلى قطعة لحم متداخلة الأعضاء والملامح وينتهي به الأمر إلى مقابرهم الجماعية.
كان اختيارهم للجادر تحديداً لأنه يعتبر عازلاً فلا يتطاير دم المعتقل عليهم، وإنما يسيل بصمت على الأرض دون أن يزعج أولئك الوحوش، فيتحوّل المعتقل إلى قطعة لحم متداخلة الأعضاء والملامح وينتهي به الأمر إلى مقابرهم الجماعية.
عامر السرج (32عاما) أحد المعتقلين السابقين، من بلدة كنصفرة، اعتقل عام 2014 وحرّر عام 2016، تم اعتقاله على إحدى حواجز النظام أثناء توجهه لقبض راتبه، وهو اليوم يعالج في ألمانيا من العاهات والأسقام التي تسبّبت له فيها سنوات اعتقاله. أكد أنه عايش تلك الوسيلة التي وصفها بالقذرة داخل سجن صيدنايا، فقد نفذت وسيلة الإعدام بالجادر بحق الكثير من المعتقلين الأبرياء حيث يقول: "أكتر شي كنت خايف منو هو الاعدام بالجادر، كانوا كل يوم يسحبو واحد أو تنين ليعدموهن بالجادر، وكانوا يصرخوا بأعلى صوتهن: "قوم ولا عالجادر قوم"، وهون كنا نحنا نرتعب كثيرا بعدما نتخيل شو ممكن يواجه هالشخص المعتر".
ينظر أحمد إلى صديقه حيان بأسى، وقد تلعثمت الكلمات ووقفت عاجزة عن قساوة الأمر. حيّان من مدينة حمص خريج جامعة البعث قسم الرياضيات، تم إحضاره إلى السجن على خلفية محاولته الانشقاق عن جيش النظام بعد أن اقتادوه للتجنيد الإجباري أواخر عام 2014، أخلاقه العالية وجسده النحيل لم تشفع له، إجرامهم الذي كان يطال الجميع دون استثناء.
مضت كل دقيقة على أحمد وحيان وكأنها الدهر، وبعد أن جمع حيان أنفاسه المتقطعة ومسح بيده جبينه الذي يتصبّب عرقاً راح يتحدث إلى صديقه أحمد: "خيي أحمد أنا مصيري انعرف وهوي الموت. بتمنى يكون حظك أحسن مني ويطلقوا سراحك. وصيتي إلك إذا طلعت من السجن تروح لعند أمي وتقلها لا تزعل علي، أنا تمنيت الموت ألف مرة على إني كون جندي لهالنظام ولهالجيش الخاين، تمنيت الموت ألف مرة وما كون سفاح متلهم وأتحول لقاتل يقتل أبناء بلدو، وهاي اللي تمنيتو رح يصير".
كان حيان مقبلاً على الزواج من خطيبته مها (25عاما)، وهي من مدينة حمص، إذ ناضل لتكون من نصيبه بعد أن رفضه أهلها مرات عديدة، غير أنهم وافقوا أخيراً نزولاً عند رغبة ابنتهم واحترامهم لحب حيان الكبير لها. كان يحلم بإنجاب الكثير من الأبناء، وأن يستقر بحياة هادئة ويعمل بمجال التدريس ضمن اختصاصه، كان يحلم بحياة كريمة كبقية البشر، غير أنّ أحلامه لم تتحقّق، وإنما راح ينتظره أبشع مصير ممكن أن يواجه شخصاً ما وهو الإعدام تحت الجادر.
هذا النوع من الأحكام لم يكن يتخذ عن طريق محكمة قضائية أو عسكرية، وإنما كانت تنفذ حسب مزاجية المحقق الذي كان يقرّر مصير أي معتقل يعرض عليه، والتهمة الموجهة والجاهزة والمعروفة: "بدك تخون وطنك وقائدك يا ارهابي يا خاين.. بدك تنشق، عامل حالك زلمي، والله لألعن.. ياابن الـ.."، وما إلى ذلك من الألفاظ البذيئة..
كان أكثر ما يتمناه المعتقل داخل صالات التعذيب، تلك هو أن يحظى بموت دون ألم، أن تنتهي عذاباته بطلقة في الرأس أو حتى بالشنق أو الذبح
تلك العبارات كان يرافقها الكثير من الضرب والإهانات بحق المعتقل، لتبدأ بعد ذلك حفلات التعذيب بحق المعتقلين، سواءً الجدد أم القدامى، إذ لا يكاد يمضي عليهم يوماً واحداً دون جلد وشبح على الأقل لمدة ساعتين.
كان بعض المعتقلين من كبار السن أو ممن يعانون بعض الأمراض لا يحتملون التعذيب، فلا يخرجون من تلك المسالخ إلا جثثاً هامدة، وطويل العمر هو فقط من يستطيع الخروج ليعود إلى معاناته في اليوم التالي، كان أكثر ما يتمناه المعتقل داخل صالات التعذيب، تلك هو أن يحظى بموت دون ألم، أن تنتهي عذاباته بطلقة في الرأس أو حتى بالشنق أو الذبح. غير أن ذلك كان صعب المنال لأن المعتقل لا يموت قبل أن يلقى كل أنواع العذاب، وبشتى الوسائل فيكون موته ببطء، ما يزيد في معاناته.
مضت تلك الليلة وعينا أحمد وحيان لم تذق طعم النوم، كانا ينظران لبعضهما طوال الوقت في محاولة للوداع ولكن دون تصريح بذلك. راح أحمد يهوّن على حيان رغم أنه لا يمكن لأي كلام أن يهوّن عليه مما يشعر به في تلك الساعات.
"يارجل أنت من أول ضربة على راسك ما بتعود بتحس بشي وبتستشهد وبتروح عالجنة، بس العترا علينا إللي كل يوم مننضرب ومنتعذب ومننهان بس من دون ما نموت، صدقني الموت عندي أهون بكتير من هالحياة الي عايشينها ومن هالذل الي عمن شوفوا ومنتعرضلو.." قال أحمد.
قاطعه حيان، قائلا: "عليكم بالصبر مابتعرف خيي أحمد بلكي إن شاء الله بتطلعوا سالمين ، الله كريم ".
كم أراد أحمد أن ينفجر بالبكاء، ولكن حرصه على مشاعر حيان كان يردعه ويجعله يلجم دموعه الساخنة.
حلّت الساعة التاسعة صباحاً وفتح باب الزنزانة لجولة تعذيب جديدة، حيث تم إخراج جميع المعتقلين ما عدا حيان الذي اقتيد بمفرده إلى مصيره المحتوم.
مضت ساعات على أحمد، تخللتها الكثير من الضرب والشبح والإهانات ليعود مع رفاقه إلى زنزانتهم وهم في حالة يرثى لها، فكل عضو من أجسادهم العارية يؤلمهم، مرّوا أمام غرفة الجادر، حيث كانت لا تزال الدماء تسيل إلى خارجها، وكان بابها مفتوحا، ولا يزال جسد حيان الطري الذي تحوّل إلى كومة لحم قابعاً تحت الجادر ولم ينقل جسده بعد إلى مثواه الأخير.
وهنا لم يستطع أحمد إلا أن يبكي وتتساقط دموعه دون توقف، فلم يعد حيان في الوجود ليشاهد يأسه وضعفه وقهره، بكى وبكى.. وإنما بصمت. ولم يكن قادرا على تحديد على من يحزن: هل على مصير حيان الشاب المهذب والخلوق، والذي قضى دون أي ذنب ارتكبه وبأبشع الوسائل؟ أم على نفسه التي لم تعد تحتمل كل ذلك القهر والذل والألم والهوان؟ أم على وطنه الجريح الذي راح أرذاله يحكمون أشرافه والذين غدت حياتهم بأيديهم؟
حين دخل أحمد السجن كان بشراً ككل البشر، ولكنه حين خرج منه أمسى حطاماً ككل الحطام.
أحمد من مدينة حلب، وهو اليوم موجود في الولايات المتحدة الأمريكية، اعتقل عام 2013 على خلفية مشاركته في المظاهرات السلمية، قضى في السجن 3 سنوات هو محامي ولكنه لايعمل اليوم في مجاله ويعيش لاجئا ككل اللاجئين السوريين.