(بيروت)، العناوين العريضة والفضفاضة، التي يطلقها المسرحيون العاملون في نطاق المنظمات غير الحكومية، هو أمر اعتدنا عليه؛ وفي هذا السياق لا يبدو عنوان "من سوريا ولسوريا – النساء السوريات كصانعات للسلام"، الذي اختارته فرقة "وصل" المسرحية التابعة لجميعة "لبن" اسماً لعرضها الذي أقامته ليلة الجمعة في الاستوديو الخاص بها في بيروت، عنواناً غريباً؛ كما أن الأهداف التي أعلنت عنها "وصل" لإقامتها هذا العرض بعد ورشة عمل استمرت ثلاثة أشهر، والمتمثلة بتدريب مجموعة شابات وشبان من سوريا على مهارات مسرح إعادة تمثيل الواقع بهدف استعماله كسلاح للقضاء على التفرقة والحرب، لا تبدو أهدافاً غريبة على الجمهور السوري في لبنان، فقد اعتدنا على سماع شعارات طنانة كهذه في الأعوام الأخيرة في افتتاحيات العروض المسرحية الرديئة.
كل هذه المقدمات كانت توحي بأن العرض الذي كنا سنحضره رديء بالمستوى الاعتيادي، كأي عرض آخر من عروض إعادة تمثيل الواقع التي تُقام بشكل دوري في لبنان؛ حيث أن فرقة "وصل" نفسها تعرض شهرياً عرض من هذا النوع منذ عدة سنوات تحت عنوان "قصصكم على المسرح"، بالإضافة لعشرات المنظمات الأخرى التي اتخذت من هذا الشكل المسرحي منهجاً علاجياً للقضاء على العنف، مثل منظمة "بسمة وزيتونة" التي أطلقت برنامج "التربية على السلام" قبل ما يقارب 4 أعوام، وطبقته في مراكزها المتواجدة بعدة مخيمات في لبنان، كمخيم شاتيلا ومخيم برج البراجنة، واستخدمت تقنيات مسرح "البلاي باك ثياتر" في جلساتها الخاصة مع الأطفال كأسلوب علاجي.
مسرح إعادة تمثيل الواقع، هو شكل مسرحي أسسه جونثان فوكس وجو سالس سنة 1975، في مدينة نيويورك، وانتشر حول العالم في التسعينات، ولكن العرب تأخروا بممارسته إلى ما بعد سنة 2011
ومسرح إعادة تمثيل الواقع، هو شكل مسرحي أسسه جونثان فوكس وجو سالس سنة 1975، في مدينة نيويورك، وانتشر حول العالم في التسعينات، ولكن العرب تأخروا بممارسته إلى ما بعد سنة 2011. ويقوم هذا النوع من العروض على إعادة تمثيل قصص حقيقية يسردها الجمهور بشكل إرتجالي، باستخدام الموسيقى والأداء الحركي واللفظي. وعادةً ما تفقد العروض في لبنان حساسيتها، لأن الأداء المبتذل للقصص المسرودة لا يشجع الجمهور على مشاركة قصصهم الحقيقية غالباً، وإنما يستخدمون ساحة العرض لاستعراض ثقافتهم أو إنسانيتهم، كما حدث في العرض الأخير، حين قام أحدهم باستعراض إنسانيته وحساسيته المفرطة من خلال قصة ذكرها، حيث جرح إصبعه، وتذكر من خلال ألمه البسيط آلام اللاجئين والفقراء الذين يقابلهم بالمنظمة حيث يعمل، فبكى. وبسبب استسهال القائمين على هذه العروض لهذا الشكل المسرحي، فإنه لا ينتج سوى عروض رديئة، قلما تخرج منه لحظات جيدة.
لكن العرض الأخير سار بشكل أسوأ من المتوقع، وذلك بسبب القصة الأخيرة التي سردت بنهاية العرض. حيث اعتلت خشبة المسرح سيدة سورية، بعد أن أبدت رغبة بالكلام وتمنعت، ليقوم ميّسر العرض بإقناعها بالظهور، ويشجعها الجمهور المحيط بها وتنهض لتلبي رغبة الجماهير، بطريقة استعراضية رخيصة؛ استمرت رغم وجود ما لا يقل عن خمسة أشخاص آخرين كانوا مستعدين لأن يقفوا على المسرح ويسردوا قصصهم؛ وبعد أن قام ميسر العرض بتقديم السيدة باعتبارها "صانعة سلام"، وأنها من المشاركات بالورشات النسائية التي يدعمونها، بدأت السيدة بحديثها الاستعراضي، والذي تضمن مفارقات لا يقبلها عقل.
فاستهلت السيدة حكايتها بالحديث عن أخيها المختطف من قبل "الإرهابيين" بإدلب لتكسب التعاطف، الذي حدث بالفعل، قبل أن تستعرض نشاطها الإنساني الغرائبي كصانعة سلام وطائفيتها وآرائها السياسية؛ فقالت: "أنا علوية، ولدي مشكلة مع كل السنة"، وذلك لأنهم خربوا سوريا برأيها من خلال قيامهم بالثورة؛ لتتهم الثورة السورية بأنها ثورة إسلامية طائفية، كما يدعي النظام، وتغفل مشاركة آلاف الثوار من العلويين والطوائف الأخرى، وقالت: "على السوريين أن يتحابوا كما كانوا قبل الأزمة"، كما قالت: "أملنا بالجيش بإدلب" ضمن خطابها المباشر عن صناعة السلام، ليبدو أن السلام بمفهومها لا يتم إلا بعد أن يقوم جيش الأسد بإبادة إدلب كما أباد مدن أخرى من قبل.
وعندما حاولنا الاعتراض على هذا الكلام ومناقشته، بالاستفادة من شكل مسرح "إعادة تمثيل الواقع"، الذي من المفترض أنه يتيح للجمهور مساحة حرة للنقاش، قام ميّسر العرض بممارسة سلطته القمعية لإخماد أي صوت لا يقبل التطبيع مع نظام الأسد؛ ليوضح هذا الموقف التحول الذي طرأ على عمل المنظمات "الإنسانية" في لبنان، التي يبدو أنه لديها الرغبة بالدخول في سوق الـ"إن جي أوز" في الداخل السوري، بعد أن بات الممولون يرغبون بالإنفاق داخل سوريا. كما أن هذا الموقف يوضح أن "التربية على السلام" التي ينادون بها، باتت تعني التربية على السكوت والذل، والعودة للخنوع تحت رحمة الأسد.
لغوياً، الأزمة توحي بأن الوضع الذي يمر به السوريين هو مؤقت والحل فيه هو العودة إلى مرحلة ما قبل الأزمة. وذلك ما يوحي بأن التغيير المجتمعي يهدف للعودة إلى مرحلة ما قبل الأزمة، بعد أن بات المصطلح دارجاً في هذه الندوات والعروض المتعلقة باللاجئين
إن ولادة هذه الأنماط المسرحية المحدثة على الثقافة العربية، ودخول منظمات المجتمع المدني في قطاع الإنتاج المسرحي لتصبح الجهة الأغزر إنتاجاً على المستوى الفني، هو وليد لفكرة، تفترض بأن الفنون قادرة على إحداث تغييرات مجتمعية. وقد شجع الممولون المنظمات على إنتاج هذا النوع من العروض، وبمقدمتهم الإتحاد الأوروبي. وذلك ما يفسر أن هذا النوع من العروض يظهر في البلاد التي تعاني من أزمات اجتماعية، كنوع من الاستجابة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني لأي أزمة. ولكن بالنسبة للوضع السوري، ما هو التغيير الذي تريد المنظمات إحداثه؟ وهل يمكن قبول تسمية "أزمة" على ما يمر به اللاجئون السوريون؟
أزمة أم ثورة؟
لغوياً، الأزمة توحي بأن الوضع الذي يمر به السوريين هو مؤقت والحل فيه هو العودة إلى مرحلة ما قبل الأزمة. وذلك ما يوحي بأن التغيير المجتمعي يهدف للعودة إلى مرحلة ما قبل الأزمة، بعد أن بات المصطلح دارجاً في هذه الندوات والعروض المتعلقة باللاجئين؛ إلا أن ذلك يخالف الرغبة الشعبية، ويطابق إلى حد كبير ما ينادي به النظام السوري، فهو يصور الحياة في سوريا قبل الثورة على أنها الهدف الذي يصبو إليه، من خلال التخلص من كل ما خلقته الثورة، وبمساعدة منظمات المجتمع المدني داخل سوريا، وعلى رأسها "الأمانة السورية"، التي تشرف عليها أسماء الأسد بنفسها، وتمثل الوجه الناعم لنظام الأسد الدموي.
وفعلياً، سواء وافقنا على قدرة الفنون على إحداث تغييرات اجتماعية، أم لم نوافق. فقبل كل شيء علينا أن نحدد بأي اتجاه يجب أن يكون التغيير، هل هو تغيير نوستولوجي، يطبع مع النظام بأهدافه، ويهدف لحل الأزمة وتناسي الثورة ومخلفاتها؟ أم أن المنظمات التي لديها الرغبة بالمساهمة بالتغيير الاجتماعي يجب أن تدرك بأن ما يمر به السوريين هو "كارثة"، وأن ما يجب أن تقوم به هو يدخل تحت مسمى "الاستجابة للكوارث"، الذي كان متداولاً قبل أعوام في منظمات المجتمع المدني، وأن التغيير الذي يجب أن تساهم به يجب أن لا يقترن بالأجندة السياسية لنظام الأسد، وأن لا تسعى لإعادة الأوضاع لما كانت عليه، وإلا سيتحول مفهوم "السلام" إلى "ذل واستسلام" كما بدا الأمر في العرض الأخير الذي قدمته فرقة "وصل".
سواء وافقنا على قدرة الفنون على إحداث تغييرات اجتماعية، أم لم نوافق. فقبل كل شيء علينا أن نحدد بأي اتجاه يجب أن يكون التغيير، هل هو تغيير نوستولوجي، يطبع مع النظام بأهدافه، ويهدف لحل الأزمة وتناسي الثورة ومخلفاتها؟
وبصيغة أخرى، بحال استمر هذا النوع من العروض واستمرت المنظمات باستخدام الفنون كأداة للتغيير المجتمعي، فيجب أن يعود الهدف لما كان عليه في البداية. ففي المرحلة الأولى من هذه العروض، كانت تقام جلسات وعروض "إعادة تمثيل الواقع" في المنظمات غير الحكومية، بهدف إيجاد مساحة حرة للسوريين المهجرين، ليعبروا بها عن أنفسهم ويسردوا حكاياتهم بعيداً عن الأجواء المشحونة بالكراهية. ولكن المشكلة الأكبر أنّ محتوى هذه العروض قد تغيّر مؤخراً، ولم يعد من الممكن أن نعتبر المسرح مساحة المحايدة، بعد أن تسربت إلى خشبته اللغة الخطابية المستخدمة بالقنوات الإعلامية السورية التابعة للنظام؛ فالتحولات السياسية في المنطقة، المتمثلة بتطبيع بعض الدول العربية مع نظام الأسد مؤخراً، والذي بدأت تتضح معالمه مع إعادة افتتاح السفارة الإماراتية بدمشق، يبدو أنها أثرت على بنية هذا النوع من العروض المسرحية، فتحولت خشبة المسرح إلى مساحة للكراهية والتطبيع مع نظام الأسد، ليتم تصدير الأسد للجمهور، الذي يضم عدد كبير من اللاجئين المهجرين، بوصفه رمزاً للسلام، وتتغاضى هذه العروض بشكل كامل عن قضايا المعتقلين في سجون الأسد بعد أن كانت القضية الأبرز في الأعوام الماضية بعروض إعادة تمثيل الواقع؛ وهو الأمر الذي يبدو انعكاساً للتطورات المتعلقة بملف إعادة اللاجئين السوريين في لبنان، والرغبة اللبنانية بالمشاركة بملف إعادة الإعمار في سوريا، التي عبر عنها جبران باسيل في مؤتمر القمة الاقتصادية العربية.