يعيدنا فيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء" إلى تلك المعضلة الأخلاقية المتعلقة بكيفية تعاملنا مع الإسلاميين بوصفهم خطراً حقيقياً وطعنة كبرى في ظهر الثورة ومن داخلها، وعن أولوية نقدهم وقتالهم وإدانتهم والتفرّغ لمواجهتهم، في ذات الوقت الذي نواجه فيه نظاماً متفرغاً لقتلنا وقتلهم معنا.
لم تتوقف تلك المعضلة وأسئلتها الإشكالية عن الحضور منذ بداية دخول الإسلام الجهادي على خط الثورة عام 2012، وصولاً إلى تمكّنه على الأرض بعد عام 2013، ثم سيطرته على المشهد العام بعد هجرة ونزوح نصف سكان سوريا داخلاً وخارجاً، وتحول واجهة الحرب كليّة في سوريا إلى حرب بين إرهابين، إرهاب "شرعي" يمثله النظام وحلفاءه، وإرهاب "غير شرعي" تمثله الفصائل الإسلامية.
يسجّل الفيلم حياة عائلة سورية في منطقة يسميّها المخرج "مقاطعة إدلب" في الشمال! والمقصود بالعائلة هنا هو الأب وأبناءه، حيث لا تحضر المرأة، طبعاً، في مشاهد الفيلم، مثلما هي غير حاضرة وبلا أي قيمة في مشهد الجهاد الإسلامي، ولا تعني في حياة المجاهدين أكثر من خادمة أو زوجة أو سَبيّة أو حورية دون أن يكون هناك فرق فعليّ بين تلك المعاني.
الأب هو سجين إسلامي سابق في سجون النظام، ومثل كل السجناء الإسلاميين، تقريباً، الذين أفرج عنهم النظام بالجملة في بداية الثورة، بات الأب "أبو أسامة" مجاهداً "قاعدياً" في سوريا، يُسمّي أولاده بأسماء "أبطال" الإرهاب القاعدي، ويربيهم على نهج الإرهاب وخيالاته في الخلافة الإسلامية، ويزجهم في صفوف الجهاد ومدارس القتل والقتال بطريقة رهيبة لا تنذر إلا بالمستقبل الأسود والظلام الكارثي، وهو ما يصوره الفيلم بواقعية مأساوية فعلاً، يبرزها التحاق الطفل "أسامة" بمعسكرات الجهاد.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ تصوير الفيلم كان مغامرة كبيرة وجريئة لمخرج العمل الذي وضع حياته تحت خطر الجهاد، وخطر انكشاف لعبته التصويرية المخادعة التي تُبطن عكس ما تُظهر، وخطر القصف الروسي والنظامي، وخطر التصوير في حقول الألغام التي تملأ المنطقة، تلك الألغام التي قطع أحدها رِجل الأب المجاهد، وهو الخبير في تفكيك الألغام.
تخبرنا قصة الفيلم الواقعية التوثيقية بوضوح وبساطة عن خطر الإسلام الجهادي المسيطر في إدلب، على حاضر ومستقبل سوريا، ويخبرنا الأب "أبو أسامة" بكلام أكثر وضوحاً وبساطة عن أن الفارق بين النصرة وداعش ليس أكثر من فارق بين أخوين، الأول سمع كلام الوالد "القاعدة"، والآخر الذي تمرّد على الوالد رغبة بالحلول مكانه.
أما مخرج الفيلم، فيخبرنا؛ متحدّثاً بصوته في بداية الفيلم ومُتحسّراً في نهايته، عن خسارته لوطن لم يعد يعرفه بعد أن أصبح كابوساً ومرتعاً للجهاديين، دون أن يذكر كلمة واحدة؛ عند تدخّله ذاك، عن مصدر الإرهاب المقابل، دون أن يضع الإرهاب الإسلامي الحاصل في سياق العنف السوري العام وتحطُّم المجتمع السوري، دون أن يسأل سؤالاً واحداً "لأبو أسامة" عن تاريخه في سجون الأسد، أو عن طبيعة علاقته أو تصوره لنظام الأسد، دون إشارة واضحة أو مبطّنة لما هو خارج تلك الجزيرة الإرهابية المعزولة التي أراد تصويرها ونقلها للعالم بأمانة أشبه بأمانة العلماء.. و"اللصوص".
تخبرنا قصة الفيلم الواقعية التوثيقية بوضوح وبساطة عن خطر الإسلام الجهادي المسيطر في إدلب، على حاضر ومستقبل سوريا، ويخبرنا الأب "أبو أسامة" بكلام أكثر وضوحاً وبساطة عن أن الفارق بين النصرة وداعش ليس أكثر من فارق بين أخوين، الأول سمع كلام الوالد "القاعدة"، والآخر الذي تمرّد على الوالد رغبة بالحلول مكانه.
يمكن ببساطة قراءة تلك الدقة المتناهية التي التزم بها المخرج بعدم حديثه حرفاً واحداً بعيداً عن واقع الجهاد، بالطريقة التي قالها هو نفسه على صفحته على الفيسبوك، بأنه قام بعمل فيلم عن عائلة جهادية، وأبرز مصير الآباء فيها وأبنائهم، ولم يعمل فيلم عن الأسد أو أردوغان أو أي أحد آخر! لكن الفيلم؛ مثل أي عمل فنّي آخر، يحمل رسالة، والرسالة وصلت، بل إن الفيلم حصد عدة جوائز عالمية وتمّ ترشيحه للأوسكار مؤخراً. وللمصادفة التاريخية "المحضة" فإن الرسالة التي أوصلها الفيلم، التقت حرفياً بالرسالة التي يريد النظام وحلفاؤه إيصالها للعالم، ومصادفة أيضاً، التقت بالرسالة التي يُحب أن يسمعها الغرب الأمريكي والأوروبي عن سوريا ولا يُفضل سماع غيرها، وبالرسالة التي يوجهها قادة ذلك الغرب لشعوبنا وشعوبهم، بأن عدوهم والخطر عليهم، قادم من الإرهاب الإسلامي وليس من أي أحد غيره، لا بل لابد من دعم الديكتاتوريات العربية لكي تضبط فوضى شعوبها، وتقضي على إرهابها الذي يهدّد "ثقافتنا وديمقراطيتنا وحياتنا".. والمصادفة الأخيرة أن رؤية المخرج الفنية والأخلاقية والسياسية تتطابق مع رسالته والرسائل الأخرى المُشار إليها أعلاه! وقد عبّر عنها في مقابلة بعد الفيلم عندما قال "مصر نفدت"! نعم مصر السيسي نفدت بريشها من الإرهاب الإسلامي، برعاية الديكتاتور "العلماني/ العسكري" المقيم فوق صدرها اليوم!
ولكن يمكن القول أيضاً، أنّ الفيلم أراد إيصال رسالة محددة عن واقع موجود ومعين، وليست مسؤولية المخرج أو الفيلم إن كان هذا هو الواقع، ولا مسؤوليته إن التقت رسالته مع أي شيء آخر! وليس مطلوباً من كل من أراد أن يعمل عملاً عن سوريا أن "يردّد الشعار" ويدين النظام!
طبعاً يمكن قبول هذا الكلام لو كان الفن يعمل في الفراغ، لو لم يكن هناك قضية سورية قتلت وهجرت وشرّدت الملايين وما تزال مستمرة وساخنة، قضية محكومة بأجندات متعددة ومتنازعة ويدفع أصحابها الغالي والنفيس ليثبتوا أجنداتهم ويجعلوها هي الواقع المسيطر والوحيد، وغالباً كان سيدفع أصحاب الأجندة الذين يريدون تقديم القضية السورية للعالم على أنها حرب ضد الإرهاب الإسلامي، سيدفعون الملايين لمخرج وصل للعالمية، ليخدم أجندتهم، وهو ما فعله ديركي مجاناً! بل ومن موقع معارض للاستبداد.
بالمعنى السياسي، يمكن تسمية هذا النوع من الأعمال باسم المعارضة "الفنيَّة" المفيدة، فبعد أن جاءت المعارضة العسكرية المفيدة، ممثلة بداعش والنصرة والفصائل الإسلامية لتقدم أعظم الفوائد للنظام، ثم المعارضة السياسية المفيدة، على شاكلة تيّار بناء الدولة وقدري جميل ومعارضة حميميم وما سمّي بـ"المعارضة الوطنية الشريفة"، يأتي هذا النوع من الفن ليكمل دائرة الفوائد التي لا تصبّ إلا في مصلحة النظام.
الفن، مثل الإرهاب، لا يولد ولا يعمل في الفراغ، وإذا افترضنا أن الحقيقة هي ما يريد الفنان إيصالها وأن الواقع هو ما يريد الإضاءة عليه (وليس ركوب الموجة، أو العمل حسب رغبة المستهلك العالمي، أو الشهرة دون مبدأ أو أو) فإن الحقيقة التي أوصلها الفيلم هي حقيقة مجتزأة من سياقها السوري الذي يحتضنها ويحيطها ويتشابك معها، مفصولة عن الواقع الأوسع الذي ولدّها وعن أسبابها وعن نتائجها. كما أنّ التزام المخرج الحرفي، بذكاء وإرادة واعية جداً ودون أخطاء، بعدم وصل تلك الحقيقة مع أي شيء يحيطها أو أي حقيقة أوسع منها للمشهد السوري العام، مثل عنف النظام مثلاً، لا يذكّر سوى بالتزام الذين تعهّدوا أمام الأمريكان، عندما بدأ البرنامج الأمريكي لدعم المعارضة السورية، بألا يقاتلوا إطلاقاً سوى داعش وألا يقتربوا مطلقاً من النظام، إن أرادوا الحصول على الدعم، أولئك الذين باتوا يشكلون اليوم ما يسمى "قسد".
لقد استخدم ديركي سذاجة وغباء المجاهد، ليصور حياته وحياة أولاده وأصدقاءه، وينقلها للعالم بصورة مختلفة ومقلوبة تماماً عمّا ظنّه أو تخيله أو رغب به "أبو أسامة"
لقد استخدم ديركي سذاجة وغباء المجاهد، ليصور حياته وحياة أولاده وأصدقاءه، وينقلها للعالم بصورة مختلفة ومقلوبة تماماً عمّا ظنّه أو تخيله أو رغب به "أبو أسامة"، وبالطريقة نفسها، ربما ليس بعيداً هو اليوم الذي نرى فيه الجعفري (أو حتى بوتين نفسه الذي فعلها مع قصة أبو صقّار) في مجلس الأمن والمحافل الدولية، وعند هجوم النظام لاستعادة إدلب، يقوم باستخدام تلك الشهادة الحيّة الرائعة التي قدمها الفيلم الوثائقي لديركي، ويقدمها بصورة مختلفة تماماً عمّا أراده أو نواه أو تخيّله ديركي، هذا طبعاً إن افترضنا اختلافاً بين ما يريده ديركي وما يريده الجعفري.