أحلم بألا أخاف

يلازمنا الخوف كظل لنا


أخاف من الشوارع الفارغة، الزوايا المعتمة، جرس الباب، حفيف أوراق الشجر ليلا، هدير الطائرات التي تهبط على المدرجات القريبة من سكني... حتى بات كل حلمي يختصر بأن أتحرر من هذا الخوف

08 آذار 2019

(رسم تعبيري عن الخوف الذي يحتل كامل مساحات الجسد والروح عند السوريين/ خاص حكاية ما انحكت)
ليندا بلال

كاتبة وصحفية سورية مقيمة في هولندا، وهي كاتبة عمود مع مجلة امنيستي انترناشيونال-أمستردام، ومسؤولة القسم السمعي في شبكة الصحفيات السوريات، ومعدّة ومقدمة برامج إذاعية منذ عام ٢٠٠٨.  

أعيب على نفسي شدّي على يد صديقي في محطات القطارات مع اقتراب عناصر الشرطة الهولندية منّا، أبتعد عن طريقهم حين يمرّون في الشارع لأعطيهم الأولوية كما الحال مع سيارات الإسعاف، أتجنّب قدر المستطاع زيارة مقرّ البلدية حيث أسكن.

وصلت هولندا عام ٢٠١٦ بطريقة غير شرعية، ركبت "البلم" كما آلاف السوريين والسوريات. تدقّ عبارة "غير شرعية" برأسي كلما مرّت به، أمنّي نفسي لاقترانها بكل ما هو غير شرعي في بلادي، بداية من الرئيس وصولا إلى الميليشيات المقاتلة على اختلاف راياتها، ونهاية بالموظف الحكومي الفاسد.

أرتعد خوفا من عدم تمكّني من اللغة الهولندية بالشكل الأمثل، أخاف اقترانها بنسب ذكائي، أخاف المواعيد المفاجئة مع البلدية لدرجة أنني حلمت ذات ليلة بالموظف قبل موعد يجمعني به، كان يرعد ويزبد. استيقظت دون فهم سبب غضبه.

ترتجف يداي من البريد الوارد والمختوم، والذي يبدو عليه الرسمية البحتة. أصاب بالذعر من الاتصالات المفاجئة والأرقام غير المعروفة لدي سابقاً. أخاف نسيان موعد طبيب الأسرة، أو اختبار في المستشفى، حتى أخاف نسيان مواعيدي مع معالجي اللطيف الذي يخفّف آلام كتفي المتزايدة مع هجمات خوفي المفاجئة.

يسكننا الرعب يا صديقتي، نخاف من تقرير يكتبه أحد العملاء السريين لجهاز المخابرات لنغيب في بطون الأرض، يلازمنا الخوف في خيباتنا، ألّا نُحصّل درجات عالية في الدراسة، ألّا نكون مثاليين، أن نُحسد، أن يُشمت بنا، أن ننكسر. كحوافّ الزجاج الهش نحن يا صديقتي.

يوم الجمعة الثاني من نوفمبر العام الماضي وضعني خوفي على المحكّ، إذ كنت أتابع برفقة أصدقاء نشرة إخبارية تناولت الجرائم المرتكبة ضدّ الصحفيين حول العالم وكيف لنا أن نناهض الإفلات من العقاب؟ تدفقت مياه الشجاعة في جسدي ثانية، تذكرت أيام التدريب الإعلامي تحت القصف في حلب. استرجعت ذاكرتي البصرية، تحدي مقاتلي الدولة الإسلامية يوم منعوا نزولي إلى الشارع وحيدة. نعم أنا شجاعة، لا خوف بعد اليوم... وما إن ضربت قدمي على الأرض معلنة شجاعتي حتى علا صوت جاري القاطن في الطابق الذي يعلو سكني! تأقلمت خلال السنوات الثلاثة التي قضيتها في هذا المنزل، مع صراخه آخر الليل. عادة ما يعود إلى شقته غاضباً، ويبدأ بحديث متوتر على الهاتف أو مع نفسه. اعتدت وضع وسادة النوم فوق رأسي أو الاستعانة بسماعات الهاتف رفقة أغنية عالية فلا أسمعه، أتجنب صوته الذي يشعرني باختراق السقف والهبوط فوقي… لا أنكر أني أخافه.

يوم الجمعة ذاك، بات صوته يعلو شيئا فشيئا إلى أن تحول لنوبة غضب عامرة برمي الأثاث على أرض شقته، أي سقف بيتي الصغير. بدأ دماغي يفكر بحماية أصدقائي من صوته، هل أحضر مزيداً من الوسائد! يومها كنت رفقة صديقتي القادمة من فرنسا وصديقي المقرّب. كل الاحتمالات المجنونة كانت حاضرة أمامي ما عدا الاتصال بالشرطة!!

(رسم تعبيري عن الخوف والاعتداءات والمخاطر التي تتعرض لها النساء في سورية والعالم العربي/ خاص حكاية ما انحكت)

أحسست وقع أقدام جاري، يقف أمام باب منزلي يخبطه ويبصق عليه شاتماً، أنا متأكدة أنه شتمني!! فكرت أنه يعاني من يوم سيء، ومن غيري يمكن أن يحتمل سوء يومه؟ في سوريا نقول "الجيران لبعضهم". ما إن ذهبت فكرة الجوار عن رأسي حتى خطف صديقي الهاتف من يدي واتصل بـ ١١٢. إنه يرن… يرن حقاَ، لا مفرّ من الشرطة إذا.

أمضيت الدقائق العشر التالية، أنتظر الشرطة جيئة وذهاباً. قفز توتري منهم أكثر من صوت جاري. رنّ جرس باب بيتي، تسارعت دقات قلبي: الشرطة!

"مساء الخير سيدتي… جارك أخذ جرعة عالية من المخدرات، احتجزناه حتى الصباح، لا تشعري بالخجل من الاتصال بنا متى تكرّر ذلك". صافحني الشرطي وتمنى لي ليلة سعيدة هادئة واعتذر عمّا عانيته من الجار وذهب. حاولت شرح الحادثة لصديقتي الهولندية لكني علقت في شرح الخوف نفسه. كيف لي أن أخبرها خوفي من الشوارع الفارغة، الزوايا المعتمة، جرس الباب، حفيف أوراق الشجر ليلا، هدير الطائرات التي تهبط على المدرجات القريبة من سكني.

من أين أبدأ؟ من ساحة المدرسة الابتدائية، حيث أرتعد من لجنة الانضباط خشية رصدها هندامي غير المناسب، أو الحذاء غير النظيف وغير المتناسق مع مدرسة مكسورة النوافذ والأبواب وتغرق بالقذارة في كل زاوية. ماذا لو ذهبت بها إلى المدرسة الإعدادية والثانوية، حيث الخوف من مدرّس التربية العسكرية! ورعب الهندام ثانية، كان همهم ما نظهر عليه لا ما نحن عليه! أضرب قدمي بقوة تزلزل الأرض من تحتي، كمقاومة، مناضلة، خوفا من عقوبة مدرّبة التربية العسكرية التي علمتنا بأن ننفذ ثم نعترض! أي خوف زرع في قلبي هناك؟

دعيني أخبرك عن الخوف من الفقر، هناك حيث يستحيل خوفنا من العوز حركة لا تنضب، نعمل في كل شيء خوفا من الفقر. كيف لا نخافه ونحن من تعلمنا أن الفقر لا يعتدي على أحد

يوم ١٢ كانون الثاني عام ١٩٩٩، ولد خوفي من مدرسة الرياضة وبقي إلى يومنا هذا، أخذتني يومها إلى الحمامات، ثم غسلت وجهي بالماء البارد، مرات ومرات، غسلته ظنّاً منها أنني أضع ملمع شفاه. تركتني أرتجف إلى اليوم من برودة ذاك الماء.

ماذا أخبرك أيضا يا صديقتي؟

دعيني أخبرك عن الخوف من الفقر، هناك حيث يستحيل خوفنا من العوز حركة لا تنضب، نعمل في كل شيء خوفا من الفقر. كيف لا نخافه ونحن من تعلمنا أن الفقر لا يعتدي على أحد. يسكننا الرعب يا صديقتي، نخاف من تقرير يكتبه أحد العملاء السريين لجهاز المخابرات لنغيب في بطون الأرض، يلازمنا الخوف في خيباتنا، ألّا نُحصّل درجات عالية في الدراسة، ألّا نكون مثاليين، أن نُحسد، أن يُشمت بنا، أن ننكسر. كحوافّ الزجاج الهش نحن يا صديقتي.

مرّ شهر على حادثة الشرطة، يوم استقبلت صديقي المخرج السينمائي. أرادني ضيفة في فيلمه، سحرتني الفكرة، ارتديت أنسب الثياب، دعكت عيوني بكحل أسود يذكرني بشجاعة جدتي، دقّقت كل إجاباتي، ثبّتُّ ابتسامتي رفقة كل الأجوبة، حرصت أن تكون مقابلة خالية من الأخطاء إلى أن ختم المخرج لقاءه بسؤال عن حلمي الكبير، تسمّرت، رجف داخلي بعنف، انتفض نخاع عظمي، تنفست بعمق قدر ما أمكن، قبل أن أجيبه: "أحلم بألا أخاف".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد