انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، في قاعدة حميميم العسكرية، وهو يقف متحلياً بالصبر بمرافقة ضباط روس، وتفصله مسافة واسعة عن المنصة التي يقف عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حيث كان الأخير يتحدث لكادر الضباط الروس على الأراضي السورية، أثناء زيارته في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2017.
أثارت هذه الصورة موجة واسعة من السخرية لدى مناهضي نظام الأسد، ولكن الخط الأصفر الذي كان الأسد يقف خلفه منتظراً، كما ظهر في الصورة، قد يكون ما قطع شعرة معاوية بالنسبة للمدافعين عن فكرة استقلالية السيادة السورية في اتخاذ قراراتها السياسية والعسكرية، لتترك هؤلاء في يقين حول وصول انبطاح السلطة السوري إلى مستوى غير مسبوق، منذ بداية العلاقات بين الاتحاد السوفييتي، قبل انهياره، مع الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، بعيد وصوله إلى الحكم في سورية عقب انقلابه العسكري في 1970. لكن هل كانت هذه الإشارة هي الوحيدة والأكبر على فرض النفوذ الروسي خلال السنوات الأخيرة؟
الخضوع عبر اتفاقية قانونية
يبدو أنّ القصة تعود تاريخياً إلى اتفاقية بين الحكومتين السوفيتية والسورية حول دخول السفن الحربية الروسية إلى المياه الإقليمية والموانئ السورية وإنشاء مركز إمداد مادي وتقني فى طرطوس فى 1983، ليتم تجديدها في عام 2017 بحيث تقدم سورية لروسيا كافة المنشآت والأراضي والدعم التقني والإمداد اللازم في قاعدة طرطوس أثناء وجود الأساطيل الروسية فيها بكامل طواقمها وسفنها وغواصاتها، دون أي مقابل أو رسوم أو ضرائب على الإطلاق، مع السماح للطواقم الروسية الواصلين على هذه السفن الحربية (النووية متضمنة) بالدخول إلى سورية مع عائلاتهم وأسلحتهم دون أي تفتيش، بل مع امتيازات وحصانات وأذونات بالتنقل بحرية في الأراضي السورية، ودون أن يُسمح للحكومة السورية حتى بالدخول إلى النقاط الروسية، ناهيك عن المساس أو الاعتراض أو رفع دعاوي قانونية على الوجود الروسي مؤسساتياً وأفراداً... وذلك لمدة 49 عاماً فقط من الخضوع الكامل، أي جيلين من أبناء سورية في خدمة الإمبراطورية الروسية، ناهيك عن تغلغل السيطرة الروسية عن طريق القوى الناعمة في أغلب المدن السورية، والذي ينبى عن خطة طويلة الأمد دون وجود نية قريبة في الرحيل.
ومن المثير للاستغراب في هذه الاتفاقية غير المنصفة للسوريين وضوحاً وباطناً أنها تحمي موسكو من أي ملاحقات قانونية، ليس من قبل السوريين فقط، الذين لا يحق لهم الاعتراض على أي تصرف روسي لاحقاً، وإنما من قبل أي جهة أخرى في المعادلة! حيث تنص الإتفاقية على أنّ سورية هي المسؤولة عن حل الخلافات إن كان هناك اعتراض من أي جهة، سواء كانت تركيا، أو إسرائيل، أو حزب الناتو، حتى في حال بدء السفن الروسية بالتعرّض لأي من هذه الجهات.
روسيا حامية الحمى وصديقة السوريين، قيادةَ وشعباً
رغم اجتهاد البروباغندا الروسية في بيع فكرة تدخلها لحماية السوريين، إلا أن لسان الحال ولسان ضباط الكرملين يفيد بغير ذلك. حيث تدور الاستراتيجية الروسية حول مبيعات الأسلحة، "باستخدام سوريا كحلبة اختبار وإعلان لأسلحتها. والأهم من ذلك، تُظهِر أنشطة موسكو التزاماً ثابتاً ونية لردع الغرب وبسط نفوذها في البحر الأبيض المتوسط" بحسب الفريق أول فيكتور بونداريف، قائد العملية العسكرية في سوريا. ويتجلى هذا المشهد على الأراضي الروسية أيضاً بأبهى صوره، عقب تسيير قطار محمّل بما أسماه الكريملين "غنائم الحرب على الإرهاب في سوريا" في أكثر مِن 60 مدينة في روسيا.
أما عن حماية المدنيين، فيبدو أن تصرفات موسكو توحي بعدم الاكتراث، بدءاً من غض النظر عن قصف الأسد للمدن السورية وسجونه الممتلئة بالمعتقلين، مروراً بالتعامل مع إجلاء اللاجئين السوريين في مخيم الركبان، والتحكم بالممرات الإنسانية في المدن المحاصرة، ونهايةَ بالإلحاح على اللاجئين السوريين في روسيا وحثهم على العودة إلى سوريا، تحت تهديد الاعتقال والترحيل.
وما مصلحة موسكو في دفع كل هذه التكاليف؟
رغم الأعباء الاقتصادية داخل روسيا، إلا إنه من الواضح أنها تتحمل نفقات بمليارات الدولارات منذ بداية تدخلها العسكري في سوريا في 2015، وذلك بمعدل حوالي 3 مليون دولار لكل طلعة جوية، ورواتب شهرية للكادر الروسي في سوريا بمعدل 500 ألف دولار، إلا أنّ موسكو ترى القيمة الاقتصادية للاستثمار طويل الأمد.
عسكرياً، وبعيداً عن الديون التي تتراكم تدريجياً على سوريا تحت مسمّى حماية موسكو، تأتي سوريا في المرتبة السابعة في ترتيب الدول المستوردة للأسلحة الروسية بميزانية قدرها حوالي الـ 4 مليار دولار.
وعلى صعيد الاستثمار، في مجال الطاقة وإعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها، كان معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، قد نشر تقريراً مطوّلاً عن الموضوع، مشيراً إلى استراتيجية موسكو واستثماراتها المقدرة بـ 20 مليار دولار بالتنسيق مع حكومة دمشق. إضافة لذلك، تبلغ صادرات موسكو إلى سوريا حوالي الـ 2 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل 13% من إجمالي الواردات السورية.
كل ذلك دون التطرق إلى الإمكانيات الكبيرة للحصول على عقود إعادة الإعمار خلال العقود القادمة، ما يعني دينونة هائلة في رقاب السوريين، الذين لم يحصلوا على أي مقابل من الحماية الروسية المزعومة.
سوريا الأسيرة
يقول الكاتب الإيطالي نيكولا ميكافيلي في كتابه "الأمير": "عندما يطلب أحدهم من جاره أن يأتي للدفاع عنه بقواته، فهذه القوات تسمى قوات معاونة، وهي عديمة النفع مثل القوات المرتزقة...لأنها إذا خسرت المعركة فإنك تكون قد هزمت أما إذا كسبتها فإنك ستبقى أسيراً لتلك القوات".
قد يختلف السوريون اليوم حول هوية من "انتصر" في المعارك الدائرة، لكن الواقع الأليم الوحيد الذي لا يمكن الاختلاف فيه في وعي السوريين هو تغلغل موسكو في أدق تفاصيل مستقبل سوريا، عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً وربما دستورياً، دون ترك أدنى شك حول تراجع "القيادة السورية" إلى ما وراء "الخط الأصفر"، وتحول البلاد من مزرعة لعائلة الأسد إلى حديقة لفلاديمير بوتين، مجاناً.