سيد المجارير

طريق الجولان ليس من هنا!


في سرد ساحر وملفت، يحدثنا عروة المقدار عن رحلة غرائبية قام بها ذات زمن في قرى درعا المجاورة للجولان السوري المحتل، بهدف أخذ عينات من المجارير سعيا لهدف نبيل! عن هذه الرحلة وجنود الجيش السوري والجولان والفقر المدقع.. هذه الشهادة

03 نيسان 2019

(لوحة للفنان ثائر معروف واللوحة تنشر بإذن خاص من الفنان والحقوق محفوظة للفنان)
عروة المقداد

مخرج سوري له عدد من الأفلام، آخرها "300 ميل".

كُنت للتوّ قد قررت ترك المدرسة سنة ٢٠٠٠، عندما جاء ابن عمي في زيارةٍ سريعة إلى منزلنا في عين ترما في ريف دمشق.

ظننت في البداية أنها زيارة اعتيادية، غير مدرك أنّه قد بيّت النية لهذه المهمة السريّة. كنت في الخامسة عشر من عمري، وهو في الثلاثين من عمره، اعتدت صحبته منذ طفولتي، لذا لم أستغرب طلبه عقد اجتماع سري سيطرح عليّ خلاله مخططه العظيم وسوف يستفيض بالشرح. ولا أدري على ماذا كان يراهن بالضبط، على ذكاءه أم على غبائي؟ لكن في النهاية كان ذكر كلمة مغامرة كفيلٌ بإقناعي برحلته العلمية العظيمة.

وفي كثير من الأحيان، إبان تلك الرحلة المضنية، ظننت أنّه صدق عندما ربت بيده الضخمة على كتفي، مبتسماً ابتسامةً ساخرة، قائلا ً: "أنت الآن عبدي الأبيض".

طموح يبحث عن وطن

تجادلنا في صالون بيتنا المتواضع، هو مدفوعاً بمحاربة الفساد والبحث العلمي، وأنا متلهف لجني دخلي الأول بعد أن خلعت بدلة الفتوة التي ورثتها عن إخوتي، وانطلقت نحو الحياة وراء أسوار المدرسة متزملا الفقر الذي عصف بعائلتنا منذ أمد بعيد. كان عبد الرحمن قد درس هندسة البتروكيمياء في حمص. أهرق سنين عمره في حل المسائل والحصيدة والحراثة ومغالبة الفقر، مثقلا كأولاد جيله بأحلام اليقظة عن مستقبل مشرق في البلد، كان يستعد ليل نهار لمعركة حاسمة ضد العدو. تخرج المهندس وتنقل في عدد من المشاريع الصناعية الضخمة، التي طرد منها لعناده ولتعطيله المشاريع التي كانت تسير بسلاسة على الورق، ليعاقب في النهاية وينقل إلى في نفس السنة إلى شركة المياه في درعا براتب قدره عشرة آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل ٢٠٠ دولار أمريكي.

لم يستكين المهندس إلى الوظيفة. نقّب في مشاريع المؤسسة لينفض الغبار عنها. ومن خلال بحثه الدؤوب اكتشف مشروعاً لإنشاء محطات تكرير عند مصبات المياه ليتم تعقيمها من التلوّث، وإعادة استخدامها بطرق مختلفة بما فيها تحويل المياه لمياه صالحة للشرب. ولتصميم تلك المحطات كان يجب تحديد نسبة التلوث في كل مصب مائي. ولضمان عملها بشكل دقيق كان ينبغي أخذ عينة كل ساعة على مدار ٢٤ ساعة من المصب، وهذه العملية الدقيقة الشاقة تحتاج إلى فريق هندسي وتنفيذي، ومعدات ووقت طويل وتفرّغ، لأن المشروع كان يتضمن مساحة شاسعة تتضمن كل من ريف درعا والسويداء والقنيطرة.

منظومة فساد متكاملة

ومن خلال بحثه اكتشف عبد الرحمن منظومة فساد كاملة. فقد اخُتصرت عملية أخذ العينات بطريقة عشوائية، خلال مدة لا تتجاوز الأسبوع من ٣ محافظات، وإدراج هذه العينات في بيانات المشروع، ثم نهب الميزانية المخصصة لأخذ تلك العينات، وهذا ما يترتب عليه هدر الملايين على محطات تكرير ليست ذات فائدة.

ستحدث قصة أقرب للخيال في شوارع درعا البلد عندما ستقول عجوز لعساكر الجيش السوري الباسل "شالوم"، وسيسألها الضابط: "لماذا تقولين شالوم يا حجة؟"، لتجيبه: "فكرت حالي بإسرائيل".

واجه عبد الرحمن رؤساءه بتلك الحقائق. وطلب أخذ العينات بالطريقة العلمية الدقيقة. وأمام عناده، وافقوا مراهنين على فشله في الرحلة الطويلة والمكلفة التي كان يعتزم الإقدام عليها، مخصصين مبلغاً صغيراً لبعثته في جمع العينات، مبلغ لا يكفي نفقات شهر واحد. لكن عبد الرحمن بدأ بالفور هذه الرحلة بالاجتماع السري الذي عقده معي في صالون المنزل، شارحاً لي كل تلك الحقائق، الآنفة الذكر، والتي لم أدرك مرادها بالضبط.

بدء الرحلة

انتقلنا إلى الجزء الأصعب، في ذلك الاجتماع الخطير، حيث ساد الصمت بيننا لفترة وجيزة، ثم خضنا نقاشاً مطوّلاً، شرح فيه أهدافه النبيلة مرة أخرى، وأنه يقوم بهذا المشروع كنوع من التحدي ومحاربة الفساد، وأننا نقوم بهذا العمل من أجل الصالح العام، وهي قضية وطنية ضد الفساد المستشري في البلد، ثم نوّه بطريقة درامية مع نبرة متعالية قليلاً أنّ ٣٠٠ ليرة سورية في اليوم، أي ما يعادل ٥ دولارات أمريكية، هي أجر لا يتقاضاه مهندس أو طبيب، وأنا في مستهل عمري سأتقاضى هذا الأجر، وهذه حقيقة أقنعتني لأول وهلة، قبل أن أدرك معنى الانطلاق نحو ريف القنيطرة وجهتنا الأولى، ثم المبيت في العراء لمدة يوم أو يومين والعمل على مدار ٢٤ ساعة لأخذ العينات من مصبات المياه.

طريق الجولان ليس من هنا!

في اليوم التالي، كنا نوّضب حاجاتنا مع طلوع الفجر. تزودنا بالبندورة واللبنة والزيتون التي ستصبح زاد الشهور المضنية اللاحقة. وضع ابن عمي الخريطة على مقود السيارة، ثم عبرنا سهول الجنوب متجهين إلى بلدة "نوى" بوابة القنيطرة، حيث شاهدت لأول مرة مدرعات الجيش السوري المرابط وراء خط الفصل. ومنذ 25 نيسان 2011 بالتحديد ستتوجه هذه المدرعات لحصار درعا الأول.

وستنتشر مقاطع فيديو مفزعة للدبابات، ومن ورائها الجنود وهم يقتحمون قرى وبلدات حوران، ثم ستقصف هذه الثكنات المدن والبلدات طوال ثمان سنوات بطريقة وحشية وسيظهر شعار: "ابن الحرام باع الجولان".

(غرافيتي قام ببخه أحد الثوار على جدار في منطقة ركن الدين بعنوان يسقط بائع الجولان، وهي مأخوذة من وسائل التواصل تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

وستحدث قصة أقرب للخيال في شوارع درعا البلد عندما ستقول عجوز لعساكر الجيش السوري الباسل "شالوم"، وسيسألها الضابط: "لماذا تقولين شالوم يا حجة؟"، لتجيبه: "فكرت حالي بإسرائيل".

أوقفنا الحاجز العسكري، فأعطى ابن عمي التصريح الأمني، راقبت بعيني ملل العساكر المنشور كثيابهم الداخلية على أطراف السواتر الترابية. تلكأ الضابط وهو يقرأ التصريح، فلا نحن نمثل بعثة علمية، ولا هو يمثل جيشاً يستعد لعبور الحدود لاستعادة الأراضي المحتلة. ثم استمع من عبد الرحمن إلى شرح مطوّل عن بعثته العلمية، أنصت باهتمام كما لو أنه يفهم بعمق ما يقوله هذا المهندس ثم نظر إلي وسأله من هذا؟ فأجابه مساعدي. حدّق الضابط بالعبد الأبيض الصغير وهو يتفحصه جيدا. ثم مدّ يده معيداً الأوراق وهامساً بمكر: "فكرتكم رايحين تحرّروا الجولان".

غابت الثكنة العسكرية في رحم الطبيعة. كنت أشعر بالرهبة، فعلى هذه الأرض سقط الشهداء في معارك خاسرة كما أخبرنا والدي الذي اعتاد لعن روح "أبو راسين"، وهو الاسم السري لحافظ الأسد، الذي استخدمه تمويهاً من الجدران التي تمتلك آذان.

وبالفعل كانت شقائق النعمان قد أزهرت. وأنا وابن عمي كنا كما لو أننا نستعد لتحرير البلاد. استقبلنا سهل القصيبة الساحر، ثم توجهنا إلى البلدة (نوى) الغارقة ببؤس مريع. بحثنا عن بيت رئيس البلدية الذي قفز من نومه بالكلابية مستقبلا البعثة العلمية القادمة من العاصمة كما لو أنه تلقى خبر إعلان حرب. شرح ابن عمي مرة أخرى أهداف بعثتنا بطرق مختلفة، وجاهد رئيس البلدية لفهم شروحات هذا المهندس، ثم صفن فجأة وضحك، وهو يفرك القذى عن عينيه وقال: "هون كل بيت عنده جورته". لكن المسألة لم تكن بهذه البساطة لعبد الرحمن، فلا بد أن يكون هنالك شبكة صرف صحي.

استطعنا الوصول إليها بعد الاستعانة بالخرائط، ثم نزلنا قرب مصب الماء. نرلنا من السيارة بحماس، ثم نظرت إلى مهندس البعثة بتلهف شديد منتظراً الاكتشاف العلمي الذي سيحدث أمام عيني.

سرقوا المعدات

توجه ابن عمي نحو مجرور صرف صحي غابت معالمه تحت الأتربة، ثم فتح غطائه الأسطواني، وابتسم ابتسامته الماكرة. ثم نظر إلي ونظرت إليه. وساد الصمت، ثم فهمت فجأة كلّ الشروحات العلمية المعقدة دفعة واحدة، فقلت له أين المعدات؟ فاتسعت ابتسامته الماكرة أكثر: "لا يوجد في المؤسسة معدات لقد سرقوا ثمنها". ثم ساد الصمت!


كنا وسط سهل واسع ساحر يفيض بالبدائية، فلمحت في لحظة الصمت ثعلباً يقفز ولقلق، وكانت الفراشات الملونة تتقافز، وارتفعت تلّة شرق المجرور بطريقة روائية تربعت عليها شجرة تين معمرة. لقد بدا مكاناً مثالياً لدفن ابن عمي في تلك اللحظة، لكن جسده الضخم كان يكبرني بأربع أضعاف. استجمع قواه قائلا: انزل. وضعت يدي على خصري قائلا: لن أنزل. ثم قال لي أنزل. ثم أجبته بطريقة حاسمة: "لن أنزل لو بدي ارجع مشي". حدق في عينيّ طويلا، وأدرك أنه بحاجة لطريقة ما ليحتال عليّ فيها. ثم قفز جانباً والتقط علبة تنك مرمية على طرف الطريق ثم بحركة سريعة قفز إلى داخل المجرور وغمر التنكة بالماء ثم خرج بحركة أسرع قائلا: "شفت الموضوع كثير بسيط". نظرت مرة أخرى إلى المجرور، كانت عملية سهلة لجسده الطويل الذي يبلغ طوله مترين.

أدرت ظهري له واتجهت بخطى واسعة نحو شجرة التين وأنا ألعن العمل والفقر والمدرسة ومسائل الكيمياء. وكنت أسمعه يلقي محاضرة طويلة عن شرف العمل، وأنني لست دكتور لأترفع عن ذلك، وأننا نساهم في محاربة العدو من خلال محاربة الفساد، وأني إذا انسحبت سأتعلم الانسحاب طوال حياتي.

"نعم للتقدم لا للتراجع"

وصلت شجرة التين وبحثت عن أكثر جذع ندي مرن بطول مترين ثم خلعته بحركة سريعة ورجعت مخضوض الوجه متعثر الخطوات والغضب يقطّر من صدغي. رأيت الفزع للحظة في وجه ابن عمي، وهو يرى دم أبناء العمومة سيسال قرب الأراضي المحتلة. ورجع مرة أخرى ليلقي عليّ خطبة "نعم للتقدم لا للتراجع"، "نعم لبناء سوريا الحديثة"، "لا للانهزام" كما حدث في السبعينات. انعطفت من أمامه بخطوة نحو الباب الخلفي للفان، خرقت طرف البطانية جاعلاً منها حبلاً ثم بحثت عن تنكة أكبر وثقبتها بسكين وربطت طرف الغطاء بالعلبة ووصلتها بجذع الشجرة ثم مسكت الجذع من نهايته فبدا إلى حد كبير يشبه سنارة الصيد. لوّحت بالجذع في الهواء لأتأكد من متانته ثم رميته في المجرور، غمرته في المياه الآسنة وأخذت العينة التي يريدها ورفعت العصا ووجهتها نحوه، وقلت: "هاي عينتك الشرموطة".

عاد الصمت بيننا، ثم أطلق ضحكة مدوية تردّد صداها في سهل القصيبة الواسع. رميت السنارة جانباً وجلست على طرف السيارة. اقترب عبد الرحمن مني، وهو يضحك ثم ربت على كتفي قائلا: "أنت لست عبد أبيض، أنت The Master Of Drainage". انتابني إحساس أنني كالأبطال الخارقين، وأنّ هذا اللقب شيء من قبيل: The Lord of the Rings.

أخرجت البطانية، ووضعتها وسط السهل أمام شجرة التين، وأنا أشعر بالفخر ثم أخرجت مسرحية سعد الله ونوس "الليالي المخمورة" واتكأت مثل الرجال في المضايف. قفز عبد الرحمن إلى السيارة وقد ملأه الحماس ليأتي بغداء استثنائي، فقد اتفقنا على شوي الدجاج على النار كوليمة احتفالا باختراعي الذي عوّضه عن اختراع الذهب خلال العشر سنوات في دراسة الكيمياء.

صبية يرعون الألغام!

بدأت الشمس بالمغيب، حين مر أمامي صبية يرّعون البقر، قفزوا على الصخور ثم اتخذ كل واحد منهم صخرة كبيرة، وهم يراقبون الأبقار التي توزعت في السهل. كانوا يشبهون العصابة، وجووههم السمراء تستقبل الشمس البرتقالية.

سرت نحوهم وسلمت عليهم، وجلست بجانب أحدهم، وسألته: "ماذا وراء هذه التلال؟"، فقال: "الجولان". ضحكت قلت: "تعرفها؟" قال لي: "لا، ولكن جدي كان يحكيلنا عنها". ثم نظرت إلى قدمه المبتورة. فقال مسرعاً: "إنه لغم". كل سنة يموت رجل أو ولد أو بقرة بلغم أرضي.

"هذه الأرض جنة"

غادر الأولاد ثم سرت نحو قطيع من الخراف البيضاء الصغيرة التي بدأت تظهر أسفل التلة، وهناك وجدت رجل في الستين من عمره وقد تلفع بالخرقة المبرقعة بالأحمر والأبيض، والتي نقول عنها في الجنوب "سلك" وفي الشمال "الجمدانة". سلّمت عليه فرد السلام بمثله. لم يسألني من أين أنا ولا ماذا أفعل.  جلست إلى جانبه، وكان ينظر نحو شيء ما، دون أن يتكلم. طال الصمت بيننا. ولم نكن سوى أنا وهو والخراف وهذا السهل الساحر. ولولا أنّه تكلّم لقلت أنني ابتكرته في خيالي، ولاحقاً عندما قرأت رواية الخيميائي لباولو كويلهو، تخيلته سانتياغو وخرافه باحثاً عن حلم  الأرض الضائع.

بدأت الشمس في المغيب، فنظرت نحوه فابتسم ابتسامة حزينة. رجفت يده كما لو أنه يشاهد شيء ما، ثم أشحت له بيدي فرفع يده بحزن أيضاً. وستظل ملامح وجه الرجل تطاردني كما لو أنها شارات لما سيحدث بعد عشر سنوات

استطعت طيلة ٣ أيام أخذ عينات المياه المطلوبة. أشعلنا النار وشوينا الدجاج قرب القمر الذي انحدر كأكبر قمر شاهدته في حياتي. كان الكوكب الأصفر قد ارتفع عدّة سنتيمترات عن الأرض، كما لو أنّه سفينة تمخر عباب السماء. هجعت إلى النوم، وأنا أراقب الكوكب يتكئ قربنا، ثم همست في سري: "هذه الأرض جنة".

جيش أكثر بؤسا من المجارير

أثناء رحلتنا مررنا بالعديد من القرى والبلدات، وكنت أصطاد  من المجارير العينات التي يجب أن تصنع من أجلها محطات التكرير التي ستجعل من مياه الصرف الصحي صالحة للزراعة والاستثمار. وربما لحسن حظي، أنّ المياه الجوفية كانت تختلط مع مياه الصرف الصحي. وفي كلّ مرة كنّا ننظر فيها إلى المجارير، كنت أنظر الى ابن عمي بسخرية، وأقول له: "بدك تاخد عينات تلوث؟" فيهز رأسه مستاءاً، ويقول: "يلعن أبو هل البلد".

رافقتني الأيام المخمورة طوال رحلتي وكنت أشعر أنني بطل المسرحية الذي يقول فيها "مع نمو إدراكي وفضولي، أيقنت أن في العائلة دملاً يتستر عليه الجميع. وأدركت على نحو غامض، أني لن أستقر في اسمي وهويتي إلا إذا كشفت الدمل وفقأته".

لم تعد غاية الرحلة هي جمع عينات التلوث. لقد وجدنا أنفسنا في خضم رحلة مليئة بالبؤس، الغارق في سحر الطبيعة لبشر توقف الزمن لديهم وأصبحوا خارج التاريخ. كانت رحلتنا العلمية القادمة من العاصمة التي تتجهز للمعركة تعبر الحواجز العسكرية لجيش كان أكثر بؤساً من المجارير التي عملنا على تحليلها من التلوث.

بمواجهة الجولان.. من أنتم؟

وصلنا إلى بلدة البريقة آخر البلدات التي تفصلنا عن الحدود مع الجولان، نزلنا من السيارة ونحن ذاهلون. شعرت بالرهبة والخوف حين نظرت إلى التلال التي سيطر عليها العدو الإسرائيلي. كنت أستطيع، أنا وابن عمي، أن نشاهد أبنية المراصد المتطورة التي اعتلت قمم التلال. شعرنا أننا عينات تخضع لتحليل دقيق من قبل تلك المراصد. وإلى يميننا، التمعت بحيرة كبيرة من المياه العذبة التي ازدهرت حولها جنة كبيرة من أشجار اللوز والأعشاب البرية. حدّقنا مطوّلا حولنا. لم نستطع أن نقول ولا كلمة واحدة. وفيما نجاهد لتستقر مشاعرنا أمام مراصد الجيش الإسرائيلي وأنس الطبيعة، ظهرت سيارة جيب عسكرية وقفز منها ضابط بشارب دقيق وكرش مكتنز وقال بثقة: "من أنتم؟".

(لوحة من تنفيذ مجموعة" كرتونة من دير الزور"، وهي مأخوذة من موقع المجموعة على الفيسبوك وتنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

شرح له عبد الرحمن ببراعة أسباب هذه الرحلة العلمية البحثية المحمّلة بأسمى غايات الشرف والواجب الوطني وضرورتها للنهوض بالمنطقة اقتصادياً واجتماعياً، فقاطعه الضابط ضاحكاً: "بس لا تموتوا من الألغام".

وسط حقل الألغام

اكتشفنا أننا وسط ثكنة عسكرية غير معلن عنها، مهمتها السرية التصدي لقوات الاحتلال بعد أن خرج ٣ عساكر من الخنادق مثل هوام الأرض، شارحين لنا مهمتهم الخطيرة!. بدوا كسكان الكهف، هزيلي الجسد، لا حول لهم ولا قوة. يتدبرون طعامهم وشرابهم وحياتهم لوحدهم. يمر ضابط كلّ شهر إليهم ثم يغادر. بعد أن أنهوا شرح مهمتهم السرية، ضحكنا، نحن الخمسة، ثم تقاسمنا معهم الطعام. وسألناهم عن مصب النهر، فأشاروا لنا نحو التلة المقابلة. ثم أخرجت آلتي العجيبة وهممت المسير عندما صاح من خلفي أحد العساكر: "انتبه حقل ألغام". فنظرت نحو قدمي التي عبرت نصف متر قرب لافتة صغيرة سوداء غير واضحة رسم عليها جمجمة. فتوقفت ورأيت الفزع في وجه ابن عمي، ثم قال العسكري: "ما زلت في مأمن". عدت إلى الوراء وأنا أسأله: "هل من حقول ألغام أخرى؟" فأشار إلى البقعة الممتدة أمامنا، ثم سألته كيف أستطيع تمييزها، فأجاب: "اتبع الدرب الممهد. عندما تجد نفسك في بقعة تراب غير ممهدة، فأنت في حقل الألغام!".

اختفى العساكر كأنهم أشباح في مغاورهم المحفورة تحت الأرض. بقيت أنا وابن عمي. ثم عاد الصمت، وأخدت الشمس بالمغيب، ثم سألته: "أي واحد من تلك المراصد هو مرصد جبل الشيخ الشهير؟".

فتكهن عبد الرحمن وأشار نحو الأبعد والأعلى. قلت له: "يعني هلا الإسرائيليين عم بشوفونا؟"

فضحك  وقال: "أكيد".

ثم نظرنا نحو المرصد. قتلت له: "يعني هلق بكونوا عم بشوفونا كعينات".

فضحك وشرد قليلاً ثم قال: "هل تتذكر مشهد المعركة الأولى في فيلم بريف هارت عندما واجهوا الإنكليز؟".

فأجبته: "نعم".

ثم قفز  عبد الرحمن وأدار ظهره نحو المرصد، ففهمت قصده، فقفزت وأدرت  ظهري مثله وأرخينا أنا وهو "بناطيلنا"  وضربنا على مؤخراتنا ليشاهدها جيش الاحتلال بمراصده. أمضينا بقية يومنا ونحن نضحك، معتقدين أنه ثمّة استنفار أمني على الطرف الآخر، وهم يراقبون تحركاتنا الغريبة، مع آلتي العجيبة التي توحي باستعدادات لمعركة قادمة.

نصر صغير في حقل هزائم

ضحكنا على انتصارنا الصغير وسط الهزائم التي وجدنا أنفسنا ضمنها. أخبرت تلك الحادثة لكمال فارس، الشاب الرياضي الوسيم  الذي سيمزق جسده من التعذيب في مطار المزة العسكري بعد أن اعتقل في مظاهرة (25  آذار 2011) في ساحة المرجة.

أفكار حول الإشكاليات السينمائية

05 آذار 2019
النقاش الذي يجري اليوم، سوريا، حول السينما الوثائقية ودورها وهدفها، ليس جديدا، "وإنما بدأ مع الأفلام التي أنتجت عقب اندلاع الثورة السورية 2011، وشكلت انقساما حادا حول هذه الأفلام وصنّاعها"،...

كمال الذي نزحت عائلته من الجولان إلى دوما سيراً على الأقدام، سيحفر "قشاط" الدبابة (وسيلة التعذيب المريعة، المنترعة من الدبابات المرابطة لاستعادة الأراضي المحتلة) سيحفر أثلاماً في  جلده ليعترف أنه يتخابر مع إسرائيل لأنهم وجدوا في "الموبايل" صور للجولان حفظها كمال كي لا ينسى. وسيبكي عندما ظن أنّ بداية الثورة ستكون الطريق الحقيقي للجولان، وهو يكتشف فظاعة التهمة الموّجهة إليه، ثم سيفقد قدمه وسيسقط الكثير من أفراد عائلته وأصدقائه شهداء في المعتقلات أو في المعارك.

أمضيت ٣ أيام وأنا أجني عينات تلوّث وسط حقول الألغام التي تطرد سكان المنطقة من أرضهم في انتظار معركة لن تأتي أبدا. غادرنا القنيطرة ونحن مثقلون بالهزيمة كما لو أننا خضنا تلك المعركة. عدت إلى منزلنا بعد انقضاء ٣ شهور في جولة لا تختلف عن جولتنا في القنيطرة، وأدركنا أن هذا المشروع، ككل المشاريع في البلد لن تكتمل.

جلست في منزلنا في الطابق الخامس وأنا أفكر في الرحلة. ثم تذكرت لقبي وشعرت مرة أخرى بالفخر. ثم قفزت من الفرشة وبحثت بين الكتب عن معجم صغير مهترأ الجلدة، قلبته على عجل، وهجأت الكلمات: در،، دري .. دريناج. دريناج: مجرور. فكرت قليلاً، واكتشفت أنّ لقبي العظيم كان يعني "سيد المجارير".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد