(ريف إدلب)، كنت متردداً في سؤاله عن إعاقته، لا أريد إيقاظ الألم في نفسه، فهو يعيش الحياة بكل أعبائها مع يد بترتها براميل الأسد. إذ من أين أبدأ قصة الشاب رمضان (24 عاما) الذي أدهشني بابتسامته الواثقة، وقد مرّت خمس سنوات على خسارته يده اليسرى، لكنه أجابني "لا شيء صعب المهم أن تبذل جهداً في مواجهة إصابتك".
رمضان الخطيب، شاب في مقتبل العمر من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، من عائلة ذاقت مرارة الحرب ما يكفي، فقراً ونزوحا وفقدانا، حيث عرف عنه طيبة قلبه وحبه للناس وشجاعته.
كان من أوائل الأشخاص الذين خرجوا مطالبين بالحرية والكرامة مع بداية الثورة السورية. كان مسالماً ويعيش حياته المدنية وسط ظروف قاسية مع انعدام فرص العمل وقلة الدخل حاله كحال معظم السوريين، غير أنّ ذلك لم يشفع له حين طاله غدر النظام وحلفائه، إذ باغته برميل متفجر أفقده يده اليسرى، في حين أفقد الكثيرين حياتهم، وأثر على نطقه الذي يعاني منه منذ الولادة أصلا، فبات نطقه اليوم أكثر صعوبة.
وعن تفاصيل الحادثة يروي رمضان ببطء وصعوبة ولكن بتصميم، قصته لحكاية ما انحكت "كنت جالس مع صديقي، نتبادل الحوار عن ما آلت إليه أوضاع البلاد قبل أن يسقط برميل متفجر قتل صديقي وبتر يدي بالإضافة لإصابات بالغة في جسدي، وكان ذلك بتاريخ ٢٤/١/٢٠١٥. كان الجو مرعباً، خيّم الموت على المكان، لم أكن أسمع إلا الصراخ وأنات المصابين، رائحة البارود والنار طغت على المدينة، لم أشعر بشيء بعدها وفقدت الوعي إثر الإصابة".
ويتابع: "استيقظت لأجد نفسي في مشفى كفرنبل الميداني. حينها سمعت الطبيب يقول لعائلتي أن رمضان بترت يده، تبدّدت أحلامي حينها، كنت أحلم بحياة سعيدة ككل الشباب، عانيت من مرارة الإعاقة في بداية الأمر، ولكنني اليوم تأقلمت مع إصابتي ولم تثنيني عن متابعة حياتي بشكل طبيعي رغم صعوبة الحركة".
لم ينتظر رمضان المنظمات والمراكز التي تهتم بمصابي الحرب، والتي بدورها عاينت حالته ووثقتها. ولكن المعضلة بنوعية العمل الذي اختاره بعد إعاقته في حفر الأواني الحجرية أو ما يسمّى "الجرون"، معتمداً على نفسه في تأمين قوت يومه ويوم عائلته.
الإعاقة ليست إعاقة الجسد بل إعاقة العقل والروح، هذا هو حال رمضان مع إعاقته
وعن طبيعة عمله يشرح "أقوم، وبمساعدة عائلتي بتأمين الحجر الخام، ومن ثم أبدأ بالنحت فيها لأصنع منها أواني مختلفة تستخدم لتحضير الأكلات الريفية والشعبية حيث يكاد لا يخلو بيت ريفي منها".
وعن سبب اختياره لهذه الصنعة، يقول بأنه، وبعد إصابته كان لا بد من إيجاد عمل يستطيع من خلاله أن يعيل نفسه وعائلته، فبدأ بالبحث عن عمل ولكن كل محاولاته باءت بالفشل.
كلمات أكثر ألما من الإصابة
"أنت إيدك مقطوعة ومابتحسن تشتغل"... كلمات آلمت رمضان أكثر من ألم إصابته، بسبب نظرة الشفقة التي كان ينظر إليه الناس بها، فلم يبقى له خيار سوى العمل في هذه المهنة الشاقة والمتعبة، وذلك بالرغم من أنّ مردودها قليل إلا أنه اعتاد عليها وأتقنها.
قلائل هم من يعملون بذات مهنة رمضان، حيث يكاد يكون الشاب الوحيد الذي يعمل بهذه المهنة في المدينة نظراً لصعوبتها وقلّة مردودها، في حين يمارس رمضان المهنة بشغف كبير، فهو قلما يخرج من المنزل حيث يحاول أن يقضي معظم وقته في العمل، والذي يجد فيه راحة نفسية بعيداً عن مرارة الإعاقة والشعور بالعجز.
طول جلوسه مع تلك الأواني الحجرية وحفره لها، مستخدماً مطرقة عادية، أنشأ علاقة وطيدة بينه وبين تلك الحجارة، يفضي لها همومه ومآسيه، وهي بدورها تواسيه من خلال صوتها، والذي لا يخلو من نغمة ترن بين الضربة والأخرى.
بابتسامته البسيطة، يخبرنا رمضان، بأنه لن يترك هذا العمل بالرغم من مشقته: "يكفي أن يعيش الإنسان بكرامة مهما بلغت أمامه التحديات والعوائق، فأنا لا أرغب أن أكون محط عطف وشفقة أحد، وخاصة بعد أن رفضت من قبل عدد كبير من أرباب العمل الذين مانعو عملي بسبب إعاقتي، وكأن لسان حالهم يقول أنت لا تصلح لشيء".
ويتابع وبلمعة التحدي في عينه: "أنا مازلت قادرا على العمل، ولو كان العمل النحت بالحجارة وبيد واحدة، ولن أنتظر المساعدة من أحد. أريد أن أعيش من تعبي وعرق جبيني ولن أكون عالة على أحد".
والدة رمضان الستينية تشكو حال ولدها وبكثير من الحزن، إذ تقول لحكاية ما انحكت: "لا زال شابا في بداية عمره، يحزنني أن يمضي بقية حياته معاقا بيد مبتورة وأخرى أنهكها العمل الصعب والشاق، أحاول جاهدة مساعدته بعمله عن طريق تأمين كافة المستلزمات التي تساعده في العمل".
أن تتحول إلى إنسان معاق وتبدع في إدارة حياتك وتنظيمها، وتصر على البقاء، ليس بالأمر السهل، فالإعاقة ليست إعاقة الجسد بل إعاقة العقل والروح، هذا هو حال رمضان مع إعاقته.