مرت سنوات طويلة على تلك الحادثة، ورغم ذلك لا زلتُ أحلمُ ذات الحلم القديم: فتياتٌ صغيرات في الصفِ السابع الإعدادي مرتدياتٌ البدلة المدرسية العسكرية، يزحفن على بطونهن فيما دورتهن الشهرية تلطّخُ ثيابهن ببقعٍ معتمة...
أشعرها كالإهانة تلسعني، كلّ حين، تحت جلدي، دم الدورة الشهرية يتنقل من البدلة العسكرية لوجوه مدربات الفتوة. وأحياناً، أرى الإهانة على شكل هلالٍ خاكي اللون على أظافري. يقول الأطباء، إنّ الهلال على الأظافر ينبغي أن يكون أبيض اللون، وإذا كانت هناك مشاكل صحية، يتحول اللون الأبيض للوردي أو الأسود والأصفر. أما اللون الخاكي فهو أمر غريب عن الجسد. لكنني أستطيع فهم السبب جيداً، إنها ذكرى البدلة العسكرية الخاكية اللون، إذ يظهر اللون الخاكي في أماكن عديدة على شكل خطين رفيعين تحت عيني، ففي حلمي يأتي صوتُ مدربة الفتوة وهي تصرخ بي بهيستريا. تلك الإهانة التي لم أقدر على تجاهلها، تمرّرُ نفسها في حياتي، دائما، عبر الذكرى، عبر أصوات أحببتها، أغنية، فيلم سينمائي، وأحياناً في وجه موظفٍ في إحدى المطارات التي أسافرُ عبرها، أراه وجهاً لهُ ذات الملامح القديمة التي عرفت من خلالها تلك الكلمة البشعة في اللغة "الإهانة".
رائحة الخوف
في السنوات الأخيرة، خرجت دعوات عديدة داخل البلد من المؤيدين بإعادة تدريس مادة التربية العسكرية إلى لمنهاج الدراسي (ألغيت عام 2003)، الأمر الذي أعادني إلى تلك الإهانة القديمة ولونها الخاكي كلون بدلة الفتوة المدرسية، إلى مادة التربية العسكرية التي كنتُ أكرهها بشدة، حيث بقيتُ سنوات طويلة أقاومُ تلك الحمولة الثقيلة التي حملتها معي من المدرسة الإعدادية بسبب دروس التربية العسكرية ومدربة الفتوة الصارمة ذات العينين الخضراوين.
كانت حصة التربية العسكرية رعباً حقيقياً لي. لطالما أخطأت في الحركات العسكرية، لم أؤدي يوماً التحية بيدٍ قوية، كانت يدي مرتجفة على الدوام، يدي ويد الكثيرات من الفتيات اللواتي كنّ يفضلّن طلاء أظافرهن بألوان جميلة والرقص بها، بدل تأدية حركات غبية لم نتمكن من إجادتها يوماً. أذكر سخرية مدربة العسكرية من رجفة يدي: هل يدك يد عصفور يا حيوانة؟
كنتُ أكتفي بالصمت. لا رد على الإهانات. فقط القهر بصمتٍ.
يالله لو كانت لديّ قبعة سحرية كتلك التي قرأت عنها في ألف ليلة وليلة، لو أرتديها بدل هذه القبعة العسكرية وأختفي. لكنهن لئيمات، مدربات الفتوة، لديهن استشعار قوي لرائحة الخوف، وغالباً ما كان اسمي الذي يبدأ بحرف الواو، أواخر حروف الأبجدية، هو أول الأسماء للتسميع وأداء الحركات. لم يكن هناك شيء في العالم قادر على إخفائي عن تلك "الوحوش"، وكان يأتي اسمي بشعاً، قبيحاً، مليئاً بالدمامل والبثور من حنجرة المدربة المرتدية اللون الخاكي.
التمرد
في الصف العاشر حضنتني الإهانة بقوةٍ مرّة ثانية، وصلت متأخرة خمس دقائق عن تحية العلم، أوقفتنا المدربة في الباحة، صعدت الطالبات إلى الصف بعد أن ردّدن تحية العلم للأعلى وبدأ دورنا نحن المتأخرات في العقوبة.
تحدثت معنا بقسوة مترافقة مع الشتائم، طلبت منّا أن نتمدّد على أرض الباحة الحجرية ونزحف على بطوننا. إحدى الفتيات بكت وترجتها، كانت لديها الدورة الشهرية.
كان علينا بالدور أن نبدأ بالزحف، وهي الباكية أول الزاحفات، كان لديها ثديين كبيرين، ووجدت صعوبة بالزحف معهما، كانت دموعها تغرق المدرسة وقلبي والعالم القاسي الكريه ذي اللون الخاكي.
كان صوت الرفض وكلمة لا، حدثاً يصيبهن جميعاً بالخوف في بلدٍ لا مكان فيهِ لمن لا يطيعون الأوامر.
شيء ما، لا أعرف مصدره، ربما بكاء تلك الصبية، وربما عدم رغبتي بتكرار الإهانة، جعلني أرفض الأمر العسكري، والحديث معها عن القانون الجديد الصادر منذ أشهر، والذي يمنع الضرب في المدارس.
وفجأة انفتح باب الجحيم عليّ، أمسكت بي المدربة بقسوة، ودارت بي عدّة مرات في الباحة، شعرت أنّ رأسي سينفجر من سرعة الدوران، رمت حقيبة ظهري أرضاً، وشدّت على كتفي بقوة أكثر لكنني أفلتُ منها ووقعت أرضاً. بدأت بالشتم والصراخ، إذ كيف أرفض أمراً عسكرياً وأناقشها به؟
كان كل ما هو ملون يثير غضب مدربات العسكرية، طلاء الأظافر، ربطات الشعر، البلوزات الملونة تحت البدلة العسكرية. اللون الزهري الطبيعي للفتيات، كان أكثر ما يستفزهن.
صوتها وملامحها في ذاكرتي، وطعم المرار والإهانة معاً، يالله كيف يوصف هذا العلقم المُر؟
عام ٢٠١٤ عادت الإهانة مرة أخرى. شاهدت اللون الخاكي أثناء الحرب في حلب، عند حاجز عسكري يقف عليه امرأتان ورجل.
نساء جميلات يرتدين الثياب العسكرية، في الشارع هذه المرة، لقد خرجت الإهانة تتمشى في الشوارع إذاً! كنّ يفتشن السيارات وقلوب الناس والحقائب، يبحثن عن وجهٍ خائفٍ ومرعوب ليوقفنهُ. كانت خيبة الأمل هذه المرة أكبر من الإهانة.
لسنوات مضت اعتقدت أنّ اللون الخاكي سوف يبقى حبيس المدارس والثكنات العسكرية المغلقة، لم أتوّقع أن يخرج لنا في الحرب مع أحمر شفاهٍ فاقع، وهو يقف على مدرعة عسكرية! لقد خرجت الإهانة لترسم اللون الخاكي في كل حي وشارع ورصيف وبيت وحديقة.
طلبتُ من السائق الوقوف جانباً، نزلت من السيارة وابتعدت عن الشارع الذي تقف فيه الإهانة، ودرت عائدة إلى المنزل بعد أن اتخذت قراري.
لن أعيش بعد اليوم حياتي رفقة اللون الخاكي في ذلك البلد، وغادرت البلد بحقيبة سوداء، فيما ظلت الإهانة بلونها الخاكي تلمع في الذاكرة، وأنا أعد أيامي في المنفى.