وفقًا لنظريات التحديث والعلمنة، التي برزت، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وظلت سائدةً إلى منتصف القرن العشرين، على الأقل، كان منتظرًا/ متوقعًا، منذ وقتٍ طويلٍ، أن تتراجع أهمية الدين بالنسبة إلى معظم الناس، وأن يتلاشى حضوره، في المجتمعات عمومًا، وفي تلك التي تتسم بالتطور والحداثة والرفاه المادي، خصوصًا. ويتمسك الفيلسوف والمؤرخ مارسيل غوشيه بهذه الرؤية، في كتابه المعنون ﺑ "فك السحر عن العالم: التاريخ السياسي للدين"([1])، والصادر عام 1985. لكن الاتجاه السائد بين الباحثين المعاصرين، في علم الاجتماع والفلسفة وغيرهما، لم يعد يتبنى هذه "الرؤية الأيديولوجية"، وأصبح يقرُّ بتبسيطيتها وعدم دقتها، ولاواقعيتها أو لاموضوعيتها، إلى حدٍّ كبيرٍ. فقد كان وما زال للدين حضورًا وأهميةً، بالنسبة إلى كثيرٍ من الأفراد والجماعات، ليس في "المجتمعات/ البلاد النامية" فحسب، بل وفي "المجتمعات/ البلاد المتطورة" أيضًا. وليس هناك ما يفيد بأن ذلك الدور سيتلاشى، أو سيختفي، في القريب العاجل، أو في المستقبل المنظور. ويعبِّر خوسيه كازانوفا، تعبيرًا نموذجيًّا، عن هذه الرؤية المهيمنة حاليًّا، إلى حدٍّ كبيرٍ، في كتابه "الأديان العامة في العالم الحديث"([2])، الصادر عام 1994.
وفي مقابل الحديث عن "عودة الدين"، هناك تأكيدٌ بأن "الدين لم يذهب أو لم يغِب أصلًا، حتى نقول بعودته"، وبأنه حاضرٌ "دائمًا"، بدون أن ينفي ذلك "تغيُّر شكل حضوره" كما يشير المفكر الفرنسي، أوليفييه رواه، في كتابه "الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة"([3])، الصادر عام 2008. وقد ظهر الإقرار بحضور الدين، وبأهميته (في العالم المعاصر) ظهورًا بارزًا، على سبيل المثال، في حديث هابرماس عن "مجتمع ما بعد علمانيٍّ Post – Secular Society"، في خطابه/ مقاله "الإيمان والمعرفة"، الذي ألقاه بمناسبة فوزه ﺑ "جائزة السلام" عام 2003، والمنشور لاحقًا في كتابه "مستقبل الطبيعة الإنسانية: نحو نسالة ليبرالية"([4]). ومن وجهة نظر هابرماس، (ينبغي أن) يأخذ هذا المجتمع في الحسبان أهمية العلمانية، وأهمية حضور الدين، في الوقت نفسه، بعيدًا عن افتعال أي صراعٍ بين الطرفين.
وفي إطار المناقشات حول أهمية أو إيجابية (عدم) حضور الدين في العالم الحديث والمعاصر، وإلى جانب هذه النقاشات، ظهرت (من جديدٍ) نقاشاتٌ تقارن بين تأثيرات الأديان المختلفة، وتدرس مدى إيجابية و/ أو سلبية المضامين التي تحملها، ومدى التمايز، القائم أو الكامن، بينها، في هذا الخصوص. وفي هذا الإطار، ظهرت، في العقود الأخيرة، توجهاتٌ لربط الحداثة السياسية والاقتصادية، لا بالبروتستانتية فحسب، كما فعل ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"([5])، بل وبأديانٍ أو جماعاتٍ دينيةٍ أخرى، أيضًا، تأتي في مقدمتها الكاثوليكية. وهذا ما نجده واضحًا، على سبيل المثال، في عنوان كتاب توماس وود "كيف بنت الكنيسة الكاثوليكية الحضارة الغربية"([6])، الصادر عام 2005. وإضافةً إلى التشديد على تناغم المسيحية والحداثة، تبنّى بعض المفكرين الأيديولوجيين المتعصبين الرأي القائل بأن الإسلام لا (يمكن أن) ينسجم مع متطلبات الحداثة والتقدم، وأنه لا بد للمسلمين أن يتخلوا عن إسلامهم، إن أرادوا أن يكونوا حداثيين وعصريين، بالمعنى الإيجابي للكلمة. وقد برزت هذه الرؤية "السلبية، بروزًا كبيرًا في كتابات برنارد لويس عمومًا، ومنها كتاب "أين الخطأ؟: التأثير الغربي واستجابة المسلمين"([7])، الصادر عام 2002. وإلى جانب هذه النزعة الأيديولوجية العدائية، غير الصحيحة أو الصادقة، معرفيًّا وواقعيًّا، ولا الفاضلة أو الإيجابية، أخلاقيًّا ومعياريًّا، ولا المناسبة أو الملائمة، سياسيًّا وعمليًّا، ظهرت دعواتٌ تقول بوجوب البحث عن المشتركات الإنسانية، بين الأديان، بعيدًا عن التركيز على الاختلافات، الكامنة أو القائمة، فيما بينها.
الأديان.. بحث عن المختلف أم المشترك بينها؟
إذا عملنا على فهم الأديان من خلال تدين المؤمنين بها، والمتحدثين باسمها، يمكننا أن نلاحظ أن التدين عبر التاريخ قد ظهر في أشكالٍ ومضامين مختلفةٍ، أشد الاختلاف. وتتفاوت سلبيات وإيجابيات هذه الأشكال والمضامين المختلفة، التي يمكن القول بوجودها لدى متدينين من جميع الأديان، على حدٍّ سواءٍ. فعلى سبيل المثال، ثمة فهمٌ معاصرٌ للمسيحية يربطها بالحب وحقوق الإنسان والديمقراطية ... إلخ، لكن التاريخ يسرد لنا، أيضًا، أن ضحايا الحروب الدينية/ المسيحية في أوروبا قد بلغت عشرات الملايين سابقًا، وكذلك هو حال "الحروب الصليبية" التي شنها مسيحيون، في عصورٍ سابقةٍ. وما زال هناك من يؤسس حروبه وجيوشه على أساس دينه المسيحي ("جيش الرب للمقاومة" الأوغندي، على سبيل المثال). ولا يختلف الحال كثيرًا مع متديني الأديان الأخرى، ومن بينهم، متدينو الدين الإسلامي.
نحو إيجاد قواسم إنسانية أخلاقية مشتركة
في مقابل هذا التركيز الحصري، إما على الاختلاف، أو على الاتفاق، فيما بين الأديان، هناك ضرورةٌ لأن تتأسس العلاقة، بين (متديني) الأديان المختلفة، على القواسم الإنسانية/ الأخلاقية المشتركة التي يمكن إيجادها بين الأديان، من جهةٍ أولى، وعلى الاعتراف بوجود اختلافاتٍ، حقيقية وأساسية، بين هذه الأديان، من جهةٍ ثانيةٍ، وعلى محاولة التعامل مع هذه الاختلافات، انطلاقًا من القواسم الإنسانية المشتركة، المشار إليها، وليس العكس، من جهةٍ ثالثةٍ. وسأوضِّح، فيما يلي، هذه النقاط الأساسية الثلاث.
المساحات أو القواسم المشتركة بين الأديان كبيرةٌ، وهي قابلةٌ لأن تتوسع وتتعزز وتترسخ، أكثر فأكثر؛ لكن ذلك وغيره لا ينفي وجود اختلافاتٍ أساسيةٍ "حقيقيةٍ"، كبيرةٍ وكثيرةٍ، بين الأديان
يمكن للعلاقات بين الأديان/ المتدينين أن تتأسس، تأسسًا إيجابيًّا، على القيم (الأخلاقية) الإنسانية، الأساسية والعامة، بوصفها قواسم مشتركةً قائمةً و/ أو كامنةً في تلك الأديان. فإضافة إلى القيم الإنسانية العامة التي لا يمكن تخيل إمكانية الاختلاف عليها، مثل الحق والخير والجمال، يمكن الاتفاق على مركزية قيمٍ، أكثر تحديدًا وتخصيصًا، والمتمثلة، على سبيل المثال، في منظومة حقوق الإنسان التي تؤكد القيمة المركزية للإنسان، بوصفه شخصًا، وبوصفه فردًا. فبوصفه شخصًا، يستحق الإنسان الاحترام، ويستحق الاستقلال الذاتي الذي يسمح له بأن يقرر لنفسه ما يرى أنه المناسب له، بدون أي إرغامٍ أو إكراهٍ أو قسرٍ خارجيٍّ. وبوصفه فردًا، من حق الإنسان، أن يكون مختلفًا عن الآخرين، في اعتقاداته وآرائه وأفكاره، وبأن تكون له شخصيته الفردية المتمايزة عنهم. وانطلاقًا من الإقرار بمركزية قيمة الإنسان، كل إنسانٍ، وبأساسية وأولوية هذه القيمة، يمكن للأديان الاتفاق على محاربة كل أشكال العنصرية أو التمييز السلبي، القائم على الدين أو الطائفة أو المذهب أو الجنس أو الإثنية أو العرق أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي أو المعتقد أو الثقافة ... إلخ. كما يمكن للأديان الانطلاق من المركزية المذكورة، للاتفاق على أولوية مكافحة، أو حتى محاربة، الفقر والجوع والأوبئة والأمراض، وتكريس جهود المؤسسات الدينية وجهود القائمين عليها، لمساعدة المحتاجين، ونصرة المظلومين، وحفظ حقوقهم وكراماتهم.
من الواضح أن المساحات أو القواسم المشتركة بين الأديان كبيرةٌ، وهي قابلةٌ لأن تتوسع وتتعزز وتترسخ، أكثر فأكثر؛ لكن ذلك وغيره لا ينفي وجود اختلافاتٍ أساسيةٍ "حقيقيةٍ"، كبيرةٍ وكثيرةٍ، بين الأديان. والاختلافات بين الأديان موجودةٌ، على مستوى العقائد، وعلى مستوى الشعائر والممارسات، وعلى مستوى القيم والتوجيهات ... إلخ. وانطلاقًا من هذه الاختلافات، يمكن لأنصار كل دينٍ أن يروا أنهم، "في النهاية"، وحدهم على صوابٍ، وأن المتدينين الآخرين، من اتباع الديانات الأخرى، هم مخطئون أو على ضلالٍ أو كافرون... إلخ. ولا ينبغي إنكار ذلك، أو إنكار إمكانيته المبدئية على الأقل؛ وهو لا يتعلق بالدين والمتدينين فحسب، بل هو محايثٌ أو ملازمٌ لكل اعتقادٍ بحقيقةٍ ما. فمن طبيعة الاعتقاد أن يتضمن القول بخطأ كل ما يختلف عنه، أو يخالفه. ويزداد نبذ الاعتقاد/ المعتقِد، بحقيقةٍ أو عقيدةٍ ما، للاعتقادات/ للمعتقدين المخالفة/ المخالفين لها/ له، بقدر وثاقة اتصال هذا الاعتقادات بالقيم الأخلاقية، والمصالح العملية، والتوجهات السياسية الأيديولوجية. فالاعتقاد بحقيقةٍ ما يتضمن، بمعنىً ما، ولدرجةٍ ما، نفيًا ورفضًا لحقيقية "الحقائق" المختلفة عنها، والمخالفة لها.
الاعتقاد بحقيقةٍ ما يتضمن، بمعنىً ما، ولدرجةٍ ما، نفيًا ورفضًا لحقيقية "الحقائق" المختلفة عنها، والمخالفة لها
إن الوعي بوجود قواسم أخلاقيةٍ/ إنسانيةٍ، أساسيةٍ ومشتركةٍ، بين الأديان، والإقرار بوجود اختلافاتٍ، أساسيةٍ وحقيقيةٍ، كثيرةٍ وكبيرةٍ، بينها، هما أمران ضروريان، لإقامة علاقاتٍ إيجابيةٍ وبناءةٍ، بين الأديان المختلفة، أو بالأحرى، بين المتدينين المنتمين إلى تلك الأديان. فبدون الوعي بالوجود، الفعلي أو الممكن، للقواسم الأخلاقية/ الإنسانية المشتركة، بين الأديان، فستكون العلاقة، بين المتدينين المنتمين للأديان المختلفة، هي علاقة اختلافٍ محضٍ، ونفورٍ شديدٍ، قد يتطورا إلى عداءٍ ومعاداةٍ، في أقرب فرصةٍ ممكنةٍ. وبدون الإقرار بالاختلافات، ستتحول العلاقات، بين المتدينين المنتمين للأديان المختلفة، إلى علاقات تكاذبٍ ونفاقٍ واتفاقٍ زائفٍ، على الأرجح. وبكلماتٍ أخرى، بدون وعي هذه المشتركات الأخلاقية/ الإنسانية، سنقع في فخ التنافر الممجوج والعدائي، وبدون الشفافية والاعتراف بالاختلافات، سننزلق إلى مستنقع التكاذب المفضوح والبدائي.
الوعي بالمشتركات، والاعتراف بالاختلافات، أمران ضروريان، لكن ليسا كافيان، في هذ السياق؛ إذ لا بد من توضيحٍ لشكل العلاقات الجدلية الممكن و/ أو الواجب إقامتها و/ أو تجنبها، بين هذا الوعي وذاك الاعتراف، ومضامين تفاعلهما الجدلي المتبادل. وينبغي للاعتراف بالاختلافات بين الأديان، وللتفاعل مع هذه الاختلافات، أن يتأسسا على الوعي بالقيم والأهداف الأخلاقية/ الإنسانية التي تجمع، أو يمكن، و/ أو ينبغي، أن تجمع بين هذه الأديان. هذا ما نعتقد أنه "الطريق الضروري"، و/ أو "الطريق الأفضل"، وكل ما عداه من طرقٍ ممكنةٍ، سيفضي إلى نتائج سلبيةٍ، على الأرجح.
لا تسامح بدون الاعتراف بوجود اختلافات
إذا لم يتأسس الاعتراف بالاختلاف على وعيٍ عميقٍ بالقواسم الأخلاقية المشتركة، فسيكون، على الأرجح، نفيًا، ليس لهذه القواسم الأخلاقية المشتركة فحسب، بل ونفيًا لفكرة/ قيمة "الإنسانية الأخلاقية"، بحد ذاتها، أيضًا. فالانطلاق من الاختلاف بين البشر أو أديانهم أو اعتقاداتهم، بوصفه أساسًا لتفاعلنا المشترك، سيفضي، على الأرجح، إلى تكريس سياسات الهوية، اليمينة أو اليسارية، التي تعطي الأولوية للانتماءات غير الإرادية القائمة على النسب، على حساب الانتماءات الإرادية المتأسسة على الانتساب. فالانطلاق من الاختلاف يعني أن نعامل بعضنا بعضًا، على أساس انتماءاتنا المختلفة إلى هذا الدين أو ذاك، و/ أو هذه الإثنية أو تلك، و/ أو هذا العرق أو الجنس أو البلد او اللون ... إلخ أو ذاك، بدلًا من أن نؤسس تفاعلنا على انتمائنا إلى إنسانيةٍ مشتركةٍ، يتأسس فيها الاختلاف على قاعدة المساواة المبدئية أخلاقيًّا/ إنسانيًّا، وحقوقيًّا/ قانونيًّا، بين الناس، بوصفهم بشرًا ينتمون إلى إنسانيةٍ واحدةٍ.
القيم الأخلاقية/ الإنسانية الأساسية التي تكوِّن، أو ينبغي أن تكوِّن، القواسم الأخلاقية/ الإنسانية المشتركة بين الأديان، هي ما ينبغي أن تكون أساسًا، ليس لتفاعلنا المتبادل مع المختلفين عنا، ولفهمنا لبعضنا بعضًا، فحسب، بل ينبغي أن تكون أيضًا الأساس الأهم لفهمنا لأدياننا وعقائدنا، ولأنفسنا، ولما نفكر فيه وبه، ولما نفعله، بناءً على هذا الفهم. فدينٌ/ تدينٌ يتأسس على حقوق الإنسان، بوصفه شخصًا وفردًا، وعلى القيم الأخلاقية الإنسانية العالمية، وعلى نفي العنصرية والتمييز السلبي، بكل أشكاله وصيغه ومضامينه، الفعلية أو الممكنة، وعلى الوقوف مع كل مظلومٍ، ومناهضة كلِّ ظالمٍ، هو دينٌ/ تدينٌ إنسانيٌّ وللإنسانية، حتى لو اقتصر المؤمنون به على أن يكونوا جزءًا من هذه الإنسانية، فحسب.
([1]) Marcel Gauchet, Le désenchantement du monde: Une histoire politique de la religion, (Paris: Gallimard, 1985).
([2])خوسيه كازانوفا، الأديان العامة في العالم الحديث، ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، مراجعة بولس وهبة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005).
([3])أوليفييه روا، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، (بيروت: دار الساقي، 2011).
([4])انظر: يورغين هابرماس، "الإيمان والمعرفة في مستقبل الطبيعة الإنسانية: نحو نسالة ليبرالية، ترجمة جورج كتّورة، مراجعة أنطوان الهاشم، (بيروت: المكتبة الشرقية، 2006)، ص 123-139.
([5])ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، "مشروع مطاع صفدي للينابيع – III"، (بيروت: مركز الإنماء القومي، د.ت.).
([6]) Thomas Woods, How the Catholic Church Built Western Civilisation. Washington: Regnery History, 2005).
([7])برنارد لويس، أين الخطأ؟: التأثير الغربي واستجابة المسلمين، ترجمة محمد عناني، تقديم ودراسة رءوف عباس، (القاهرة: سطور، 2003).