(تنشر هذه الحكاية بالتعاون والشراكة مع راديو سوريالي. يمكنكم الاستماع على الحكاية على برنامج حكاية وانحكت على راديو سوريالي)
(ريف إدلب)، كان تطليق ميساء لزوجها (٣٩عاماً/ مستعار) غيابياً أو التنازل عن بيتها حلين لا ثالث لهما للخروج من المتاهة التي دخلت فيها.
كانت ميساء تعيش في مدينة أريحا بريف إدلب مع بناتها الثلاث وزوجها المجند ضمن وظيفة مدنية (قسم السجلات والتجنيد) مع القوات النظامية السورية. وفي تاريخ ٢٨ أيار٢٠١٥ سيطر ما يسمّى جيش الفتح على مدينتها، ما اضطر زوج ميساء للفرار نحو العاصمة دمشق كونه خصماً عسكرياً.
وبعد السيطرة شهدت أريحا قصفاً جوياً عنيفاً، نزح على إثره عدد كبير من سكان المدينة، بينهم السيدة التي خرجت نحو مدينة كفرنبل القريبة.
"كانت الصواريخ تنهال على المدينة من كل حدب وصوب من قبل طيران النظام الذي اعتاد على قصف المناطق الخارجة عن سيطرته، فما كان مني إلا الخروج والنجاة بحياتي وحياة بناتي لبعض الوقت"، تقول ميساء لحكاية ما انحكت، مبرّرة سبب اختيارها لمدينة كفرنبل بأنها مدينة أهلها الذين لم يبقى منهم سوى أخيها الذي أقامت معه، في حين أنّ والديها توفيا منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت مدينة كفرنبل كثيراً ما تتعرّض للقصف غير أنّ خروج إدلب المدينة وعدد من المناطق الأخرى من قبضة النظام خفّف الضغط عليها في تلك الآونة.
بعد هدوء القصف على أريحا عادت ميساء وبناتها إلى منزلهم في مدينة أريحا، المكوّن من غرفتين ومنافع، فـ "الواحد منا ما بشيلو غير بيتو" وفق ما تقول والشوق يلمع في عينيها حين تذكر بيتها، لتأتي موجة حزن تحتل مكان الشوق، لأن المفاجأة التي كانت تنتظرها لم تكن متوقعة.
مفاجأة غير متوقعة
فوجئت بأن منزلها مسكون بعائلة لأحد مقاتلي جبهة النصرة، والتي أخبرتها بأنه "تم مصادرة المنزل لأن مالكه الذي هو زوجي شبيح لدى النظام". تقول ميساء بسخرية.
تلعثمت كلمات ميساء حين راحت تعبّر عما كان يجول في خاطرها من تساءلات في تلك اللحظات: "إلى أين سأذهب؟ إلى من سألجأ؟ وماذا عليّ أن أفعل؟".
أسئلة لم تستطع ميساء الإجابة عليها وسط إحساسها العميق بالضعف والضياع، فقد كان ذاك المنزل البسيط كل ما تملكه ميساء وبناتها.
مضى نحو أربعة أعوام على الحادثة، حلّ خلالها جيش الفتح، وانفصلت جبهة النصرة عنه، تم تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام عقب انفصالها عن تنظيم القاعدة، ثم أصبح اسمها هيئة تحرير الشام، لكن ما لم يتغير هو أنّ ميساء قد خسرت بيتها وزوجها.
لم تكن ميساء الوحيدة التي استُولي على منزلها آنذاك، بل صادرت النصرة عشرات المنازل تحت ذريعة التشبيح والارتداد، دون الإستناد إلى أيّ تشريع قانوني، إذ يكفي توّجه عناصر من المحاكم الشرعية والقضاء التابع لتحرير الشام وخط عبارة "مصادر" أو "تحت تصرف المحكمة الشرعية" على جدار المنزل حتى تتم عملية المصادرة ووضع اليد على المنازل التي تتبع ملكيتها لأشخاص لا زالوا يخدمون في جيش النظام أو أنهم معارضين للنصرة تحت مسمّى مرتدين عن دينهم.
انشقاق محمود العيد (٣٥عاما/ مستعار) عن نظام الأسد أواخر ٢٠١٤ لم يشفع له بعودة منزله المصادر من قبل النصرة، حيث يقول خلال لقاءنا به ممتعضاً "إن دوافع النصرة هي الإحتيال والسطو والسرقة ليس إلا، والدليل على ذلك أنها لم تعد لي المنزل بالرغم أنني أسقط حجتها بالتشبيح حين انشققت عن النظام".
يعاني محمود حياة صعبة بعد مصادرة منزله، فهو يسكن في منزل والديه المسنين مع عائلته المؤلفة من زوجته وثلاثة أطفال، والمنزل عبارة عن غرفتين صغيرتين وبالكاد يسعهم جميعاً. ويؤكد العيد بأن إمكانياته الضعيفة لا تسمح له بشراء منزل آخر أو حتى استئجار آخر.
أي قضاء؟
عملية الإستيلاء كانت تعقبها رحلة شاقة لصاحب المنزل في المحاكم لاسترجاع منزله، حيث فشل معظم المدنيين باستعادة منازلهم "بسبب عدم حيادية المحاكم، فضلاً عن عدم كفاءة القضاة في محاكم تحرير الشام" وفق ما أكدت ميساء.
عندما حرر جيش الفتح إدلب في ٢٩ آذار ٢٠١٥ مع جسر الشغور وأريحا، أنشأ محاكم خاصة به تعتمد الشريعة الإسلامية دون وجود مرجعية قانونية لها.
الحقوقي أنور الحلوم (٤٠عاماً)، محامي مقيم في ريف إدلب، انتقد تلك المحاكم خلال لقاء شخصي معه، حيث قال: "كل قاضي يحكم وفق رؤيته في تطبيق الشريعة الاسلامية، وتعتمد بشكل كبير على اجتهاد القضاة، والأحكام فيها تأخذ صفة الاجتهادية أكثر منها الحقوقية، وهي أيضاً محاكم ضعيفة وغير موحدة وغير مركزية، إضافة لأنها تتبع لحكم العسكر بحيث ينشئ كل فصيل محكمة له في منطقة حكمه". ويتابع "إنها غير محايدة ولها تبعية مطلقة للكتائب المقاتلة والقضاة فيها غير أكفاء وليسوا أصحاب اختصاص، لايوجد فيها أي قانون أو أصول متبعة تصون الحقوق للمتداعين، كما أنها لا دور للمحامين فيها".
حول مصادرة البيوت، يقول الحلوم "لا يوجد قانون يبيح استيلاء أي شخص أو جماعة على ممتلكات الآخرين إلا في حال وجود دولة قائمة، وهو ما لا ينطبق على المناطق المحررة المدارة من قبل عدّة فصائل عسكرية، فلو جاز هذا الأمر لفصيل لجاز للآخر، ولحلت الفوضى وضاع العدل، ولذا فإن هذا الإجراء ما هو إلا تعدي على ممتلكات الآخرين".
ومع ذلك فميساء لم تيأس، وبدأت تطرق أبواب المحاكم الشرعية التابعة لجيش الفتح في محاولة لإسترجاع منزلها. توجهت إلى محكمة جيش الفتح وأبلغتهم أنها تملك نصف المنزل وفق وثيقة بيع وشراء بينها وبين زوجها، ومع ذلك رفضوا إعادة المنزل لها.
الطلاق كحل لاستعادة المنزل
وبعد إلحاحها على طلب منزلها، توصل معها القضاة الشرعيين هناك إلى حل، وهو أن تطلّق زوجها الشبيح غيابياً مقابل التراجع عن مصادرة المنزل. رفضت في البداية إذ لم تكن تفكر يوماً من الأيام بالطلاق من زوجها لكنها ما لبثت أن اضطرت للموافقة مدفوعة بسببين، الأول هو رغبتها باسترجاع منزلها، والثاني فقدانها الأمل باجتماعها مع زوجها الموجود في دمشق، والذي تفصله عنها عشرات الحواجز النظامية والشبيحة.
لم يكن سهلاً على ميساء أن تأخذ هكذا قرار، غير أنّ خوفها من خسارة منزلها للأبد وفكرة تشردها دون منزل يؤويها مع بناتها دفعتها للموافقة حيث تقول: "شو الي جابرك على المر غير الأمر". هكذا اختزلت سبب موافقتها على تطليق زوجها، لكنها من جهة أخرى أوضحت بأن علاقتها مع زوجها ممكن أن يتم إصلاحها يوماً ما، وذلك حين عودته إلى المنطقة وشرح دوافعها له وهو "سيتفهم لا محالة"، أما إقناع هؤلاء بضرورة إعادة منزلها لها كان من "سابع المستحيلات" وفق تعبيرها.
أواخر عام ٢٠١٥ أي بعد أشهر من مصادرة المنزل، تقف ميساء داخل محكمة "جيش الفتح" وتطلق زوجها غيابياً بموجب وثيقة وقعها عليها القاضي الذي سارع إلى كتابة مذكرة أخرى لقاطني المنزل بضرورة إخلائه بشكل فوري وإعادته لأصحابه، كما سطر القاضي مذكرة ممهورة بختم "حركة أحرار الشام " التي كانت تترأس اللجنة الأمنية في إدلب ضمن فصيل جيش الفتح، ونصت المذكرة على عدم التعرض لمنزل ميساء كونها تمتلك نصفه، وهي مطلقة من زوجها شرعاً.
فرحة لم تكتمل
انطلقت ميساء بالمذكرة فرحة وكأنها "ملكت الدنيا"، إذ سوف يعود منزلها إليها أخيراً. غير أن الصدمة كانت حين لم تعر عائلة مقاتل النصرة مذكرة القاضي أي اهتمام، ورفضت الخروج من المنزل تحت أي ظرف، في حين لم تتخذ المحكمة ضدها أي إجراء لإجبارها على الخروج، فكان أن خسرت ميساء ليس بيتها فقط بل زوجها أيضاً.
"لا يوجد كلمات ممكن أن تصف تلك اللحظات التي مررت بها، شعرت بأنني في حلم، بل في كابوس لطالما أردت الاسيقاظ منه، كيف خدعوني بتلك الطريقة؟ وكيف يحق لهم الاستهتار بمشاعر الآخرين والكذب عليهم بهذا الشكل، إنه بلا شك حكم القوي للضعيف الذي لا حول له ولا قوة" تقول ميساء لحكاية ما انحكت.
غابت ميساء لبعض الوقت وعادت إلى قاطني المنزل لمحاولة الحصول على بعض الأثاث والحاجيات بعد أن فقدت الأمل باستعادة منزلها، لتجد فيه عائلة أخرى لأحد مقاتلي النصرة، وحين طلبت بعض حاجياتها قاطعوها بالقول: "وما يدرينا أنك صاحبة المنزل وهذا الأثاث لك؟!"
دخلت ميساء المنزل وراحت تشرح لهم أنها تضع حاجياتها هنا وهناك "كان يوجد داخل تلك الغرفة خزانة وبعض الأغطية وفعلاً وجدوا ما قلته صحيحاً، ما عدا تغيّر بسيط، وهو أنها كانت ملكي وملك عائلتي، فلطالما كانت لي ذكريات سعيدة داخل تلك الغرفة، شعرت بحنين البيت لي. ذاك المطبخ البسيط ضمّ العديد من الأدوات التي جمعتها من خلال شرائها بقسوط شهرية كوني لم أكن أملك ثمنها كاش، الغسالة ذاتها والبراد ذاته، ذات الأدوات القديمة والأنتيكة التي كنت أحتفظ بها على سقيفة الحمام. كل ذكرياتي وحنيني لم يقنع محتلي المنزل أنها كانت يوما ما لي، و ببرود اكتفوا بعبارة لا نستطيع إعطائك أي شيء".
خرجت ميساء من منزلها ودموعها الساخنة تجري بسرعة، وجرح قلبها عاد لنزفه، وكأن منزلها سلب منها الساعة، وعاهدت نفسها بنسيان أمر المطالبة بممتلكاتها لأنها لا تجلب إليها سوى الحزن والألم.
ميساء اليوم تعيش حياة تشرّد مع بناتها في المخيمات الشمالية تارة، وفي منزل أقربائها تارة أخرى، حتى أخيها الوحيد قتل في إحدى الغارات على مدينة كفرنبل في ٥ كانون الأول٢٠١٦.
وبينما تنظف خيمتها البالية من بقايا نباتات برية جمعتها ميساء من الأحراش والبرية لتحضير وجبة غداء لبناتها، تقول بابتسامة يائسة "خسرت كل شيء، ولن أعود إلى أريحا التي كسرت فيها"، في إشارة لمعاناتها الكبيرة المتمثلة بفقدان منزلها وندمها على طلاق زوجها.