"قديماً نصحني والدي أن أنجب الكثير من الأولاد حتى يساندوني في كبرتي، ها هي كبرتي أمامك اليوم، فهل ترى أولادي؟".
هكذا يقول أبو جوان الرجل الستيني من مدينة القامشلي لحكاية ما انحكت أثناء مقابلة هاتفية معه.
لأبو جوان أربعة أبناء وثلاثة بنات، لم يبق منهم سوى ابنة واحدة في المدينة، أما الباقي فأصبحوا مهاجرين في بلدان أوروبية مختلفة. لقد عمل الرجل جلّ عمره حتى بنى منزلاً كبيراً يكفيه هو وبناته وأولاده السبعة، لكن البيت الكبير الذي لطالما عرف بصخبه في الماضي بات اليوم فارغاً إلا من العجوز وزوجته وابنة وحيدة تزورهم من حين لآخر.
إنها قصة تشتت عشرات آلاف العائلات السورية في مختلف مناطق البلد الذي تحول أكثر من نصف سكانه إلى نازحين ولاجئين، مهجرين ومهاجرين، إذ تشير أخر بيانات مفوضية شؤون اللاجئين إلى وجود 6,6 مليون نازح داخلي في سوريا، إلى جانب 5,6 مليون سوري لاجي في دول الجوار وشمال إفريقيا.
يصعب تنميط التحولات الديمغرافية المعقدة التي تعيشها سوريا، والأصعب تنميط الأسباب المختلفة التي دفعت ملايين السوريين لتغيير أماكنهم
يضاف لذلك أكثر من مليون سوري وصلوا إلى الدول الأوروبية منذ عام 2011، لذلك من الصعب اليوم أن تجد عائلة سورية لم تفارق فرداً أو أكثر من أفرادها، ومن الشائع جداً أن تجد عائلات لم يبقى منها إلا بضعة أفراد في البلاد، بل وأحياناً مجتمعات محلية كاملة لم يبق منها أحد. ومع ازدياد عدد الغائبين تزداد احتمالات أن تكف العائلة عن كونها هوية اجتماعية تطبع الأفراد وتربطهم في مجتمع لطالما شكلت العائلة أحد أعمدة نظامه الاجتماعي.
ملامح لخارطة لم تكتمل
يصعب تنميط التحولات الديمغرافية المعقدة التي تعيشها سوريا، والأصعب تنميط الأسباب المختلفة التي دفعت ملايين السوريين لتغيير أماكنهم، وإن كان العنوان العريض لكل ما يحدث هو الصراع أو الحرب، إلا أنّ المشهد يتسع لعناوين فرعية كثيرة.
الشاب جمال (32 عاماً من دمشق، اسم مستعار) غادر دمشق بعد تخرجه من جامعتها عام 2016، نحو ألمانيا هرباً من السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام. أما رياض البكري (27 عاماً من إحدى بلدات محافظة إدلب) فقد نجى من إصابة نجمت عن قصف جوي على بلدته في إدلب أواسط عام 2017 وخرج لتلقي العلاج في مدينة انطاكيا التركية ثم من هناك قرّر ألا يعود.
المحامي الأربعيني عبد الباري (45 عاماً، اسم مستعار) هاجر بطريقة غير شرعية إلى ألمانيا عام 2016، مفضلاً ممارسة مهنة الحلاقة هناك على مكتبه في القامشلي، أملاً في مستقبل أكثر استقراراً لأطفاله. والجدة سمية (77 عاماً، من مدينة السليمة في ريف حماة) هاجر جميع أبنائها إلى ألمانيا واضطرت للانتقال من سوريا إلى لبنان ثم إلى تركيا حيث عاشت لأكثر من عام بمفردها، حاولت خلاله الحصول على تأشيرة سفر للحاق بهم، وحين لم يسعفها جواز سفرها السوري في الحصول على التأشيرة سلكت طرق التهريب، وبعد عدّة محاولات وصلت إلى اليونان ثم إلى حيث انتظرها طويلاً أبناءها وأحفادها. هناك آخرون كثر يمثلون شرائح عديدة من السوريين، والذين رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية، سلكوا الدروب ذاتها.
ما ينبغي ملاحظته هو أن السوريين الذين غادروا بلادهم ليسوا مجرد نسبة من إجمالي السكان، بل هم بالدرجة الأولى الجيل الشاب من العائلات السورية، فحسب بيانات المفوضية، إنّ نسبة 53% من إجمالي من اللاجئين في أوروبا هم من الشريحة العمرية ما بين 25 إلى 44 عاماً. وفي نفس الوقت نجد أن الشريحة العمرية ما فوق 60 % ممن كانت نسبتهم في سورية 6,4 % حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء لعام 2011 لم تبلغ نسبتهم من إجمالي المهاجرين أكثر من 2,1%. وبالدرجة الثانية نلاحظ تفوّقاً لعدد الذكور على الإناث بين المغادرين، فمثلاً في تركيا بلغت نسبة السوريين اللاجئين في سن العمل حوالي 53%، بينهم حوالي 30% من الذكور مقابل 23% إناث. بالمعنى الاقتصادي تعني الأرقام السابقة فقدان الاقتصاديات المحلية للجزء الأهم من القوة البشرية.
عائلات افتراضية قد لا تصمد طويلاً
"ما أن يحل المساء، تتخذ أمي زاويتها في غرفة المعيشة وتحمل هاتفها الذكي الذي تتعامل معه بصعوبة، تتصل بأخي الذي بقي في سوريا، ترسل تسجيلاً صوتياً إلى إبن أختها في العراق، وربما تتلقى بعض الصور والفيديوهات من أخيها في ألمانيا.. على هذا الحال تمضي أغلب لياليها، فلا أقارب هنا لتزورهم ولا مناسبات تسرّع سير حياتها، فقط هذا التواصل عبر الأنترنت، هو كل ما تبقى من حياتها الاجتماعية".
هكذا يروي أزاد ابراهيم (27 عاماً يعيش في مدينة ماردين في تركيا منذ 2015) ويتابع "نحن أسرة محظوظة، إذ تمكنا من إعادة لم شمل أغلب أفرادنا في دولة واحدة، لكننا لم نعد جزءًا من عائلة ممتدة، الأمر مؤلم أكثر بالنسبة لأمي وأبي، أما نحن فنادراً ما نتواصل مع الأقارب من الدرجة الثانية".
على الضفة الأخرى، يقول جمال، وهو خريج الجامعة الذي لجأ إلى ألمانيا "في الفترة الأولى لقدومي كنت متعلقاً كثيراً بأسرتي في سوريا وأتصل بهم بشكل يومي، لاحقاً خفّت تلك الحالة وأصبح لدي مشاغل الدراسة والعمل هنا، أما بالنسبة لأعمامي وأبناء عمي، فالتواصل معهم خفّ كثيراً واسمع اخبارهم من والدي غالباً".
يبدو جيل الآباء الكبار هنا حارساً للترابط وسط العائلات المشتتة بين مدن وبلدان مختلفة ولو عبر الهواتف وسائل التواصل الاجتماعي، بينما جيل الشباب أكثر انشغالاً بمصاعب الحياة في أماكنهم الجديدة، لكن كيف سيبدو الأمر مع الجيل الثالث من تلك العائلات، والذين ينشؤون أصلاً في أماكن مختلفة؟
ماذا يحمل المستقبل؟
في محاولة الإجابة على هذا التساؤل يقول الدكتور، حسام سعد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً، والمقيم حالياً في إسطنبول: "نحن بحاجة لوقت طويل حتى تتبلور نتائج هذا التشتت الكبير الذي أصاب العائلات السورية، ربما جيلين أو أكثر، لكن المرجح أنّ التطورات تسير باتجاه إنهاء مركزية العائلة في النظام الاجتماعي، في وقت ما كانت العائلة في سوريا تحمي أفرادها وتساندهم وقت الأزمات وتشارك الموارد الاقتصادية معهم، وذلك أعطى سلطة للقيم العائلية، لكن الحرب ما زالت تؤدي دورها في إضعاف تلك القيم تدريجياً بحيث تضيق دائرة العلاقات الأسرية والعائلية أكثر فأكثر".
هل ستتوقف رحى الحرب عن طحن ما تبقى من عائلات متماسكة، وربما تساعد في عودة من لا زال يريد من اللاجئين للم شتات عائلاتهم؟
يؤيد "جابر البكري" (30 عاماً، يعيش مع عائلته في ريف إدلب) ما سبق حول ضعف الروابط العائلية ويفسر "سابقاً كانت العائلات مرتاحة نسبياً، وإن وقعت أسرة ما ضمن العائلة في أزمة أو حاجة كانت تجد من يمد يد العون لها، حالياً جفّت المصادر والجميع بات يعاني فمن يساعد من؟ هي الحرب تخرج أسوأ ما في الأنفس".
يصعب تخيّل حجم النتائج التي يرجح أن تنتج عن التشتت العائلي على المستويات النفسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن المؤكد أننا أمام تغير جذري ذو نتائج على المدى البعيد، أما كيف ستكون تلك النتائج، فالأمر مرتبط بمسارات الصراع في البلد المنكوب، هل ستتوقف رحى الحرب عن طحن ما تبقى من عائلات متماسكة، وربما تساعد في عودة من لا زال يريد من اللاجئين للم شتات عائلاتهم؟ هل ستفضي سنوات الصراع إلى حل يعيد المجتمع إلى مسار تطوره الطبيعي كمجتمع يتجه نحو الحداثة على حوامل الحرية الاقتصادية وحرية العمل المدني في ظل دولة تمارس أدواراً اجتماعية تحمل الأعباء المتضخمة التي كانت تنهض بها العائلات السورية طيلة العقود الماضية؟