لا أذكر متى بدأ جهاد بإعطاء الدروس في اللغة العربية، ولا أعلم إن كان هو من اكتشف موهبته أو أنّ أحداً نبهه إلى ما يمتلك، كل ما أتذكره أنه عند بلغ الثانية عشر، امتلأ بيتنا فجأة بأصدقائه (طلابه) للاحتفال بعيد ميلاده، وأذكر تماماً كيف سارعت أمي بإعداد قالب كاتو وأشياء أخرى، تفادياً لـ "سواد الوجه" أمام رفاقه، كنا نعرفهم، فرداً فرداً، ونعرف ما يتميز كل واحد منهم بناء على تقييمه لهم.
في البداية كانت تربطني به علاقة يشوبها شيء من المنافسة كما كنت أظن، كنت أعرف أنه الابن المفضل عند أمي، وبالمقابل كنت الطفلة المدللة لدى والدي، وعلى الرغم من هذا الشعور من جانبي، فقد كنت أرى فيه التفرّد والتميز، نافذة إلى العالم الخارجي، كل يوم لديه قصة يرويها، أو لعبة جماعية جديدة، نكتة، أغاني جديدة، أخبار عن المنطقة، أخبار الفدائيين، مغامراته خارج البيت، وخاصة السباحة المحرّمة في نهر بردى.
الحلم المبكر بالثورة
كنت تقريباً في سن الحادية عشر وكان جهاد في سن السابعة عشر عندما اقترب مني، وقال بنبرة جدية:
-تعالي بدي احكيلك شغلة مهمة
-أنا؟ شو في؟ هل توقفت الحرب بيننا؟
جلسنا في الغرفة التي نسميها حتى الآن (الغرفة الجديدة) وهي كانت بمثابة غرفة ضيوف.
طبعاً بالنسبة لي لا علم لي ولا خبر إلا بثورة الثامن من آذار التي كنت أشارك باحتفالاتها في المدرسة وأتغنى بسد الفرات وتعبيد الطرقات وكنت رائدة في هذا المجال!
حكى لي عن العدل والمساواة والحرية، وأعطاني كتاباً مترجماً عن الروسية كي اقرأه عن أطفال طاجكستان وكيف كانوا يعيشون في تلك الفترة في ظل الشيوعية، وعندما انتهى سألته متحمسة عن موعد الثورة، فقال أنه لا يعرف موعداً محدداً ولكنني يجب أن أكون مستعدة، وطلب مني ألا أخبر أحداً، وأننا سنقوم باجتماعات سرية تحضيراً للثورة. وبالفعل فقد انتسبت لاتحاد الشباب السوري الديمقراطي التابع للحزب الشيوعي، جناح فصيل يوسف فيصل.
تلك الجلسة كانت نقطة التحول الأساسية في حياتي، لقد أعطاني الأمل بإمكانية التغيير، إمكانية تحقيق الأحلام، الثورة على الواقع، لقد أيقظ عندي روح التمرد، لما لا؟ وهو إلى جانبي؟ لم لا؟ وأخي الكبير وأحد أهم أعمدة العائلة هو الذي أشعل هذه الفكرة في رأسي؟
لقد منحني جهاد حق الاختيار الذي لولاه لسلكت درباً أطول بكثير للحصول عليه. كنت أخبره ما أريد أن أفعل، وكان يذكرني دائماً أنه إلى جانبي ولكن عليّ تحمل مسؤولية اختياري.
في البدء... ثورة على مستوى العائلة
ولم يطل الأمر حتى أدركت أن جهاد كان قد بدأ بالفعل في ثورته على مستوى العائلة، هو الجريء الفصيح بالفطرة، إذا تكلم أنصتنا بانتباه لطرحه الجديد الغير مألوف. نحن العائلة الفقيرة على كل الصعد عدا عزة النفس والأخلاق، عائلة ما زالت تناضل من أجل إقناع الوسط المحيط بحق الإناث في التعليم، ولطالما وقفت أمي في وجه أعمامي وأخوالي المعارضين لمتابعة أختي الكبيرة تعليمها.
لا أحد كجهاد يجيد توصيف الأمور، لا أحد غيره يجيد الإقناع، لا أدري كيف أقنع أمي الفلاحة ذات التسع أولاد بلعب الرياضة لتعتني بجمال جسمها ولياقتها، كان يعاملها كأنها حبيبته وليست أمه، يخبرها كل يوم كم هي متميزة، وعلاوة على ذلك أضحت تتابع أخبار الرياضة معه، هو المهووس بالرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً.
"امشي كالفلاحات"
في الحقيقة، كان يعامل كل امرأة كأنها محبوبته، لديه القدرة على معرفة وفهم مواطن الجمال والقوة في كل امرأة، ولا يتوانى عن إخبارها، هو الراقي بوصفه وبكلماته.
كان لا يتهاون ببعض التفاصيل التي كنت بداية أراها ثانوية، والتي أضحت عندي أساسيات للجمال. لم ولن أنسى تعليمه لي كيف أمشي في إحدى زياراتنا للضيعة، كان علينا أن نقطع حوالي 2 كم مشياً، وقتها لفت نظري إلى طريقة المشي: "شدي ظهرك، ارفعي صدرك، امشي متل الفلاحات، بعمرك شفتي فلاحة محنية؟".
وفي الدروب الطويلة أثناء رحلات المسير، كان يخبرني أن حتى هذا التعب وهذا الطقس، حار كان أم بارد فيه متعة، "لا تتكوري بالبرد.. استرخي.. اتحدي مع الطقس وشوفي كيف رح تستمتعي بهالبردات".
خيبة العمل الحزبي
للأسف لم يكن العمل الحزبي على مستوى الحلم، حلم الثورة والتغيير، ولم يكن من الصعب إدراك الهوة بين الحزب والشعب، حتى داخل الحزب نفسه، الهوة شاسعة بين القيادات والكوادر.
"وصلنا متأخرين" كان جهاد يتمتم في تلك الفترة، لو أنه عاصر فترة الحراك والعمل الحقيقي قبل حكم البعث أو على الأقل بدايته، قبل تدجين الأحزاب وتحويلهم إلى ما يشبه النوادي للالتقاء والاحتفال في الأعياد. ولأن جهاد خلق حراً، فقد اصطدم أكثر من مرة مع أحد قياديي الحزب الأرستقراطيين، كان يزعجهم شموخ وهيبة جهاد، هو العامل ابن العامل، لا سند له غير نفسه، وكم حاولوا تحطيم عنفوانه. كانوا يتجاهلون متعمدين ما لدى جهاد من قدرات، أو بالأحرى كانوا يخافون أن يعرفوا، وكانوا حريصين ألا تعطى له أدنى فرصة للتعبير عن نفسه، وقد أدرك جهاد أنه من غير المجدي محاولة إثبات الذات أمام هؤلاء، وأن محاولاته فيها تهديد لسكينتهم، هم الذين يعتبرون أنفسهم صفوة الخلق في التفكير، البعيدون في الواقع كل البعد عن مبادئ الشيوعية. لقد أيقن أن مكانه ليس بين هؤلاء، وإنما إكمال ما بدأه بين أبناء طبقته، في العائلة، في الشارع، في العمل بالسخرة، لقد فضل العمل كعامل بناء على العمل في مكاتب الحزب، لقد اتخذ قراره، إما أن يجني رزقه بعرق جبينه حرفياً أو أن يعمل بما تسمح له قدراته الفكرية دون رقيب أو حسيب.
ولأن جهاد لم يفقد الأمل لحظة، فقد دأب على تثقيف نفسه وقراءة المزيد والمزيد خلال فترة الركود والبطالة الخانقة وقلة فرص العمل بمجال البناء، هو المدرك أن ما يعيشه مجرد مرحلة من التاريخ وأن الثورة آتية لا ريب فيها.
كان يتعامل مع الحياة كـ "معلم" وليس كـ "تلميذ". وعند مناقشتي له في هذه القضية قال لي: "أنا أقرأ وأراقب ولكني بالمقابل أخلق نهجاً جديداً خاصاً بي، لا أكتفي ولا أرتوي بما قرأت، لدي دائماً ما أضيفه".
أحبه عندما يصغي باهتمام إلى ما ترى مخيلتي في الحلم من أشياء وأماكن غريبة، يطلب مني المزيد من التفاصيل دون ملل، يدخل معي في الحلم، يشعر به، أشعر أنه يبحث عن شيء ما في أحلامي، أساعده، أحثّ دماغي على تذكر المزيد، نضيف معاً إلى الحلم أبعاداً جديدة، نبني أكواناً مختلفة، شروطاً أخرى للحياة.
عندما لاحت ملامح الثورة كان نجمه قد بدأ يسطع قبلها بسنوات قليلة، وكانت فرص الشهرة والربح قد بدأت تنهال عليه، وكان بوسعه أن يختار النضال من الخارج كما فعل غيره كثيرون، لكنه اختار الوفاء لحلمه ولمبادئه، الوفاء لانتظاره وانتظارنا الطويل، اختار أن ينصر ثورته بالكلمة والعمل، كان على يقين أن أحداً لن يسمعك ما لم يرى كتفك على كتفه في الميدان، سماه الكثيرون "البوصلة" وسماه أكاد الجبل "القديس" وأنا اسميه "يرقص مع الذئاب" كإسم بطله الذي أحبه.
أراه في في متاهات أحلامي، يجري أمامي ويلتف مبتسماً، اسأله "وين رايح" يومئ برأسه لأتبعه، يرشدني إلى دروب جميلة تشبه أحلامنا، يواصل بحثه في زوايا أحلامي، أركض خلفه، أريد أن أخبره أنني رأيت أخيراً فيلم "أساطير الخريف" الذي طالما حدثني عنه، أريد أن أعاتبه لأنه لم يعانقني عند وداعي له آخر مرة رأيته فيها، أعاتبه على غيابه الطويل، أن أحدثه عن الغوطة، عن الكيماوي، عن رحيل والدنا الذي لم يعرف أبداً أنه معتقل، عن وعن.. يضيع مني ويختفي مواصلاً بحثه في زوايا أحلامي المبهمة..