(هذا النص بقلم أصدقاء جهاد الكورد)
من الصعوبة أن تكتب عن شخص عشت معه أجمل أيام حياتك، في حلاوتها ومرّها، لو لم يكن هذا في زمن التطوّر التكنولوجي، لتوقف القلم عن الكتابة، ولطلب منك عدم تعذيبه أكثر من ذلك، وإجباره على الكتابة عن أشياء تحزننا (تحزن الشخص الذي نكتب عنه). بالتالي؛ فأنت تكتب عن شخص لا تعرف حتى الآن أين هو؟ في أيّ معتقل يكون، على الرغم من كل محاولات الأصدقاء والمحبين معرفة أي بصيص أمل عنه، سواء بالطرق الشرعية؛ أو الملتوية؟
تلك هي الصعوبة بعينها؛ حين تكتب عن شخص تعلمت منه الكثير في جميع مجالات الحياة، في السياسة والأدب والفكر، ووهبها دون مقابل لكل أصدقائه وزملائه ومحبيه. لقد تعلم أساليب النضال منذ نعومة أظافره، لم يكتف بالسياسة وحدها، بل كان مناصرا لقضايا الشعوب المضطهدة. وإن لم تكن هذه الانطلاقة فيما بعد لجميع مواقفه اللاحقة، فإنه بطبيعته الريفية وهو ابن قرية "عكوبر" الواقعة في ريف دمشق الغربي، التي كان يفتخر بها، كان أشدُّ إصراراً على الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين، لا بلّ؛ ونقطة التحوّل في اختيار توجهاته فيما بعد، بأن يكون يساريّاً حقيقياً، قولاً وعملاً.
المجد لاسمك
أن يجتمع مجموعة من أصدقائك للكتابة عنك في هذه الذكرى، تبدو المهمة أصعب بشكل منفرد، وقد تتطلب الذكرى أكثر من مادة كتابية، فكل واحدٍ يريد أن يكتب ما يشعر به؛ أو عن الأيام والذكريات التي عاشوها معه وقضوها معاً.
الزملاء والأصدقاء الإعلاميون والصحفيون الذين كنت سنداً لهم في كتاباتهم وظهورهم، هم بحاجة لعشرات المواد لتقديم العرفان لك، النازحون الذين هربوا من قصف النظام وكنت عوناً لهم، بجعبتهم الكثير من الأحاديث والقصص عن الليالي التي قطعتها بين الغوطتين لمساعدتهم في أحلك الظروف، ومدى تحديك للمخاطر من أجل مساعدتهم، الأطباء الميدانيون الذين كنت بمثابة غطاء لهم ولغيرهم، يتذكرون أخطر اللحظات التي عاشوها معك وأنتم تنتقلون معا من حي لآخر، ومن مدينة لأخرى، لتضميد جروح العشرات والمئات الذين أُصيبوا تحت القصف البري والجوي، كل حبة دواء وإبرة قدمتها لجريح وأوصلتها للمدن المحاصرة، كانت كفيلة بإنقاذ حياة إنسان... كل هؤلاء يمجدون اسمك، يفتخرون حين الحديث عنك بأنك كنت جزءاً منهم، وهم في غاية الألم لعدم تمكنهم من رد الجميل لك؛ أو الوصول إليك بكل الطرق الممكنة منذ لحظة اعتقالك وحتى الآن، هم كانوا وما يزالون يا جهاد يعيشون الألم ذاته في الانتظار مع رفيقة نضالك ودربك، "أمل" الوفية والمليئة بالحياة والأمل معاً، على الرغم من طول فترة الاعتقال والانتظار، والتي أحياناً نكتسب منها القوة التي تعلمتها منك وعشتموها معاً في سبيل أن تسعدوا غيركم.
كلمات عنك ومنك
هنا، كلمات عنك ومنك: "كن حراً أينما كنت..."، "للغائب الحاضر بين كل الأسطر والحروف والصفحات حريتك هي عيدنا يا جهاد، الحرف والكلمة والصوت"، "السجن ليس لنا نحن الأباة يا جهاد، السجن للمجرمين الطغاة ما أروعك يا جهاد وأنت تبتسم"، "سنحرر شاعراً بقصيدة... نحرر شاعراً من السبات الجماهيري ونضغط لتحرير جسده من السجن، نكتب ليكون السجن عذابا للسجان والشعر حرية وخلاص"، "لابتسامتك فعل الزكاة في الروح"، "حيث تضيءُ ضحكتكَ... مع ضحكات من معكَ الآن... ستكون الشمس... جهاد... بانتظار مطر يبلل شفتيكَ العاشقتين لقبلة دمشق!"، "بيني وبين حارسي جدار وفتحة في ذلك الجدار... يرى من ورائها الظلام... وأراقب النهار"، وأخيراً "بانتظار أن تزين ابتسامتك الجميلة أيامنا".
نعم هكذا عبّر الأصدقاء بأقل الكلمات عن غيابك، ونعتذر لمن لم نختار جزءا أو لم نستطع نشر كل الآراء عنك، أنها المحبة التي زرعتها لدى الجميع؛ وهم يردون ذاك الجميل بهذه الكلمات... وما نزال ننتظر معهم حريتك وابتسامتك لتزّين أيامنا.
سنستأذن منك؛ ونأخذ ما كتبته منذ سنوات ونردَّ بها على الأصدقاء، وكأنك حاضراً بيننا وتعيد عليهم هذه الكلمات التي أثبتت تجارب السنوات الثمانية من الحرب بدءاً بالاحتجاجات الشعبية السلمية حين كنت في المقدمة دائماً مع كل المحتجين، وانتهاء بما نعيشه اليوم من دمار وخراب ونزوح.
التنبؤ بدروب الثورة الوعرة
إن معرفتك الواسعة كانت كفيلة بأن تكون تقديراتك في محلها، لقد قلتها قبل سنوات أو فلنقل في البدايات، وكان صحة حدسك في مكانه حين كتبت: "الدروب الوعرة هي الآن عنوان كل نقاش يشبه المعركة بين "مؤيد" و"معارض"، وهنا لا فرق بين متعلم وأمي، ومثقف وجاهل، ومنتمٍ وغير منتمٍ، وكبير وصغير... فالجميع إلا ما ندر، يتعامل مع الآخر على أنه عدو، أو أنه بالحد الأدنى أحمق وطائفي، أو انتهازي وعميل، كما أنه لا فرق إن كان هذا النقاش/ العراك، في مقهى أو في شارع أو على شاشة إحدى المحطات... وأجزم هنا أن لا أحد من المتناقشين المتعاركين يسمع الآخر، وكل منهما يظن أن الغلبة لمن يصرخ أكثر!
وهناك دروب وعرة، متعرجة وطويلة ومليئة بالمخاطر، تفصل عدداً من المحافظات بعضها عن بعض، فالطريق بين ريف حماة الغربي/ حمص مثلاً، لم يعد يستغرق نصف ساعة كما كان قبل عهد قريب، بل صار يتطلب من ساعة ونصف إلى ساعتين، حسب مزاج الحواجز الأمنية، والحواجز الطائفية، المقيمة أو "الطيّارة"، التي يمكن أن يكون المرور عبرها آخر عمل يقوم به مواطن بسيط لا ناقة له ولا جمل في الاصطفافات العمياء الجارية في البلاد حتى الآن... وهذا الأمر يحدث ما يوازيه أو يزيد في بعض مناطق طرطوس ودير الزور وحلب وإدلب واللاذقية...
وربما، إذا ما استمر الحال على المنوال ذاته، يمتد هذا الجنون الدموي ليشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها...".
يؤسفنا أن نبلغك يا جهاد، أن الوطن الذي تعلمنا كيف نحبه ونجلّهُ أصبح كما وصفته تماماً.
ولن نزيد أكثر من ذلك، فالكلمات لن تنتهي، وسنختم ما كتبته إحدى الصديقات في الذكرى الأولى لاعتقالك، وكيف لهذا الجلاد أن يسكت هذا الصوت الحر، والكلمات تعبيرٌ حقيقي عن كل شخص كان بمعرفة بك، قالت لسان حالنا: "بين جهاد والكلمات عهد وميثاق، هو يجمعها بخيط نور وحقيقة وهي تغدو شمعات تنير دروب عتمته... والشاب الأسمر ابن القلمون العتيق، يحفظ عهوده ويصون مواثيقه فهو حين يعقد كلماته على صفحات الصحف والجرائد، تصبح صوت للعدل وفاروق بين الحق والباطل... وجهاد الإنسان أولاً والصحفي ثانياً ينتصر دائماً لكل مغلوب ومقهور وفقير، ويتجرأ بكلماته أبداً على الظلم والضلال والاستبداد...".
(ملاحظة: تم إجراء تعديل على هذا النص بتاريخ 19 آب 2019، حيث تم تصحيح بعد المعلومات الواردة في النص)