(دمشق)، "قدمت ذات النص مرتين للمديرية، وفي كل مرة كان يُرفض بحجة مختلفة؛ لديهم مخرجيهم الذين لا يخرجون عن الخط الفني والفكري الركيك الذي بات معروفاً للجميع، يخيفهم أي تجديد ويهدد فسادهم".
هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت المخرج (ز،ع)، عاكسا بصورة جلية الواقع الصعب الذي يعيشه المسرحيون السوريون في الداخل اليوم.
فإذا كانت القنوات الإعلامية تصف الحرب، بأنها مسرح كبير لعرض مشاهد الرعب القذرة التي حلت بالإنسان السوري، فإن المسرح السوري، مسرحاً داخل مسرح، تفاعل مع المسرحية الكبرى وقدم من خلال الفن أو ما يشبه بشكله فن المسرح، رؤيته عما يدور في الواقع السياسي تحديداً، أو ما يمت لهذا الواقع بصلة ما. إذ ساهمت حركة التغيير التي سعى إليها السوريون في 2011م إلى فرض معايير مختلفة في التعاطي مع الوضع الجديد في مختلف المجالات، أحدها بشكل بديهي الفن، حيث شغل حيزاً خاصاً للتعبير عن كل ما حدث ويحدث من جميع الأطراف، وشكل صورة (شكل، مضمون) لكل ما يجري في الداخل السوري من تناقضات للحياة السورية من أبسط تفاصيلها إلى عوالمها السياسية المعقدة.
تُقدم اليوم في سورية/ دمشق، عروض مسرحية في أماكن محددة للغاية، (مسرح العلبة الإيطالية والمسرح الدائري) في المعهد العالي للفنون المسرحية، (مسرح الأوبرا، مسرح الدراما، والقاعة متعددة الاستعمالات) في دار الأسد للثقافة والفنون، مسرح الحمراء، مسرح القباني، وفي أماكن بديلة متعددة، أغلبها غاليرات. وإلى جانب ذلك، تتشظى، أحيانا ونادراً، عروضا مسرحية في المحافظات كحمص وطرطوس، تقتصر على المراكز الثقافية. ولكل مكان من هذه الأمكنة خصوصيته في العرض المسرحي من ناحية الشكل والمضمون والتوجه الفكري، وهو موضوع هذا التحقيق.
المعهد العالي للفنون المسرحية.. أثر الحرب
شهد المعهد العالي للفنون المسرحية قبل 2011م العديد من الفرص البحثية والمختبرات المسرحية مع خبراء من الخارج، قاموا بزيارة المعهد وإقامة ورشات مسرحية (كتابة، ارتجال، تمثيل، دراماتورجيا مؤخراً)، فتبادل المشرفون والطلاب في المعهد الخبرات واستمر اطلاعهم على ما توصل إليه المسرح في مسارح عديدة من العالم، كالورشة المسرحية التي أقامها المخرج السويسري (آلان كناب Alain Knapp) المدرس والمسؤول عن المناهج في مدرسة ستراسبورغ، والمخرج الفرنسي (جاك لاسال Jacques Lassalle) مدير مسرح ستراسبورغ القومي ومدير المدرسة العليا للفن الدرامي الملحقة بذات المسرح، عام 1987 في دمشق، إذ تقول الدكتورة ماري الياس في مقدمة كتاب "تمارين في القراءة الدراماتورجية والارتجال" الذي نتج عن هذه الورشة بقلم طلاب قسم النقد (قسم الدراسات المسرحية الآن) "لقد أثارت جلسات العمل هذه تساؤلات هامة وعديدة حول الإخراج والدراماتورجية وإعداد الممثل والعمل الجماعي في المسرح من جهة وحول معاهد المسرح ومناهج التدريس في مدرسة ستراسبورغ العليا للفن الدرامي من جهة أخرى".
كما حصل العديد من طلاب المعهد على فرص للسفر والعمل مع مسارح مهمة في الغرب خلال دراستهم، على سبيل المثال لا الحصر "مسرح الشمس" للمخرجة (آريان مونشكين) 2004-2005. قال الممثل (م،ز): "كنا طلاب حديثي التخرج، وكانت تجربة عظيمة ومختلفة عن كل ما يتم تدريسه في المعهد، إن فرصة خوض تجربة مع مسرح محترف يمكن أن تعلمك الكثير مما لا تستطيع تعلمه نظرياً أو عن بعد"، كما كان هناك مجال لسفر الأوائل في بعض الأقسام لإكمال دراستهم في الخارج والعودة بخبرات معرفية مغايرة تغني الوسط المسرحي السوري.
كل ما تم ذكره من هذه الفرص اختفى مع حلول الحرب، وبالتالي فإن المعهد انقطع عملياً عن مواكبة ما يحصل في مسارح العالم من مختبرات ومحترفات مسرحية بشكل كلي تقريباً. أما نظرياً، فسعى بعض المدرسين في المعهد بشكل فردي إلى مواكبة التنظيرات والكتب الصادرة حول المسرح في العالم، وخاصة المترجمة للعربية منها، ومشاركتها مع الطلاب، كما قاموا بمواكبة بعض العروض العالمية المصوّرة والمنتشرة عبر اليوتيوب، فبالرغم من أن ذلك لا يغني عن الفرصة العملية لأن المسرح فن حي مباشر، إلا أنّ الحاجة للتواصل فرضت هذه الأساليب.
هجرة الكفاءات المسرحية
من بين هؤلاء المدرسين زياد عدوان قبل سفره حيث يدرس اليوم في برلين، والدكتور أسامه غنم الباقي حتى اليوم في دمشق، مدرّساً في المعهد. من جهة أخرى، وكما حال كفاءات سورية في مختلف الاختصاصات، هاجرت بعض الكفاءات المسرحية بعد الحرب لأسباب تخص الأمان بالدرجة الأولى، وانعدام مقومات الحياة الأساسية بدرجة ثانية و....الخ. فأدى غياب الكوادر التدريسية وسفرها إلى انضمام من لا يمتلكون الكفاءة للتدريس في المعهد، فأغلب المعيدين (المدرسين المساعدين) هم من حديثي التخرج، وهناك مدرسين أساسيين لمواد اختصاصية، خريجين منذ فترة ليست بطويلة وخبرتهم لا يمكن أن تؤهلهم للتدريس أو الإشراف في المعهد، فالمعدل العالي لبعضهم أو علاقات بعضهم الجيدة مع المسؤولين، ليست معايير كافية لتحمل مسؤولية التدريس في المعهد وتخريج أجيال مبدعة، يقول الممثل والمخرج (ج . ش): "من هي كوادرنا التدريسية في المعهد اليوم؟ أنا خريج تمثيل ولدي خبرتي الطويلة في الخارج مع مخرجين من بلدان مختلفة، يمكنني أن أقوم بورشة مسرحية واختبارات خاصة مع مجموعة من المسرحيين خارج نطاق التدريس، إلا أنني لا أصلح للتدريس في المعهد، لا أنا ولا أصدقائي ولا الخريجين الجدد الغير حاصلين على خبرة تدريسية أكاديمية تؤهلهم لذلك! سيعود ذلك على خريجي المعهد الجدد بالسوء".
حول عمادة المعهد
من ناحية أخرى، كان لعمادة المعهد دوراً أساسياً في حرية البحث المعرفي وحرية التعبير والتجريب، فكان من العمداء من يساعد في تسهيل قيام بعض الطلاب بعروض مسرحية كتجارب خلال الدراسة أو بعدها بقليل، خاصة أن التجارب الأولى معروفة بصعوبتها. يقول خريج قسم الدراسات (ع.ب): "في عهد أحد العمداء، كان يسمح للطلاب بالتجريب وهم في سنوات الدراسة، وهذا ما اختبرته أنا شخصياً. أما في عهد عميد آخر، فإن هذا النوع من التجريب أصبح محدوداً للغاية ومحدد باعتبارات ربما شخصية أو ربما إدارية، فطبيعي ألا يكون كل مسرحي أكاديمي مديراً جيداً وهذا بالطبع يشكل ارباكاً أمام الشباب المسرحي".
كما باتت المعايير في اختيار العمداء مؤخراً مخزية، فبعد أن كان أغلب العمداء ممن يحملون شهادات الدكتوراه في المسرح، أصبحت هذه الشروط غائبة رويداً رويداً، وأدار هذا المكان الذي من المفترض أن يكون إبداعياً، شخصيات لا تمت للإبداع بأي صلة، كتامر العربيد تلته الممثلة جيانا عيد، حيث أصبح في عهدهما، الحال أكثر سوءاً من ذي قبل، وبات المعهد الذي كان ملجأ لكل مبدع يحاول التشكيك بأي تابوهات في العالم، كأي دائرة حكومية منقادة تنفذ ما يريده النظام الحاكم، وتزين بناءها بأعلام النظام وصور الديكتاتور. تقول خريجة قسم الدراسات: (ل.ا) "لم نكن نلحظ أية صور أو أعلام في المعهد، ولم يكن يسمح لأي سلاح بدخول حرم المعهد، إلا أنه في عهد تامر العربيد ظهرت كل هذه المظاهر، بالإضافة إلى مظاهر دخول سيارات خاصة لطلاب لديهم نفوذهم لا تليق بالمعهد، بالإضافة لتشديدات في عدّة قضايا لم نكن نراها سابقاً"، بينما تقول الممثلة (إ.ر) عن فترة إدارة جيانا عيد: "مر علينا 4 مشرفين على مشروع التخرج، وحدثت إشكالية كبيرة بين بعض الطلاب، فأدى ذلك إلى حرماننا جميعاً من مشروع التخرج الذي هو حقنا الطبيعي وحلمنا منذ السنة الأولى، وأنا أرى أنه كان بالإمكان تجنب ذلك إدارياً".
المسرح والسياسة
"كل مسرح هو بالنهاية، مسرح سياسي.. والمهم أية "سياسة" يخدمها هذا النص المسرحي أو ذاك؟ باتجاه تكريس الوضع القائم أم باتجاه التغيير لمصلحة التقدم الاجتماعي؟".
إن مقولة كهذه للمسرحي الكبير، سعد الله ونوس، والتي قيلت في حوار أجراه معه الدكتور نبيل حفار، في مجلة الطريق عام 1986م، من شأنها أن تعبّر بدقة عن وعيه لماهية عروض المسرح السوري في الثمانينات، والتي استمرت بوضوح أكبر دون أي خجل بعد ثورة 2011، فالعروض، إما كرّست ومجدت بطولات ومقاومة نظام استمر بالحكم الديكتاتوري لأكثر من 40 عام، كعرض "الوصية" 2017 من إخراج ممدوح الأطرش، وعرض "تصحيح ألوان" 2017 لسامر محمد اسماعيل.....الخ، أو عروض حاولت بتأن التشكيك بكل ما تمّ تكريسه من قبل هذا النظام من أبديات ومقدسات لا يمكن المساس بها كعرض القراءات "على الطريق" 2014 لوسيم الشرقي وعرض "من أجل نعم من أجل لا" لمجد فضة.....الخ، وبين هذين النقيضين من العروض تتراوح عروض كثيرة لها رؤاها بين هاتين الضفتين.
عروض دار الأسد للثقافة والفنون: أدلجة مفضوحة
لم يكن من السهل قبل 2011 تقديم المخرجين السوريين لعروضهم على خشبات دار الأوبرا، خاصة أنها كانت حديثة الافتتاح بعد انتظار دام 30 عام، بل كان الروتين يعيق العروض المسرحية المحلية في كثير من الأحيان أمام العروض الأجنبية القادمة من الخارج الناتجة عن الاتفاقات الثقافية مع البلدان الأجنبية. بعد الثورة أدى اسم الدار الرسمي "دار الأسد للثقافة والفنون" بحد ذاته إلى رفض كم من المسرحيين المعارضين محاولة العمل مع هذه المؤسسة.
مديرية المسارح والموسيقى، دائرة حكومية روتينية
استمرار تقديم المسرح مع بعض "التنازلات"
المسرح المستقل، محاولات للتغيير
ولكن الخيار الأصعب يكون في خيار تقديمه على خشبات المسارح الحكومية كما فعل المخرج (مجد فضة) عندما عرض مسرحية "النافذه" 2016 في استيديو في المعهد العالي للفنون المسرحية ومسرح القباني، ويزن الداهوك عندما عرض "الخزان" 2017 في المسرح الدائري في المعهد ذاته، وكما عرض حسين خضور "زيارة ذاتية" 2015 في المسرح متعدد الاستعمالات في دار الأوبرا. ففي هذه الحالة ستخضع العروض لرقابة المسؤولين في هذه المسارح، التي لم يقبلها (علاء الدين العالم) في عرضه "لا مخرج" 2015، بل قدمه في غاليري نصار، وقدمت سوزان علي عرضها "كحل عربي "2018 في غاليري "مصطفى علي"، ولكن هذه العروض لا تترك أثرا كبيراً بسبب عدد أيام العرض القليلة على الأغلب، وبسبب عدم الإعلان الكافي عنها.
النص المسرحي، حيرة بين العالمي والمحلي
من ناحية النص، يتعامل المخرجون السوريون اليوم باختلاف مع هذه القضية، فبعضهم يقوم بالاقتباس الحر من النصوص العالمية لدرجة كتابة نص خشبة مغاير تماماً، إذ يقول المخرج (ح.خ): "أين هو النص السوري المحكم مسرحياً ودرامياً كي نقدمه على المسرح؟ أنا لم أجد حتى الآن نصاُ سورياً قد مس حسّي الإخراجي لأقدمه على الخشبة، وعندما أجد لن أتوانى في العمل على إخراجه"، في حين قال المخرج (ج . ش): "عملت سابقاً على نص محلي لكاتب سوري، وبعد حوارات ونقاشات عديدة، استطعنا أن ننتج عرضاً يمس مأساتنا وواقعنا، وأنا أحضّر حالياً لعرض آخر، تتم كتابته من قبل دراماتورج خلال بروفات ارتجالية ستمكننا من كتابة نص غني بنا ويحاكي واقعنا الذي يجب أن يتوجه مسرحنا له، فلا أظن أن أي نص مهما كان عظيماً يستطيع أن يناسب أو يعبّر عن السوريين كما نستطيع نحن التعبير عنه".
أما الكاتبة (ل.ا) فقالت: "بعد كتابتي لنصي المسرحي الأول، حاولت العمل كدراماتورج على نص إيرلندي كان يعجبني كثيراً وشعرت أني من خلاله أستطيع قول ما أريد، إلا أنه عند مضي بعض الوقت على التبييء والتعديل على النص، شعرت وكأن النص الجديد ملكي، وكأنني أكتب نصاً جديداً بكل تفاصيله، ما عدا تأثري بواقع الشخصية النفسي والاجتماعي في النص الإيرلندي، والذي اختلف مع تقدم العمل، فانكفأت عن العملية الدراماتورجية التي كانت ستظلم تعبي ككاتبة، وأنا اليوم في المراحل الأخيرة من كتابة نصي الجديد".
لم يكن المسرح قبل 2011 مستكيناً لما يحدث في سورية من فساد سياسي وتجاهل إنساني، إنما كان ككل الفنون يعمل بالخفاء ويحاول إيصال الرسائل بطرق ملتوية. أما بعد الثورة فقد أصبح الطريق الملتوي شائكاً وطويلاً أكثر، إذ أن التعبير عن الواقع صار أصعب أمام التشديد الأمني والرقابة الصارمة في الداخل وبقيت محاولات التجريب المسرحي الجادة مستمرة. أما الهوية، فهل هناك هوية للمسرح السوري أمام كل ما ينتجه المسرح الحكومي من استعراضات ثابته لا ترغب في التغيير؟ وهل يمكن للتجارب الفردية النادرة، ومنها التجارب المستقلة أن تخلق هوية لا شذرات متناثرة هنا وهناك؟