(دمشق)، لعنت الآلهة سيزيف وجعلته يمضي حياته وهو يحمل صخرته إلى قمة الجبل لتعود وتتدحرج إلى سفحه، فيعاود حملها لتقع منه مجدداً.
"كنا نظن في تلك الأيام أن عائلتنا وقومنا قد اكتفوا من النزوح. لكننا كنا مخطئين".
هذا ما تقوله السيدة الشركسية السبعينية، من سكان مدينة دمشق، وهي تتنهد وتصب الشاي الذي يعشقه الشراكس إلى حد الإدمان، فيما تنظر إلى صور باهتة قديمة لها ولزوجها وأولادها في حقل دارهم في بير عجم.
نزوح أول للحفيدة وثاني للجدة
جانسيت ليست من سكان بير عجم، بل من سكان القنيطرة المدينة. كانت تقيم هناك في منزلها الحجري مع جدتها وأمها وإخوتها عندما نزح سكان القنيطرة عام 1967 إلى دمشق بسبب ما يعرف بالاجتياح الإسرائيلي. أقامت مع النازحين في مركز إيواء لفترة من الزمن قبل أن تتوظف كمعلمة ابتدائي وتستأجر مع عائلتها بيتاً متواضعاً في أعلى جادة في منطقة المهاجرين.
تقول جانسيت لحكاية ما انحكت: "خسرنا كل شيء، خسرنا بيتنا ومدخراتنا، كان ذلك نزوحي الأول، لكنه كان نزوح جدتي الثاني، التي هربت عندما كانت طفلة من مجازر الروس التي ارتكبوها بحق الشركس في أواخر القرن التاسع عشر. كانت جدتي تعشق منزلنا في القنيطرة، كانت الورود التي زرعتها حوله كثيفة وآسرة وكأنها من قصة خيالية. ماتت جدتي والحسرة في قلبها بعد النزوح بعامين، وقبل تحرير القنيطرة في عام ثلاثة وسبعين. وأعتقد أن ذلك كان أرحم لها من المشهد الذي عدنا لنراه عندما سمح لنا بزيارة المدينة عام 1974. كانت المدينة مدمرة بالكامل، لم يبق فيها حجر على حجر. وكان منزلنا قد سوّي بالأرض. تركت القنيطرة المدينة دون إعادة إعمار، لتكون بحسب ما قالته الدولة شاهداً على وحشية المحتل الإسرائيلي. هل من المنطقي أن تترك مدينة بحالها مدمرة بالكامل لإدانة العدو؟ اتركوا بناية أو اثنتين يا أخي".
الجيش الإسرائيلي يحتل والسوري يفرض النزوح!
في نفس الجلسة، يحتسي نارت ح، زوج ابنة جانسيت، كوب الشاي الثالث منتظراً حماه الذي طلب مساعدته في مهمة خاصة. نارت مهندس مدني في الثلاثينات، وموظف في دائرة حكومية.
يقول نارت: "كان والدي دائما يقول لي: إن المضحك بالأمر أن الإسرائيليين لم يكن لديهم مشكلة بمكوث الأهالي في قراهم، وإنما النزوح كان أمراً فرضه الجيش السوري. كان لا بد من تلك المسرحية التي تسبّبت بتشريد الناس وضياع الأرزاق وهدر الكرامات!".
يقول نارت عما يتذكره من حكايات أبيه عن الاحتلال الإسرائيلي جنوب القنيطرة في ما يعرف بنكسة حزيران عام 1967: "لم تحدث أية مقاومة أو مواجهة في قرى القنيطرة بين الجيشين الإسرائيلي والسوري. علمنا فقط أن القرى باتت تحت سيطرة الإسرائيليين، وأن علينا النزوح باتجاه الشمال. يذكر والدي الذي كان من أواخر من غادروا القرية، أنه رأى سيارة جيب إسرائيلية تطوف في بير عجم التي كانت شبه فارغة، يركبها ضابطان إسرائيليان ينظران بالمنظار باتجاه سهل حوران. وبعد إنهاء جولتهما غادرا المكان. لكنه لم يشاهد جندياً سوريا واحدا".
وبعد ما يسمى تحرير القنيطرة، عاد أب وجد نارت للمرة الأولى إلى منزلهما منذ النزوح عام 1974، ليجدا المنزل منهوباً بالكامل، فيما يشبه تعفيش المناطق المطهرة من الإرهاب هذه الأيام. حتى حديد الشبابيك كان قد اختفى (كما يقول نارت، نقلا عن رواية أبيه له). لم يقم اليهود بالسرقة، بل البدو المقيمون حول تلك القرى، والذين لم يغيّروا أماكنهم أو عاداتهم المعيشية مع تغير المسيطر على مناطقهم. كان يعرف عنهم مقتهم للشركس (وفق قول نارت) الذين استوطنوا قرى القنيطرة الخصبة منذ مئة عام، وعندما خلت القرى من سكانها كانت تلك فرصتهم ليغتنموا مقتنيات أولئك القوم الغرباء عن المنطقة، الذين لا يزالون يتحدثون لغتهم العجيبة ولا يتقبلون أن يدخل أحد إلى دائرتهم الضيقة. "ومع أن ذلك صحيح نوعا ما، لكنه ردة فعل طبيعية ومتوقعة لأية أقلية تحاول الحفاظ على هويتها العرقية في ظل غياب بيئة مناسبة للاندماج الآمن في وطن يحمي حقوق الجميع" كما يقول نارت لحكاية ما انحكت.
بعد التحرير عاد أهالي قرى القنيطرة الشركسية، بير عجم والحمدانية والحرية والبريقة وعدة قرى أخرى، إلى بيوتهم، التي كانت منهوبة وبالكاد تصلح للسكن. لكنهم كانوا أوفر حظاً من سكان المدينة الذين لم تسمح لهم الدولة بإعمار بيوتهم ولا منحتهم تعويضاً عن منازلهم المهدمة. واستغرق الأمر اثني عشرة عاماً قبل أن تقوم الدولة بمنح أهالي القرى بيوتاً جديدة عام 1986. استلم الأهالي البيوت التي كانت رديئة البناء، وقاموا بدهنها وترميمها وتوسيعها.
العودة إلى الجنة/ بير عجم
تستطرد جانسيت وهي تضع أمام ضيوفها طبقاً مليئاً بالحلفّا (فطائر الجبنة الشركسية المقلية): "تزوجت عرفان، وهو من أهالي بير عجم، قبل أن يستلم منزله الجديد بعدّة أعوام. وسكنا في وادي سفيرة في ركن الدين. وعندما استلم البيت في بير عجم الذي كان أشبه بالكوخ، وقطعة الأرض المحيطة، شعرنا أنا وهو بسعادة وراحة لا توصف".
لكن أهالي بير عجم وغيرها من قرى القنيطرة، كانوا على موعد مع نزوح جديد. اندلعت الثورة في عام 2011، وفي الوقت الذي كانت تشتعل فيه باقي المدن والأرياف السورية بالاحتجاجات والمواجهات، كانت بير عجم وغيرها من القرى الشركسية في عالم آخر.
يقول نارت لحكاية ما انحكت: "كان الأمر يستفزني شخصياً، ففي الوقت الذي كانت تحصل فيه المجازر والاعتقالات والقمع الوحشي في حمص وحماه ودرعا، القريبة جداً من قريتنا، كان الشركس يرقصون ويعزفون الموسيقا ويسهرون حتى الصباح وكأنهم في كوكب آخر. أتفهم أن غالبية الشراكس يعتبرون أن مطالب المحتجين لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، وبعضهم يصطفون مع الدولة بولاء شديد، نظراً لانخراطهم في الجيش والوظائف الحكومية، وهم بارعون بذلك، ولكن الانفصال عن الواقع لم يكن مقبولا، عدا عن أنه لم يكن في صالحهم قبل أي شيء".
تتنهد جانسيت: "في الحقيقة لم أكن أتوقع أن تحصل مواجهات خطيرة أو عمليات عسكرية في منطقتنا، كنا نعتبرها المنطقة الأكثر أماناً في سوريا، لأنها منطقة حدودية مع إسرائيل، التي نعرف ضمنياً أن هناك اتفاق بينها وبين الدولة السورية على جعلها خالية من النشاط العسكري. ولهذا السبب، نقلت كل مقتنياتنا الثمينة، ذهب وكاش، وكل أوراقنا الهامة إلى بيتنا في بير عجم. ودهنا البيت بألوان زاهية (تضحك) ونقلت بعض الفرش والكراسي إلى المنزل، وكنت أقيم مع عرفان لأسابيع هناك، في عزلة عن كل ما كان يحدث في البلاد" وفق ما تقول لحكاية ما انحكت.
ولكن وفي أواخر عام 2012، سيطر المسلحون في يوم وليلة على أحراش بير عجم والقرية القديمة. لم تكن جانسيت هناك لحسن حظها بل في منزل ركن الدين "الذي لا أزال أعيش فيه بالأجرة. لكن ما أعرفه أن الجيش السوري بدأ يقصف القرية (على أبو جنب) بعد حصارها، دون أن يراعي وجود المدنيين، الذين نزلوا إلى الملاجئ وظلوا هناك عدة أيام دون طعام أو مؤونة، قبل أن يتوقف إطلاق النار ويخلي السكان القرية، نازحين منها للمرة الثانية. طبعا لم أستطع أن أنقذ شيئاً من المال أو الأوراق أو الأثاث. علمت بعدها أن منزلي أصبح محتلاً من الجيش الحر، وكم يحز في نفسي أن كل تلك الكراسي التي نقلتها إلى هناك كانت تستعمل في اجتماعاتهم".
لا تخفي جانسيت عدم إعجابها بالجيش الحر، ولها أسبابها التي تقولها: "الجميع يعرف أنهم بغالبيتهم ليسوا من بير عجم، وإنما من البدو المقيمين في المناطق المحيطة، وتمركزهم في قريتنا سبّب لنا الكثير من المعاناة التي كنا نحاول أن نتجنبها. وفي النهاية خرجوا منها بعد أن أعاد الجيش السوري السيطرة عليها في العام الماضي. فلماذا كان كل ذلك العناء؟ كل ما تسببت به أفعالهم موت ونزوح المدنيين، وتحويل قرية في غاية الجمال إلى خرابة ومكب نفايات".
العودة مجددا.. إنما بلا أحلام
يدخل عرفان، زوج جانسيت، إلى البيت، ومعه منكوش وأدوات أخرى تستعمل في الزراعة، يشعل لفافة الحمرا الطويلة ويصب كأس شاي يحتسيه سريعاً. فقد كان على موعد مع صهره الذي عرض عليه المساعدة في تنظيف الأرض حول دارهم في بير عجم بعد أن أصبح الطريق مفتوحا أمام أهلها منذ عام تقريباً. حالياً لا يزال الوضع في القرية مزرياً، جزء كبير منها مدمر بفعل العمليات العسكرية التي قامت على أرضها والقصف الذي تعرضت له. كما تعرضت للنهب والسلب. والقاذورات والقمامة لا تزال تملأ الأراضي والشوارع على الرغم من محاولات ومبادرات التنظيف. ومنذ فترة قريبة عادت إليها الكهرباء، لكن المياه ما تزال مقطوعة بسبب تلف أنابيب التمديد وحاجتها إلى الترميم. أما منزل جانسيت وعرفان فقد كان قد نهب بالكامل، لم يبق فيه لا كرسي ولا شباك ولا باب. لكنه لم يتعرض سوى لبضع شظايا تركت حفراً كالجدري على واجهته.
"جاهز للسخرة؟"
"جاهز عمو"
يغادر الرجلان المكان. وتنظر جانسيت إلى كوب الشاي وهناك دمعة صغيرة تطوف بعينيها: "بفكر أحياناً، لو جدي ضل بالقفقاس، كان يا مات يا نفد، وما كان صار مسلسل النزوح كلو. كنا هلأ معنا جنسية روسية، وعايشين بقرية بتشبه بير عجم بس أبرد، كنا عم نحكي لغتنا، وعايشين ببيئتنا، وأهم شي مستقرين. عرفان عمرو هلأ تمانية وسبعين سنة، ولساتو عم ينظف أرضو من آثار الحرب. كم مرة رح ننظف بيوتنا وأراضينا، وكم مرة لسا رح نتركها. اللي صار هالكم سنة خلاني أفقد احساسي بالأمان، وما أتعلق بغرض ولا أتمسك بشي. كل حياتنا سلسلة خسارات ونزوح وشنططة. ما كتير بيفيد الواحد يحلم بشي مستحيل يتحقق. بس بتمنى شغلة وحدة، أنو ما نرجع نجرب النزوح مرة تانية قبل ما نموت".