يميّز الفيلسوف الماركسي الإيطالي الشهير، أنطونيو غرامشي، بين نوعين متمايزين من المثقفين الذين ينتجون ويعيدون إنتاج الثقافة في أي مجتمع، الأول هو مثقف السلطة "Ruling intellectual"، والثاني هو المثقف العضوي "Organic intellectual".
ويعتبر غرامشي أن مثقف السلطة ليس هو من "يطبّل ويزمّر" للسلطة الحاكمة فحسب، بل من يعمل عبر إنتاجه الفكري أو الأدبي أو الفنّي على تثبيت ثقافة نظام السلطة القائمة وتطبيعها "Normalization" اجتماعياً، ما يساعد في المحصلة على بقاء نظام السلطة واستمراره. كما يسمي غرامشي تلك الثقافة التي يعمل مثقف السلطة على تثبيتها لصالح نظام السلطة بـالـ"Culture Hegemony". والمثقف هنا هو واحد من ثلاثة عناصر تعتمدها السلطة لإدامة الوضع الراهن كما هو عليه، ونشر ثقافتها في المجتمع. أما العنصرين الآخرين فهما عملية التربية والتعليم "Education" التي تصنع ثقافة الأجيال منذ الطفولة وحتى الشباب، والفلاسفة أو المفكرون في ذلك المجتمع.
على عكس مثقف السلطة، فإن المثقف العضوي يعمل على نقد ثقافة السلطة القائمة، ويحاول تأسيس ثقافة مضادة، تمنع قبول الناس العاديين لثقافة السلطة على أنها من طبائع الحياة وصروف الدهر. وبالتالي فإن "عضوية" المثقف العضوي تنبع من ارتباطه بحقوق وحاجات المجتمع الحقيقية وكفاحه ضد السلطة التي تعمل عبر أدواتها ومثقفيها على إقناع الناس بأن ما يعيشونه من بؤس هو الطبيعي ومن طبائع الحياة، وليس من عملها هي ومن انعدام العدل الذي تُشرف على استمراره.
على عكس مثقف السلطة، فإن المثقف العضوي يعمل على نقد ثقافة السلطة القائمة، ويحاول تأسيس ثقافة مضادة، تمنع قبول الناس العاديين لثقافة السلطة على أنها من طبائع الحياة وصروف الدهر
قام العدد الأكبر من المثقفين والمفكرين العرب بإقناعنا أنهم مثقفون عضويون، وذلك على اعتبار أن المثقف العضوي كما فهموه وروّجوا له هو المثقف المتّحد بالطبقة والمنخرط بالصراع الطبقي، وهو المعبِّر عن قوى التغيير التي تمثلها فئات الشعب من العمال والفلاحين والفقراء "البروليتاريا". وعلى اعتبار أن الصراع الطبقي يقوم على صراع الطبقات المسحوقة ضد الرأسمالية، أصبح ذلك المثقف هو حامل مشعل الصراع الطبقي ولكن ضد من؟ ضد الرأسمالية المتمثلة عيانياً وسياسياً في الإمبريالية العالمية وفروعها، والمتحالفين معها في المنطقة، وليس ضد نظامه السياسي المباشر والمتعين.
هذا الصراع الزائف كان له نتيجتين هامتين:
لم يكن الدين مالكاً للسلطة في تاريخنا الحديث والمعاصر، بل كان دائماً مملوكاً من قبل السلطة السياسية بمعنى من المعاني، كما أنه ومنذ تشكّل الدول العربية بعد الاستقلال حتى يومنا هذا، لم تكن السلطة الدينية أكثر من تابع ذليل ومنافق للسلطة السياسية. وأما الإرهاب الديني الذي يجول العالم اليوم؛ بعد أن حطّم ثورة السوريين وساهم بعملية الإغلاق المحكم لأبواب الربيع العربي، فقد كان دائماً صناعة مخابراتية تتم تحت رعاية الأنظمة السياسية، والتي هي، كما قلنا، أكبر مُلّاك التوجهات الدينية في المجتمع، والمشرف الأساسي على الخطاب الديني وشيوخ الجوامع وفتاوى الأئمة، والمُراقب الدائم لحركات التدين وبارومتر الاعتدال والتطرف بما يخدم مصالحها. والكلام هنا ليس نوعا من نظرية المؤامرة، بل إنه في الواقع، وبعيداً عمّا بات يعرفه الجميع من صناعة المخابرات الأمريكية، بالتعاون مع مخابرات السعودية ومصر وباكستان، للإرهاب الإسلامي في أفغانستان خلال حربهم ضد الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو رعاية الحرس الثوري الإيراني والمخابرات السورية للإرهابين السني والشيعي في العراق بعد احتلاله أمريكياً، فإن صناعة الإرهاب الإسلامي في الثورة السورية الذي لم تُستكمل كامل خيوط انوجاده بعد، ولا نعرف بالتدقيق كامل الخيوط المخابراتية خلفه، لكننا نعرف على الأقل طبيعة التوجه الديني الذي رعاه نظام الأسد بعد حرب العراق، ونعرف مساهمة الإرهابيين الإسلاميين السابقين الذين حررهم من سجونه بداية الثورة بعد أن درّبهم في معسكراته عام 2003، والسجناء الإسلاميين الذين حررهم المالكي من سجن أبو غريب (بحجة فرارهم) عام 2013، الأمر الذي تم غالباً بأوامر الحرس الثوري الإيراني الذي يقوده قاسم سليماني، نعرف إذاً مساهمة ذلك الإرهاب الإسلامي الخارج من سجون النظامين السوري والعراقي في تحطيم ثورة السوريين فوق رؤوس أبناءها، وفي استقدام التدخل الدولي ضد الشعب السوري بدلاً من التدخل لحمايته.
ولكن بعيداً عن كل ما سبق ذكره أعلاه، فإن ما نريد قوله: إن مساهمة الدين في تحطيم المجتمع، تخلّفه أو تقدّمه أو إغراقه في الجهل، كان دائماً قراراً سلطوياً إلى حد بعيد، وعملية تتم تحت إشراف السلطة السياسية وبما يخدم بقاءها في السلطة، كما أن مساهمة السلطة السياسية في توغل الدين في بنية المجتمع، أو بنية القوانين الحاكمة للمجتمع، كانت دائماً حاضرة في أفعالها وفي ردود أفعالها، إن كان ذلك في مصر الناصرية قديماً أو في سوريا الأسدية في عهدي الأب والابن، أو في العراق الصدّامية وما بعد الصدّامية. وفي كامل تلك العملية، فإن مساهمة المثقف "العضوي" الأيديولوجية في خدمة السلطة السياسية وفي حروب السلطة السياسية ضد المجتمع، كانت تتم دائماً عبر اختيار المعارك الخاطئة، مثل السكوت مثلاً عن أثر السلطة السياسية في تخلف المجتمع مقابل إحالة ذلك التخلف بالجملة إلى الدين وإلى المجتمع ذاته.
ليس القول هنا مثنوياً أو مانوياً، والمسألة لا تنحصر في عالم الـ إما/أو، إما نقد الدين أو نقد السلطة، فكلا النقدين مطلوبين ومهمّين للمساهمة في عملية التغيير الاجتماعي السياسي، ولكن الإعلاء الذي نقوم به تجاه نقد السلطة المهيمنة ثقافياً وسياسياً هو ضرورة فقط لإلقاء الضوء على الخدمات التي قد يقدمها المثقف عندما لا يرى مكامن السلطة في المجتمع، أو عندما يتغاضى عن سلطة الأقوياء السائدة والمسيطرة والحاكمة ويوجه مجمل جهوده نحو نقد سلطة الضعفاء. والدين لم يتشكل في تاريخنا المعاصر إلا بوصفه سلطة الضعفاء.
من أولا.. الاستبداد أم الخرافات الدينية؟
كان نقد الدين والأساطير والخرافات الدينية، ولا يزال، أمراً مهماً وضرورياً ولازماً في جميع الثقافات، وهو مهم خاصة في مجتمعاتنا العربية الحافلة بالخرافات الدينية والغيبية، لكن ما بات واضحاً وضوح الشمس بعد كل التجارب التاريخية التي مرت بها شعوبنا، هو أنه لا يمكن تحرير المجتمع من خرافاته تحت نير الديكتاتورية، بل إن الطغيان هو البيئة الأساسية الحاضنة للتخلّف، وهو المستنقع الأكبر الذي لا تنمو في مياهه الآسنة سوى طحالب التعصب والإرهاب والتدين العصابي والطائفية، وأن الطغيان هو الحامي الأكبر للتشريعات الدينية والقوانين البائدة، سواء كان قانون الأحول الشخصية الذي يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحمي القاتل لأخته أو بنته أو زوجته تحت مسمى "جرائم الشرف"، ثم يبارك زواج القاصر لكنه يمنع المرأة من إعطاء الجنسية لأطفالها. أو قانون الطوارئ الذي استمر في الحالة السورية أكثر من نصف قرن، ليتحول بعدها إلى قانون الإرهاب الذي يحاكم الناس بلا محاكمة وينهي أعمار المدنيين في المحاكم العسكرية والميدانية. وأخيراً إن الطغيان هو الراعي الأكبر لثقافة القطيع الدينية في طبيعتها، التي يشرف عليها عبر مناهج التربية و"التلقين"، ويعيد إنتاجها في المدارس والجامعات ودور العبادة، في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية، ذلك أن ثقافة القطيع هي الضامن الأكبر لبقاء السلطة الطغيانية الحاكمة والأرض الخصبة لحكمها.
لا يمكن لمجتمع أن يتحرر من خرافاته وعاداته البالية طالما أن باب السياسة مغلق في وجهه، بل إن الدائرة المغلقة التي يرعاها الطاغية تقوم على رعاية تقاليد المجتمع البطريركي "الهيراركية" وخرافاته، بناء على أن تلك التقاليد المتخلفة والخرافات ذاتها هي أهم خالق لثقافة القطيع والعبودية، وأهم داعم موضوعي لبقائه مؤبداً في السلطة، ثم اتهام المجتمع المنتج لتلك العادات بالتخلف والإرهاب فيما إذا طالب بحقوقه السياسية، فيصبح التخلف ضرورة لبقاء الطغيان، والطغيان ضرورة لحماية المجتمع من تخلفه، وحماية العالم أيضاً منه ومن "إرهابه". وهذه المهمة كان قد برع في اتقانها بحذافيرها نظام طغياني مثل النظام السوري قبل الثورة وبعدها، لدرجة أنه لم يعد من النادر أن تسمع في النقاشات الغربية اليوم أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تنتج سوى الطغاة، وأنه لا يمكن ضبطها إلا عبر الطغاة.
لا يمكن تحرير المجتمع من خرافاته تحت نير الديكتاتورية، بل إن الطغيان هو البيئة الأساسية الحاضنة للتخلّف
إن نقد السلطة، هو الأساس المعياري لكل نقد، والمثقف الذي يهيئ نفسه لنقد الدين والثقافة المجتمعية البالية، رافعاً عن كواهله نقد السلطة السياسية، أو المناورة والتورية بذلك النقد ليصبح نقد "النظام العربي" "الحكّام العرب" دون تسمية، أو نقد الإمبريالية والرأسمالية والصهيونية وتلك المسطرة المملة، هو ليس مثقفاً عضوياً بأفضل الأحوال، وفي أسوأها، هو خادم لثقافة السلطة السياسية بالمعنى المباشر أو غير المباشر.
آليات المراقبة والعقاب
تحدث ميشيل فوكو في مجمل أعماله عن السلطة، ولكن في كتابه "المراقبة والمعاقبة" "Discipline and Punish" تحدث بشكل مفصّل عن نوعين متمايزين من السلطة: السلطة بمعناها القديم "Repressive Power" أي السلطة القمعية، وهي السلطة التي تستخدم القوة الفيزيائية لإخضاع المجتمع وتأديبه والسيطرة على أفراده، مثل أساليب التعذيب في السجون والمعتقلات، وأحكام الإعدام التي تُنفذ داخل السجون أو في الساحات العامة أمام الناس. والهدف الأساسي لهذه السلطة هو السيطرة على سلوك الأفراد من خلال السيطرة على أجسادهم وتعذيبها وإخضاعها، وإرعابهم دائماً بالطرق الوحشية والبدائية.
تلك السلطة، هي المراقب الفعلي لسلوك الناس من الخارج عبر أدواتها الأمنية والعسكرية والمدنية، المخابرات والمخبرين ووسائل الاتصال والتواصل وغيرها، ولكنها أيضاً مُستبطنة في سلوك الناس اليوم على نحو عميق، وحاكمة لأدق تفاصيل حياتهم حتى في غيابها. تلك السلطة هي فعلياً أقوى من أي دين على الإطلاق، فثقافتها أكثر حضوراً في حياة الناس، ورقابتها أكثر انتشاراً وعمقاً، وعقوبتها أكثر قسوة وأشدّ تأثيراً. وتلك السلطة هي ما يجدر بالمثقف العضوي تفكيكها وتحليلها ونقدها، حيث إن تلك السلطة، هي الدين الأساسي في تاريخنا المعاصر، ولا سلطة سماوية تعلو فوق دين السلطة ذاتها، كما أن السلطة السياسية هي المُشكِّل الأساسي لعنف الدين في مجتمعاتنا، وهي القالب الذي تشكّل الدين على أساسه وحجمه وهواه، فلو كانت تلك السلطة ديمقراطية مُتداولة وغير متوحشة بربرية مثلما سمّاها ميشيل سورا، لما أفرز الدين ذلك النوع من التوحش الاجتماعي والسياسي الذي نراه اليوم.
على الرغم من أهمية الفهم والنقد الدائم للتخلف الديني والاقتصادي والاجتماعي الذي نعانيه، إلا أن المصدر الأساسي للبؤس الذي تعانيه شعوبنا، لا يأتي من الاقتصاد وضعف الموارد والمواد الأولية والبنى التحتية وصراع الطبقات والاستغلال الرأسمالي كما ظن الماركسيون، ولا من الدين والخرافات والغيبيات الحاكمة لثقافتنا كما ظن الثقافيون، بل من السلطة السياسية، سلطة القمع والإرهاب والتوحش والديكتاتورية، فلن يُفصل الدين عن الدولة قبل فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها، ولن يتحرر الاقتصاد أو يزدهر دون التحرر من مافيا السلطة الحاكمة لعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، ولن يتحول الدين إلى دين شعبي عادي ويتحرر من إرهابه دون التحرر من إرهاب السلطة ودين السلطة الواحد.
لذلك كله وأكثر، فإن إن معركة التغيير الاجتماعي السياسي التي يخوضها المثقف، قد تتحول إلى معركة دونكوشوتيّة وهمية، أو تنقلب إلى معركة لصالح القوى التي ينتقدها ويحارب ضدها، إن لم يعي المثقف، أولاً وقبل كل شيء، أين تكمن السلطة في المجتمع.
المراجع:
- Antonio Gramsci, prison notebooks, edited and translated by Quentin Hoare and Geoffrey Nowell Smith, translated from the edition published by Lawrence & Wishart, London, 1971.
- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة (ولادة السجن)، ترجمة، د. علي مقلد، مراجعة وتقديم، مطاع صفدي، مركز الانماء القومي، بيروت 1990.