(اللاذقية)، أقل من واحد كيلومتر تفصل بيت "نضال حمادي" (اسم مستعار، 45 عاماً) عن مكب نفايات قريته، البصة، الواقعة على بعد 10 كم عن اللاذقية، ومنذ إنشاء المكب الملاصق للبحر تماماً في سبعينيات القرن الماضي عرض بيته للبيع عشرات المرات دون جدوى.
للرجل، الموظف في أحد مؤسسات الدولة السورية، ثلاثة أولاد، أكبرهم يدرس في جامعة تشرين ومصاب بنوع من الربو، ما يدفعه يومياً لتناول رذاذ من بخاخ يشتريه 4 مرات في الشهر من صيدلية القرية بما يعادل ربع راتبه البالغ حوالي 50 دولاراً بأسعار الصرف الحالية حيث كل 650 ليرة تعادل دولاراً واحداً. يمشي الرجل برفقتنا على شاطئ الموقع وسط أكوام النفايات، يهزّ رأسه وهو يهمس: "على كذب المحافظة، سيتم إغلاق المكب العام القادم، هذا الكلام عمره خمس وعشرون عاماً".
مكب في منطقة سياحية
يقع المكب على أطراف قرية البصة الزراعية، على بعد حوالي 15 كم عن مركز اللاذقية بمساحة 100 هكتار حالياً بعد أن كانت عام 2002 وفق دراسة أجرتها الجايكا (الوكالة اليابانية للتعاون الدولي) بالتعاون مع مجلس المدينة المحلي، (60) هكتاراً، أي أن مساحته تضاعفت تقريباً في أقل من خمسة عشر عاماً. ويعود ذلك إلى تضاعف عدد السكان، إضافة إلى الدفق الكبير الذي نالته المحافظة من المهجرين بسبب الحرب، وقد تحوّلت قصة المكب إلى واحدة من أشهر قصص فشل الإدارات المتعاقبة في المدينة على مدار عقود في تقديم حلول حقيقية لمشكلة مزمنة طالت في ضررها منطقة واسعة من الساحل السوري، بلغ عدد سكانها فوق مليون ونصف نسمة أواخر العام 2014.
صُنفت منطقة المكب عقارياً منذ السبعينيات على أنها منطقة توّسع سياحي جنوب المدينة، وهي تمتلك مواصفات تؤهلها لتكون كذلك، فهي شاطئ رملي طويل، ولعل أحد أهم أسباب التفكير بنقل المكب رسمياً هو هذه النقطة في ظل التدافع على ما تبقى من مناطق بحرية بعد استملاك أغلبها من قبل حيتان الفساد في البلاد.
كان يجب إغلاق المكب منذ عام 2010 بعد أن وصل تخزينه إلى ضعف طاقته الاستيعابية وفقاً لقراءات مشروع إدارة النفايات الصلبة الذي كان مقرراً تنفيذه منذ العام 2002، حيث استقبل على مدار السنوات الفائتة ملايين اﻷطنان من النفايات، وإلى اليوم يستقبل المكب يومياً بين 800 ـ 1200 طن من النفايات التي توزع في مساحة يبلغ طولها ثلاثة كيلومترات ملاصقة لشاطئ البحر.
الحياة في مكب نفايات
يتحكم بالحياة داخل المكب البالغة مساحته مئة هكتار عائلات من الجوار، تقوم بتشغيل العديد من المراهقين واﻷطفال، خاصة من المهجرين القادمين من محافظات نائية مثل حلب وإدلب، ومناطق محلية مثل الرمل الفلسطيني. يقول "محمد ز" (17 عاماً، من حلب، متزوج) أنه يقوم "بنبش القمامة بحثاً عن مواد يمكن إعادة تدويرها والاستفادة منها" حيث يقوم ببيع ما يجمعه من بلاستيك إلى أحد التجار"، تعرض "محمد" للاعتقال أياماً معدودة لجمعه البلاستيك من قبل الشرطة المحلية.
تمثل هذه الطرق في نبش القمامة واحدة من أبسط وأسوأ الطرق في إعادة تدوير القمامة، وهي منتشرة في كل أنحاء سوريا في ظل ضعف السياسة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة، وزادت الحرب انتشارها في ظل الوضع الاقتصادي المتردي لملايين السوريين.
يقول "جهاد" وهو أيضاً من العاملين في المكب في النبش أن الشرطة تهددهم دائماً بالاعتقال إن لم يتوقفوا عن النبش، يضيف: "صادروا لي دراجتي النارية قبل شهر، دفعت أكثر من 50 ألفاً حتى أعدتها". جهاد (18 عاماً، أيضاً متزوج) من ريف حلب (عندان)، دفعته الحرب في محيط بلدته إلى الانتقال إلى الساحل دون أن يجد عملاً سوى النبش في القمامة، رفض محمد وجهاد وآخرون أن نقوم بتصويرهم خوفا من اﻷذى الذي يمكن أن يتعرضوا له.
تنتشر النفايات في الموقع على ارتفاع يصل إلى 3 أمتار عن مستوى اﻷرض، ويقدر إجمالي كمية النفايات غير المطمورة بحدود مليون طن، ويعمل في المكب حالياً ثلاثة أو أربعة بلدوزرات تابعة للقطاع العام، وتقوم بفرش النفايات بعد الانتهاء من نبشها من قبل النباشين وغيرهم، وحتى وقت قريب لم يكن هناك أي مراقبة للمطمر من قبل أي جهة رسمية.
إعادة تدوير ومكابس ومزايدات يومية
يوم 12 آب 2019، وصلنا المنطقة، وحوالي العاشرة صباحاً وصلت سيارة نفايات أوقفها السائق داخل المكب منتظراً لبضع دقائق حتى التف حول سيارته عدة أشخاص لمعاينة "البضاعة".
"من اﻷميركان" (حي من أحياء اللاذقية)، يقول أحد الحاضرين بعد أن عرف السائق وسيارته، وبدأت المزايدة بين الحاضرين فيما وقف السائق مدخناً بانتظار النتيجة. يقول أحدهم: "خمسة آلاف، اليوم ما في شي والناس طفرانه". لا يتدخل السائق لحين انفضاض الاجتماع، يقترب الشخص الذي رست عليه المنافسة ويناوله مبلغ خمسة آلاف ليرة سورية، ويصعدان معاً السيارة باتجاه نقطة محددة داخل المكب حيث يتم إفراغها.
في شهري تموز وآب 2019 غطت سحابات من الدخان الملوث أجواء مدينة اللاذقية على امتداد أسبوع كامل. يقول "محمد" (طالب جامعي، 22 عاماً): "وصلت الروائح الكريهة نتيجة الحرائق إلى القرى المجاورة مثل الهنادي وفيديو وحتى مدينة جبلة الواقعة على بعد 20 كم. كما شهدت بعض المناطق حالات اختناق، وفيما ضج الواقع الافتراضي بالشكاوى مما يجري في المكب، فإن السلطات المحلية اكتفت بوضع غرفة مسبقة الصنع مع موظف على مدخل المكب لمراقبة مفتعلي الحرائق فيه وهي تقع على بعد 1.5 كم على اﻷقل عن المكب، دون توقفها، مع اجتماعات متكررة منذ سنوات تعد بالانتقال إلى مكب جديد عام 2020"، مطلع الشهر الحالي تمت إقالة مجلس مدينة اللاذقية دون معرفة خلفية القرار الذي جاء دون سابق إنذار.
بشكل يومي تقريباً، يرى سكان المنطقة حرائقاً مندلعة في موقع المكب، بعضها يستمر أياماً، بامتداد يصل إلى عشرات اﻷمتار. يعترف "أبو خالد" (56 عاماً، من العاملين في المصلحة) أن ما يجري في المكب "بعض منه متعمّد، وسيتكرر ما دام المكب موجوداً"، حيث تطال عملية الحرق النفايات غير المطمورة، وتقدّر بآلاف اﻷطنان، التي تحولت إلى مصدر لانبعاث الغازات السامة (غاز الميثان وأول أوكسيد الكربون)، ويجري إحراقها، كما يقول "أبو خالد" من قبل "البدو" المقيمين في جوار المكب الذين لديهم أعداد من الأغنام ترعى في المكان ملتهمةً البقايا العضوية، وما يجري بعد انتهاء عملية النبش هو حرق النفايات العضوية القديمة بغاية توسيع المساحات الممكنة لإفراغ مزيد من النفايات".
أكثر من نصف إنتاج السماد العضوي من المكب للإتلاف؟
يقول المزارع "نعمان" (اسم مستعار، 52 عاماً) من أهالي البصة إن هجوم الجرذان على المحاصيل الزراعية أصبح أمراً شائعاً، "مهما استخدمنا المبيدات والأفخاخ، فإن العدد الكبير للجرذان والآفات اﻷخرى جعلت حياتنا جحيماً لا يطاق، لا يمكن أن تغفل عن البيت البلاستيكي وتترك بابه مفتوحاً لدقائق وإلا أصبح موسمك في مهب الريح".
إجراءات حكومية .. غير ناجعة بسبب الفساد؟
في اﻷسبوع اﻷول من شهر أيلول الحالي، نقلت حكايات الشارع في اللاذقية أن إقالة مجلس المدينة كان وراءها مكب البصة الذي وصلت روائح فساده وحرائقه إلى العاصمة إثر احتجاجات كان مزمعاً إقامتها في قلب اللاذقية من قبل أهالي المنطقة وآخرين من المهتمين بالبيئة.
يقول "أبو أحمد" (مزارع، تقع أرضه قرب المكب) أن "الأمور لم تعد تتحمل، لذلك كان هناك نية للقيام باعتصام في ساحة المحافظة في المدينة، ولكي لا تتفاقم الأمور، فقد جاء المحافظ ومعه مجلس المدينة وآخرين ووعدوا بحل المشكلة بأقرب وقت".
وعلى إثر ذلك قامت المحافظة مع قيادة الشرطة وقوات حفظ النظام بمداهمة المكان بأكثر من 200 عنصر والقيام بمصادرة المكابس الموجودة، إضافة إلى اﻷغنام واعتقال عدد من الرعاة والعاملين وتحويلهم إلى القضاء بتهمة "التعدي على أملاك الدولة"! وتم تشغيل أربعة بلدوزرات في المكان لطمر النفايات الباقية.
إضافة إلى ذلك تم إنشاء مخفر شرطة على مدخل المكان يقوده ضابط في الشرطة، وإلى اليوم لا يعرف إلى متى ستستمر هذه اﻹجراءات خاصةً في ظل الفساد المتحكم في كل مفاصل الأجهزة اﻷمنية والشرطية.
البديل المنتظر من ربع قرن
ازدادت كمية النفايات الصلبة ماعدا الطبية ونفايات الإنشاءات منها، في اللاذقية من 150 ألف طن/سنوياً عام 2005 (حسب الخطة القطاعية للنفايات الصلبة عام 2005) إلى حوالي 170 ألف طن/سنة عام 2013 بمعدل 468 طن / يوم. وحسب مديرية النظافة في مجلس مدينة اللاذقية (باتصال هاتفي مع أحد موظفيها) فقد كانت كمية النفايات 800 طن/يوم لعام 2015 أي 292 ألف طن/سنة، وحسب مديرية النفايات الصلبة في اللاذقية فقد بلغت 1200 طن/يوم لعام 2017.
يوضح التصاعد في الكميات الحاجة الماسة إلى اﻹسراع في إنهاء المكب البديل الذي كان يفترض أن ينتهي العمل فيه منذ سنوات، وهو مكب "قاسية" (ضمن حدود قرية السامية اﻹدارية) على بعد حوالي 14 كم عن المدينة، وقد أعدت دراسته الفنية منذ عام 2002 وبدء بتنفيذه وإلى اﻵن لم يتم الانتهاء منه.