(تنشر هذه المادة ضمن ملف "أفاق العلمانية في سوريا" بالتعاون مع "صالون سورية" وجدلية)
1 - سؤال الإمكان وسؤال الوجوب
يدل عنوان هذه المقاربة على أن العلمانية ممكنة، في سوريا، كما في غيرها. ومن ثم، إن البحث يتجه نحو الشروط التي تجعلها ممكنة. لكنَّ في العنوان مصادرة على المطلوب: العلمانية ممكنة؛ لذلك، يجب أن نبدأ بالسؤال: هل العلمانية ممكنة في سوريا؟ لا يحتمل هذا السؤال سوى إجابة واحدة من إجابتين: نعم هي ممكنة / لا هي غير ممكنة. هل نقع في القطعية اليقينية، إذا لم نجد غير هذين الجوابين، هل هناك حالة وسط بين الإمكان وعدم الإمكان؟
الموقف الثاني، (العلمانية غير ممكنة في سوريا) يتأسس على اعتبار الخصوصية، (خصوصية مجتمعنا وثقافتنا وقيمنا ... إلخ)، هي المعيار الوحيد للحقيقة والمعنى الوحيد للتاريخ. الخصوصية، هنا، تنفي العمومية ذاتياً، فتنفي ذاتها وذاتيتها موضوعياً، أي تنفي إنسانيتها، ومن ثم حريتها. ولهذا تظل إما منعزلة ومنكفئة على ذاتها، وإما تابعة ومستباحة، لأنها "هوية بلا ذات"، بتعبير فتحي المسكيني، أو "نحن" بلا أفراد مختلفات ومختلفين، حرائر وأحرار.
هذا على صعيد الاستدلال العقلي، أما على الصعيد العملي أو الأخلاقي، الواقعي والتاريخي، فيتأسس الموقف الإمكاني على أن إمكان تحقق العلمانية مرهون بنمو المجتمع المدني ونشوء دولة سياسية (وطنية)، أو دولة حديثة. أي إن العلمانية تتموضع في سياق تطور المجتمع ونموه وتقدمه، وفي سياق "رفع السحر عن العالم"، وليست مرهونة بإرادة ذاتية لحزب أو طبقة. ويمكن أن نسميها "علمانية موضوعية"، تتحقق من دون قصد، وفقاً لحاجات النمو والتقدم، ومن دون معارك كلامية وضجيج أيديولوجي، وهذا ما كانت عليه الحال في سوريا، قبل اغتيال جنين المجتمع المدني والدولة الوطنية.
2 - العلمانية والمسألة الوطنية
في الظروف السورية الراهنة، يبدو لنا أن إمكان العلمانية مشروط بالتحولات التي جرت، والتي تجري في بنى "المجتمع الأهلي"، وتتجه نحو مجتمع مدني حديث، نعني التحولات التي جرت وتجري في بنية العائلة الممتدة والعشيرة والجماعة الإثنية والطائفة الدينية، وتشكُّل الأسر النووية، وتراخي روابط القرابة، (قبل الحرب)، وتغير أساليب العمل والإنتاج وأساليب الاستهلاك وأنماط السلوك والقيم الحاكمة للعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات ولا سيما بين الذكور والإناث... وكلها تحولات تمهد لعملية الانتقال من أحكام الأعراف والعادات والتقاليد والشرائع الدينية إلى حكم القانون. هذا الانتقال العسير والبطيء والقابل للانعكاس هو الشرط الضروري الحاسم لتعلمن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا لعلمنتها، على اعتبار حكم القانون، الذي يسري على جميع المواطنين والمواطنات، بلا أي تفرقة أو تمييز، هو جوهر الدولة الحديثة وأساس المواطنة الحديثة. (انزعوا القانون الوضعي من الدولة ومؤسساتها لا يتبقى منها شيء).
3 - علمانية الأقليات وديمقراطية الأكثرية
ترتبط هذه المقولة المتهافتة منطقياً وواقعياً برؤية خاصة (أجل خاصة) للديمقراطية، تحصرها، أي تحصر الديمقراطية في صندوق الاقتراع، الذي يفضي بالضرورة إلى حكم "الأكثرية" (= حكم الشعب). وفق هذه الرؤية، يتطابق مفهوم الأكثرية ومفهوم الشعب: الأكثرية هي الشعب، والشعب هو الأكثرية، و"الأقليات كسور الأمة" بتعبير ياسين الحافظ، وغيره (والله محيي الجيش الحر).
مقولة علمانية الأقليات أسست لمقولة "تحالف الأقليات". والأرجح أن سلطة "تحالف الأقليات" صارت ممكنة في سوريا ما بعد الحرب، إن لم نقل مرجحة. ولكن، لنفكر في المعطيات الإحصائية: تبلغ نسبة العلويين من سكان سوريا، حسب بعض التقديرات، نحو 12% ونسبة المسيحيين 8% والدروز 3% والإسماعيليين 1%، إضافة إلى نسبة قليلة من الشيعة، ومن ثم إن تحالف نحو ربع عدد السكان، أكثر قليلاً أو أقل قليلاً، ضد الأكثرية؛ لا يمكن أن يقوم، ولا يمكن أن يصمد في حال قيامه، إلا بدعم قوى خارجية. لذلك، لا نستبعد أن تكون المقولة إياها من منشأ إيراني، لأن لإيران مصلحة جذرية في تحالف من هذا النوع والروس لا يعارضونه. وهذا يعني استئناف الحرب بوسائل أخرى، ليست سياسية بالتأكيد.
4 - علاقة الدين بالدولة
المسألة في سورية لا تنحصر في علاقة الدين بالدولة، لا سيما في الأوضاع الحاضرة، التي تبددت فيها الدولة كلياً، إذ الهياكل القائمة، التي تسمى دولة، ليس معترفاً بها من قبل ثلاثة أرباع السوريات والسوريين، ومن يعترفون بها دولة هم مجرد شبيحة، مهما علا شأن بعضهم. لأن اعتبار هذه الهياكل دولةً يقتضي إلغاء العلوم السياسية، وتخدير العقل والأخلاق. ليس هنالك صفاقة عربية ودولية أكثر من كذبة "الحفاظ على مؤسسات الدولة" وعلى "وحدة سوريا أرضاً وشعباً". المسألة في سوريا إذن هي مسألة الافتراضات السياسية للدولة، التي سيحدد الدستور المرتقب ملامحها الأساسية، في مقابل افتراضات غير سياسية، أو شروط غير سياسية، كالعائلة والعشيرة والطائفة والقوم أو الجماعة الإثنية والطبقة الاجتماعية أيضاً. في ظل افتراضات أو شروط غير سياسية للدولة السياسية، سيان أن تكون الدولة "جمهورية عربية سورية" أو "جمهورية إسلامية سورية" أو "جمهورية عربية إسلامية سورية عظمى".
في بلاد يسيطر عليها عسكر وإسلامويون، لا سبيل إلى علمانية أو ديمقراطية ولا سبيل إلى حياة إنسانية.
التحدي التاريخي في سوريا هو الإلغاء السياسي للعروبة والإسلام، الإلغاء السياسي للأقوامية (الإثنية) والدين، وقد تبين أن خطر الإحيائية القومية (البعثية) ليس أقل من خطر الإحيائية الإسلامية. وهذا الإلغاء أو النفي الإيجابي، أمر ليس في المستطاع تحقيقه في المدى المنظور، إذ ليس في سوريا بعد من يَبرز لهذا التحدي (من المبارزة)، ويحظى بهذا الشرف. أجل هذه مبارزة مع التاريخ، أي مواجهة مع الذات، تحت مقولة: نكون أو لا نكون، والشرف قيمة من قيم المبارزة. العلمانية في سوريا ليست في أمر اليوم ولا في أمر غدٍ قريب، وكذلك الديمقراطية بالطبع. قد يكتشف مناهضو العلمانية من السوريين، إذا ثابوا من طائفيتهم إلى وطنيتهم، أن الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى الديمقراطية، وأن الثورة الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى ثورة ديمقراطية. تجربة الثورة السلمية ومآلاتها شاهد لا يدحض.
الذين يمارسون نقد الثورة ونقد الذات لا يلتفتون إلى هذه المسألة، بحكم مناهضتهم الضمنية أو الصريحة للعلمانية. وما زال كاتب هذه السطور يعتقد أن مناهضة العلمانية هي مناهضة المواطنة المتساوية ومناهضة الوطنية السورية، التي لا تكون وطنية إن لم تكن علمانية.
ما كان للدولة الحديثة أن تقوم في الغرب، في نظر كارل ماركس، وما كان للمواطنة المتساوية أن تتجذر فيها، قبل الإلغاء السياسي للملكية الخاصة، والإلغاء السياسي للدين، ويجب أن نضيف اليوم الإلغاء السياسي للإثنية (القومية الشوفينية، العرقية - اللغوية، والعنصرية)، لأن الشعبوية التي تتنامى في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تعبر عن محاولة التراجع عن الديمقراطية إلى ماضي الدولة الديمقراطية القريب، أي إلى ما كانته "الدولة القومية" وسياساتها الحمائية ونزعاتها الاستعمارية وميولها العنصرية.
حين قلنا إن العلمانية ممكنة، وليست واجبة، وليست كذا وكذا، كنا نريد أن نقول إنها ليست مطلباً ثقافياً أو سياسياً، وليست بالأحرى شعاراً، وليست أيديولوجية لفئة اجتماعية بعينها… بل هي بالضبط سيرورة نمو وتقدم، بل سيرورات نمو متآنية أو متزامنة، في مجالات مختلفة، قد تتجه في لحظة معينة نحو مجتمع مدني ودولة سياسية حديثة. ولذلك نولي تنظيمات المجتمع المدني، ولا سيما النقابات والأحزاب السياسية أهمية تستحقها، ونعتبرها، في حال استقلالها عن السلطة التنفيذية وأدواتها، الأطر التي تجري فيها التربية على المواطنة المتساوية، لأنها، في واقعها الفعلي، الأطر التي يمارس فيها الأفراد حياتهم العامة، مقابل حيواتهم الخاصة. والحياة العامة مهما يكن مدى عموميتها (في قرية أو في حي أو في مدينة... أو في حزب أو نقابة أو ناد أو جمعية) هي الحياة النوعية، أي الحياة الإنسانية، بتعبير كارل ماركس. تنظيمات المجتمع المدني هي النوى (جمع نواة) الأساسية للمدنية، مقابل المؤسسات الطبيعية وشبه الطبيعية، كالأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة... إلخ. الرهان في سوريا اليوم معقود على هذه التنظيمات، بما لها وما عليها. وقد دعونا مراراً إلى تشكيل فيدرالية لمنظمات المجتمع المدني في بلدان اللجوء الأوروبية خاصة، لعلها تسهم في ما نسميه "وحدة الاتجاه" نحو مواطنة متساوية، لاعتقادنا أن المواطنة هي التي تنتج الوطن، وتنتج الوطنية.
5 - وحدة العقل والإيمان
سؤال الإمكان، الذي بدأنا به هذه المقاربة يطرح سؤالاً آخر: هل ثمة مبدأ يعبر عن المغزى الأعمق للعلمانية باعتبارها سيرورة نمو وتقدم تاريخية، و"موقف منفتح للروح إزاء قضايا المعرفة وقضايا الواقع"، ويقتنع به جميع العقلاء والعاقلات؟ على سبيل الافتراض و"التجريب" نقترح وحدة العقل والإيمان، مبدأً جامعاً، لا يستفز أحداً، ولا يستبعد أحداً، ولا "يهدد ثقافتنا وهويتنا" المزعومتين، وجنبنا ويلات "الغزو الثقافي".
من البديهيات، التي لا جدال، فيها أن غير العاقل لا يؤمن ولا يكفر، لا يوحِّد ولا يُشرك...إلخ؛ الإيمان مشروط بالعقل؛ بل هو مشروط بالصحة العقلية، أو بسلامة العقل، لا بل "العقل السليم". غير العاقل ليس مسؤولاً، بالتعبير القانوني، وغير مكلف بالتعبير الفقهي، وليس مواطناً بالتعبير السياسي، وإن كان موضع رعاية واهتمام، وغير العاقلة كذلك بالطبع.