العدوان التركي ونهاية العقد الإلزامي السوري

سوريا التي عرفناها تتصدع


الثقة العمياء لدى جمهور عريض من السوريين بالجيش التركي أو الروسي أو الإيراني أو الأمريكي، والترحيب بالغزو الأجنبي، وانعدام هذه الثقة مع الآخر السوري، علوي أو سني أو شيعي أو كردي، دلائل أخرى على انفراط العقد الإلزامي السوري بلا عودة. ألا يشبه هؤلاء، أولئك من استقبل الغزاة الفرنسيين على أبواب دمشق في العام 1920؟

13 تشرين الأول 2019

(رسم لمجموعة كرتونة من دير الزور، وهو ينشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لإصحابها)
حسام الحسون

(حسام الحسون: باحث في التاريخ الحديث والمعاصر. طالب دكتوراه في دارسات العالم الاسلامي في جامعة الرور في بوخوم-ألمانيا. له كتاب بعنوان الوحدة السورية-المصرية وأسباب الانفصال 1958-1961: قراءة جديدة على ضوء الوثائق الحديثة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2011)

قبل مئة عام تقريباً، اجتمع الحلفاء في سان ريمو الإيطالية، فقرروا مصير الولايات العثمانية العربية بدون أخذ رأي سكانها، لا عرباً ولا أكراداً ولا هم يحزنون. تبادلوا خرائط التقسيمات الجديدة. وقعّوا عليها. شربوا نخب الصفقة، ثم عاد كل منهم إلى بلده منتشياً، مبشراً حكومته بالحصول على التفاهمات اللازمة لبدء الغزو. يستشهد يوسف العظمة ورفاقه في ميسلون، وتعود زوجته التركية إلى إسطنبول مصطحبةً ابنتهما ليلى. في دمشق تخرج كوكبة من المتملقين للترحيب بالغازي الجديد، الذي "أصبح عمي بعد أن تزوج/ اغتصبها أمي"!، ليعرضوا خدماتهم عليه، وليستوضحوا آفاق البزنس معه.

يقرر الفرنسيون تفتيت حصتهم: هذه دولة للمسيحيين، وتلك للعلويين، وثالثة للدروز، ورابعة وخامسة في كل من حلب ودمشق للمحمديين. يتغير شكل هذه الدويلات مراراً، فتنمو دويلة المسيحيين وتصبح دولة لبنان، في حين تتحد دويلتي المحمديين، وتنضم إليهما دويلة الدروز، ثم دويلة العلويين. يكمل الأتراك في عام 1939 قضم لواء اسكندرون.

وفي عام 1946 يُعلن جلاء الفرنسي، فتولد سوريا الحالية. يحتفل معظم السوريين غير راضين عن الشكل السياسي لدولتهم؛ ويولد العقد الإلزامي السوري: هذا ما بقي، هذا قدرنا، علينا العيش فيه شركاء. ومع تسليم الجولان 1967، يزداد تشوه ما بقي، وتحريف هذا العقد، فنحن الآن عرب، في جمهورية عربية سورية، قيادتنا تتولى "محاربة الإمبريالية والصهيونية والرجعية وأدواتهم"، ما يعطي أولوية لتسخير مقدرات البلد للمؤسسات العسكرية والأمنية، وللفساد.

واليوم، وبعد مرور ما يقارب المئة عام على مؤتمر سان ريمو، ننظر إلى سوريا، فنرى طائرات إسرائيلية تسرح وتمرح، وقوات أجنبية تصول وتجول، تتحالف وتتعادى، تركية وروسية وإيرانية وأمريكية ومليشيات عراقية ولبنانية وتنظيم القاعدة وإسلامويون وسواهم من القوى الظلامية.

(أي صيغة مستقبلية تجمع بين السوريين مرة أخرى لن تكون إلا بالقوة العسكرية حكماً، وباتفاق دولي، كما كان عليه الحال لحظة رسم حدود هذه الدولة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى./ كاريكاتير منشور في صحيفة العربي الجديد وهو ينشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للعربي الجديد)

اجتماعات إقليمية ودولية تحدد مستقبل سوريا، لا مقعد للسوريين فيها، لا نظام ولا معارضة ولا رماديون. الطامة الكبرى إعلان بالنصر في دمشق، وأوامر بإظهار الفرح، تقابلها أوامر بإظهار الفرح أو الشماتة حين يأتي محتل جديد.

سوريا التي عرفناها تتصدع، ومن يقول عكس ذلك فهو على الأغلب ينتمي لجمهور يزداد حجماً، جله من المثقفين و/أو المتعلمين المنفيين البعيدين عن الأرض وعن واقع ما يحدث عليها، المتخاصمين في منصات التواصل الاجتماعي. وإن حاول أحدنا أن يصغي، فيسمع صوت الشروخ العميقة التي تتوسع بين مكونات المجتمع السوري، شبيهة بأصوات تصدع سطح بحيرة متجمدة أوائل الربيع.

فالتدخل السلبي لدول الخليج في دعم الإسلاميين في المعارضة السورية وقدوم المحتل الإيراني وميليشياته كان يعني تحويل الثورة السورية من مواجهة بين شعب ونظام إلى صدع عملاق بين السنة والعلويين، وقدوم المحتل الروسي، أضاف صدع بين السنة والعلويين والشيعة، والأمريكي بين العرب والسريان والأكراد، والتركي بين الأكراد والسريان والتركمان والعرب. في حين يكمل العدوان الإسرائيلي رسم ما ينقص من مشهد يصعب تصوره، فكيف تصديقه؟ مشهد يصبح فيه من المتعذر على أي فريق سوري أن يخرج ببيان يؤيده ربع الجمهور الذي يحسب نفسه عليه.

اجتماعات إقليمية ودولية تحدد مستقبل سوريا، لا مقعد للسوريين فيها، لا نظام ولا معارضة ولا رماديون

تأييد العدوان التركي خفيةً أو علناً، أم إدانته وتجريمه؛ وعبثية نقاشات سؤال من هي الأكثرية في الجزيرة السورية، الأكراد أو العرب أم غيرهم؛ والأحقاد الكامنة التي تتفجر مع كل تدنيس جديد لجنود دولة غريبة الأرض السورية، دلائل إضافية وقوية على انفراط العقد الإلزامي السوري الذي فرض من الخارج على سكان هذه المنطقة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

الثقة العمياء لدى جمهور عريض من السوريين بالجيش التركي أو الروسي أو الإيراني أو الأمريكي، والترحيب بالغزو الأجنبي، وانعدام هذه الثقة مع الآخر السوري، علوي أو سني أو شيعي أو كردي، دلائل أخرى على انفراط العقد الإلزامي السوري بلا عودة. ألا يشبه هؤلاء، أولئك من استقبل الغزاة الفرنسيين على أبواب دمشق في العام 1920؟


ضمن هذا المشهد يصبح سيناريو التقسيم على النمط اليوغسلافي ضرباً من الرفاهية أيضاً، إذ يتولى كل قسم من الدول الجديدة هناك حكم نفسه، بدون أن يكون محتلاً من قبل دولة أجنبية. وأي صيغة مستقبلية تجمع بين السوريين مرة أخرى لن تكون إلا بالقوة العسكرية حكماً، وباتفاق دولي، كما كان عليه الحال لحظة رسم حدود هذه الدولة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

وضمن هذا المشهد العبثي يلجأ بعضهم إلى استحضار سلبي للتاريخ، فيجهد نفسه لانتقاء حوادث أو خرائط لدعم حجج إقصائية بهدف إثبات ملكية مكون ثقافي سوري لأرض سوريا برمتها، كلها دفعة واحدة، ومع جوارها أحياناً. هذا الانتقاء الإقصائي ليس إلا عبث حين لا يمتلك من يؤمن به قوة فرضه على الآخر؛ وهو إجرام حين يمتلك هذه القوة. ومن التاريخ نستحضر، عن حالة العبث، كمثال، الحالمين باستعادة الأندلس أو القسطنطينية، وعن الإجرام، ما حققته الصهيونية العالمية في فلسطين.

ما يبدأ في الجزيرة السورية لصالح أردوغان سينتهي في إدلب لصالح بوتين/الأسد. هذا درس التاريخ الذي نتعامى عنه، حتى ولو كان قريبا، وقريبا جداً. فقد تمت التضحية بحلب الشرقية مقابل شمال حلب، والغوطة مقابل عفرين.

وبالعودة إلى التاريخ (رغم مرارة حقيقة انتفاء نية الانتفاع منه)، وقبل ما يقارب المئة عام، كتب توماس إدوارد لورنس، الجاسوس البريطاني الشهير بلورنس العرب، في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" (المقطع 59) يصف السوريين، فيقول: "والسكان، حتى أفضل المتعلمين منهم، أظهروا تعامياً غريباً لافتاً للنظر بعدم أهمية بلدهم، وبسوء فهم أنانية القوى العظمى التي كان نهجها الطبيعي نابع من اعتبار مصالحها قبل مصالح تلك الأجناس المجردة من السلاح. فبعض السوريون دعوا لإنشاء مملكة عربية، وهؤلاء في غالبيتهم من المسلمين، أما المسيحيون الكاثوليك فقد واجهوهم بالمطالبة بالحماية الأوروبية؛ وكلا الاقتراحان بعيدان عن قلوب الجمعيات الوطنية، التي دعت للحكم الذاتي لسوريا وتنادي به؛ تلك الجمعيات تعرف معنى الحكم الذاتي إلا أنها لا تفهم ما تعنيه كلمة سوريا، إذ أنه في القاموس العربي لا يوجد مثل هذا التعبير. والتفسخ السياسي حاصل بين مدينة وأخرى، وقرية وأخرى، وعائلة وأخرى، ومبدأ وآخر، مع وجود عنصر الغيرة والتنافر المشجع والمدعوم من قبل الاتراك".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد