بحسب منظمات حقوق الإنسان، فإن أكثر من عشرة آلاف امرأة اعتُقلت منذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011، إلا أن إطلاق سراحهن لم يضع حداً لمعاناتهن. لا تزال الحرب تجعل الحياة صعبة على جميع سكان البلاد، إلا أن المعتقلات أكثر انكشافاً من الجميع. الكثير من هؤلاء النساء يعانين من رضوض نفسية، أو من فقدان موارد الرزق، أو خسارة أقارب لهن، وفوق كل ذلك يجدن أنفسهن منبوذات من المجتمع لدى إطلاق سراحهن.
عندما يخرج المعتقلون الرجال يحتفى بهم كأبطال، لكن النساء في المقابل يجدن مجتمعاً يزدريهنّ ويشكّك بأخلاقهنّ.
لقد توقفت الأمم المتحدة عن إحصاء ضحايا الحرب السورية منذ بداية 2014، لكن السوريين ما يزالون يموتون. وقد دأب النشطاء منذ ذلك الحين، في حملة إعلامية تتلوها حملة أخرى، على القول إن السوريين ما زالوا يُقتلون، وأنهم ليسوا مجرد أرقام، بل أناس تخسر أعمارها وتترك أحباباً لها وراءها.
حياتهن انتهت
أصبحت سوريا تحتل مساحات أصغر في عناوين الصحف، لكن حين يُتطرق إلى أخبارها يجري التركيز أولاً على الدمار والخسائر، وثانياً على الجرحى واليتامى واللاجئين الذين تقطعت بهم السبل في المخيمات داخل وخارج البلاد، أو أولئك الذين يغامرون بحياتهم لعبور البحر والوصول إلى برّ اللجوء في أوروبا. تتحدث الصحف أيضاً عن عشرات آلاف المعتقلين، المعزولين عن العالم في زنازين النظام المعروفة بكونها "آلات لصناعة القتل"، وإن كان حديث الصحافة عنهم أقل هذه الأيام. أما من نجوا من الاعتقال وتمكنوا من رؤية الشمس مجدداً فنادراً ما يتاح لهم اتخاذ قرارات حياتية. ببساطة فإن ما تبقى لهم من وقت أو موارد لا يكفي.
ومع ذلك، بالنسبة لكثيرين لا تنتهي القصة هناك، ولا يضع الخروج من المعتقل حداً للمعاناة. فالتبعات الطويلة الأجل لمثل هذه التجربة الرهيبة غالباً ما تستغرق سنوات من العلاج قبل تحقق الشفاء. كما أن العالم الذي يعود إليه المعتقل يكون شديد الاختلاف غالباً عما كان عليه لحظة اعتقالهم. كثيرون خرجوا ليجدوا أنفسهم بلا وظائف، أو ليجدوا منازلهم مدمرة أو عوائلهم نازحة، أو أزواجهن قد تخلوا عنهم أو عنهن. وفي بعض الأحيان يعانون من عدد من هذه الخسائر معاً. باختصار، حياتهن/م انتهت.
نحن لم نختر الاعتقال
الطبيعة المحافظة للمجتمع السوري تزيد بشكل عام من انكشاف المعتقلات النساء، وتزيد من الثمن الذي يدفعنه جراء الاعتقال. ففي مجتمع محافظ يعتبر الحشمة كأساً مقدسة، قد يصبح الوقوع ضحية لعدوان جنسي تهمة بحد ذاته. وبحسب الأمم المتحدة فإن نساء كثيرات اعتُقلن خلال الحرب في سوريا، معظمهن من قبل النظام، وبدرجة أقل من قبل فصائل المعارضة المسلحة، تعرضن للعنف الجنسي. ومما يزيد جراحهنّ مهانةً أن يضطررن للدفاع عن أنفسهن وتوضيح الواضح: "نحن لم نختر الاعتقال"! تعاني هؤلاء النساء من وصمة اجتماعية شديدة الوطأة، وقد أبلغت منظمة العفو الدولية عن عدة حالات تنكرت فيها عائلات من بناتها المفرج عنهن. وفي حالات قليلة وردت تقارير عن نساء قتلهن أقاربهن لغسل "العار".
لا تزال الحرب مستعرة في شمال سوريا. إدلب هي آخر معاقل المعارضة، ومنذ أبريل/ نيسان تشهد المحافظة قصفاً جوياً متواصلاً من قبل طيران النظام السوري وروسيا، اللذين تمكنا من استعادة عدة بلدات جنوب إدلب. ولا يبدو أن ما يجري غيّر المعادلة الاجتماعية القائمة، حيث ما تزال الناجيات من الاعتقال يعانين من الوصمة الاجتماعية، ناهيك عن معاناتهن العامة مع الجميع جراء الحرب الجارية في تلك المنطقة. ما تزال معاناة هؤلاء النساء طي النسيان إلى حد كبير.
"ناجيات أم ليس بعد"
إلا أن مجموعة من الصحفيات اللواتي مررن هن أيضاً بتجربة الاعتقال نهضن مؤخراً لمواجهة هذا الواقع. يركز عملهن على تحدي وصمة العار تلك، وعلى التوعية وبناء التضامن سواء بين الناجيات أنفسهن أو داخل المجتمع بوجه عام. لعل أبرز ما قمن به هو الحملة التي أطلقنها الربيع الماضي، والتي تألفت من عمل إعلامي على الإنترنت وورش عمل أقيمت في إدلب والعديد من المدن الأخرى شمال سوريا. كانت الحملة بعنوان "ناجيات أم ليس بعد"، وقد استمرت حتى مايو/ أيار، داعيةً السكان والوجهاء للاستماع إلى قصص الناجيات والحديث دفاعاً عنهن. تهدف الحملة وعمل الصحفيات بشكل عام إلى رفع مستوى الوعي العام في المجتمعات المحلية بالظلم القاسي الذي تتعرض له النساء، وإلى تغيير عقلية البعض تجاه المعتقلات. وقد واصلت المجموعة نشر المزيد من القصص عن الناجيات خلال الأشهر القليلة الماضية.
تم تنظيم هذا العمل عبر التعاون مع مدرّبات إعلاميات يقمن خارج سوريا ويعملن مع نساء الداخل لتدريبهن على العمل الصحفي. بعض هؤلاء المدربات معتقلات سابقات. وبعد التدريب تجري الصحفيات المتدربات مقابلات مع عدد من النساء اللائي مررن بتجربة اعتقال مؤلمة وما يزلن يدفعن ثمناً باهظاً.
تحدثت "حكاية ما انحكت" مع ريتا خليل (اسم مستعار)، وهي معتقلة سابقة وإحدى الصحافيات المشاركات في التدريب. وقد أخبرتنا ريتا عن بداية الحملة كفكرة: "أردنا أن نروي قصصاً تهمنا كنساء، قصصاً يمكن أن نصل إليها نحن كنساء دوناً عن الرجال. بعض المشاركات ذكرت أنهن يعرفن قصصاً عن نساء عانين من رد فعل اجتماعي عنيف بعد خروجهن، ولم نلبث أن عثرنا على مجموعة من القصص اللافتة… هذا الموضوع يهمنا بشدة ولا يكاد أحد يتحدث عنه".
حكاية ريتا
ريتا كانت طالبة جامعية عندما تم إلقاء القبض عليها. وقد ذكرت أن دعم عائلتها لها بعد الإفراج عنها كان ضرورياً لتعافيها. وعلى الرغم من ظروف الحرب والتهجير القاسية، إلا أنها تمكنت أخيراً من التسجيل في جامعة إدلب الحرة، وبدأت العمل وكسب الرزق. وبحسب ريتا فإن هذين العاملين كانا حاسمين لتشعر أن حياتها عادت إلى مسارها الصحيح وأنها لم تخسر كل شيء. غير أنها تدري أن القصة لا تنتهي بهذه السلاسة بالنسبة لأخريات.
قررت ريتا وزميلاتها، بمساعدة الموقع الإخباري "عيني عينك" الذي جمعهن معاً، إطلاق حملة بالتعاون مع عدد من وسائل الإعلام السورية الأخرى، وذلك للتصدي لموضوع وصمة العار والوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. وقد حققت الحملة نجاحاً لافتاً واكتسبت زخماً على وسائل التواصل الاجتماعي.
في مقطع فيديو نسمع شهادة ريهام من حماة، وهي امرأة اعتُقلت لمدة شهر وهي حامل. تقول: "تمنيت لو متّ في السجن ولم يُفرج عني. طبعاً لأني كنت أخشى ردة فعل الناس على سجني، فقد كانت أعينهم مليئة بالاتهامات بعد إطلاق سراحي، خاصةً زوجي".
بدلاً من الاهتمام بصحتها ومساعدتها على التعافي، كان الجميع في مجتمعها مهووسين بسؤال واحد: هل تعرضت للتحرش أو للاغتصاب في السجن؟ شعرت ريهام بالغربة لدرجة الانكفاء على نفسها في منزلها لخمسة أشهر. كان زوجها الوحيد الذي دعمها وشجعها على تجاهل الهمز واللمز، وساعدها على التطوع مع قوات الدفاع المدني، والآن تخرج ريهام للحديث دفاعاً عن أخريات يتعرضن لنفس الضغوط الاجتماعية.
يبدو أن النقاش يتحول بالفعل، وقصص الناجيات ما تزال تصدر حتى بعد انتهاء الحملة. لكن في أغسطس/ آب، وبعد أشهر من القصف الجوي، بدأت قوات النظام تتقدم على الأرض وتسيطر على عدة بلدات في ريف إدلب الجنوبي. مرة أخرى، تراجعت أصوات النساء وتراجعت معها أهمية قضيتهن. أصبحت عناوين الأخبار المحلية والدولية تدور مرة أخرى حول القنابل والإصابات وموجات النزوح الجديدة.
حكاية زهرة
تحدثت "حكاية ما انحكت" مع زهرة، وهي أم لثمانية أطفال من حمص، ومعتقلة سابقة لم تتوقف معاناتها مع إطلاق سراحها من حمص، وقد صدرت قصتها خلال الحملة في الربيع الماضي.
لا يزال ابنها الأكبر مراهقاً حتى اليوم. كانت زهرة تعاني من ضعف بسيط في عينها اليسرى قبل اندلاع الثورة في عام 2011، لكن الأمر لم يكن مقلقاً للغاية. عام 2012، اعتقلت قوات النظام زوجها من منزلها في مدينة حمص، وقد توفي لاحقاً في المعتقل. ولحماية أطفالها من حياة الخوف الدائم، انتقلت زهرة إلى درعا التي كانت خارجة عن سيطرة النظام في ذلك الوقت. وهناك كانت تكسب لقمة العيش من خلال توزيع وتقديم المساعدات. ونظراً لما انطوى عليه عملها من تنقل، فقد كانت تساعد نساء أخريات وتسمح لهن ولأطفالهن بمرافقتها على الطريق في حال احتجن لذلك. وكان السفر محفوفاً بالمخاطر، لكنها طورت معرفة جيدة بالطرق وبشبكة من السائقين الثقات.
بعد ثلاث سنوات، تم اعتقالها عند حاجز للنظام ونقلها إلى مركز اعتقال أمني، حيث عانت من التعذيب والضرب والتهديد والتحرش. ونتيجة لذلك، ساءت حالة عينيها، ولم تحصل على علاج طبي مناسب. بعد بضعة أشهر من اعتقالها، تم نقلها إلى سجن عدرا المركزي قرب دمشق، حيث كانت ظروف الاعتقال أفضل. هناك تمكنت من التواصل مع أسرتها وتمكنت من شراء الدواء، الذي بالكاد استطاعت دفع ثمنه. لم يُسمح لها برؤية الطبيب المختص الذي كانت بحاجة إليه في الوقت المناسب، مما أفقدها البصر تماماً في عينها اليسرى وجزئياً في اليمنى.
في النهاية تم نقلها إلى المحكمة، وبحسب ما قالته حول التهم والمحاكمة: "فشلوا في إثبات أي شيء ضدي، ضد امرأة عمياء، وكانت لديهم التقارير الطبية التي تثبت ذلك، لذلك حكم علي القاضي بتهمة ركوب عربة دوشكا يقودها أحد الدواعش".