(دمشق)، "أشد ما يخيفني أن نموت ونترك هذا الطفل وحده في هذا العالم، لا يوجد مجتمع يحتضنه، ولا بيئة آمنة تشرف على تحسنه".
"عندما زرت الطبيب لأول مرة، دفعت على المعاينة مبلغ عشرة آلاف ليرة سورية، (20 دولار تقريباً)، وكانت قيمة الوصفة الطبية ما يقارب الستين ألف ليرة سورية (حوالي المائة دولار). قمت بالاستدانة من جيراني لشراء الدواء، الذي لم يحسن من حالة ابني في شيء".
"لست أعرف ما هو الأصعب، هذا الانتظار القاتل في ظروف بالغة السوء أم الحصول على موعد أصلاً".
ميكرو باص، يوم كامل، ثلث ساعة "معاينة"
ظروف استثنائية: أسباب ومعاناة
تقول لحكاية ما انحكت "كان هناك عسر في الولادة، وكان في غرفة المخاض عدة نساء ولّادات، لم يلق أحد بالاً إلى عويلي وألمي، وعندما ولد ابني لم يصرخ مثل باقي الأولاد في الغرفة، عندها عرفت أن هناك مشكلة. كنا فاقدين لكل شيء، ولم أكن أستطيع أن ألد في مشفى خاص، دائماً أفكر في أن ابني كان ليولد سليما في ظرف آخر. ولكنه نصيبنا". تتنهد وتمسح على شعر ابنها الذي يحدق في الفراغ.
ويتابع قائلا: "المشكلة في هذا النوع من الإصابات، أنه بحاجة إلى المتابعة في العلاج الفيزيائي والأدوية والغذاء الجيد والتنمية الفكرية، وجميع هذه الخدمات غير متوفرة في مناطقنا، لذلك فحالة المريض لا تتقدم بل تظل على حالها أو تتراجع".
تدخل سيدة أخرى يعاني ابنها البالغ من العمر 10 سنوات من التوحد الشديد، والذي تسبب الازدحام في العيادة بإثارة نوبة من الغضب والبكاء لديه، تعطيه يدها كي يعض عليها علّه ينفّس من توتره قليلاً، وتقول لحكاية ما انحكت: "لست أعرف ما هو الأصعب، هذا الانتظار القاتل في ظروف بالغة السوء أم الحصول على موعد أصلاً. حاولت أن أذهب إلى طبيب أخر مشهور في دمشق، لكن الحصول على موعد كان مستحيلاً. هناك رقم هاتف وحيد يتم تفعيله لنصف ساعة من أول كل شهر، حاولت مراراً الاتصال لكن ضغط المتصلين جعل الأمر مستحيلاً".
رأي الأطباء: زيادة ملحوطة
"في حقيقة الأمر يوجد طبيب واحد فقط بهذا الاختصاص في دمشق وربما في سوريا، وهناك بعض الأطباء الاختصاصيون بالأمراض العصبية الذين يستقبلون حالات الأطفال المرضى، ولكنهم لا يكفون أبداً. عداك عن أن الأمراض العصبية عند الأطفال كالشلل الدماغي والقيلة السحائية وغيرها من الأمراض التي تسبب تأخراً في التطور الروحي والحركي عند الاطفال صعبة التشخيص للغاية، وكثيراً ما يتأخر الأهل في الوصول إلى الطبيب المناسب. وهذا النوع من الإصابات بحاجة إلى تدخل مبكر لتلافي تفاقم العواقب من تشنجات عضلية وتشوهات وظيفية في الأطراف".
أسباب المرض
رحلة العلاج الصعبة ومخاوف الأهل..
يقول والد صلاح، وهو موظف حكومي، لحكاية ما انحكت: "لا توجد هناك بيئة داعمة حقيقية للعائلات التي يعاني أحد أطفالها من الشلل الدماغي أو التوحد أو أي نوع من الاحتياجات الخاصة. يقوم هناك المعالجون بما هو مطلوب منهم، والمعدات جيدة، لكن الحاجة هائلة، وعدد المعالجين قليل، وبعضهم ليس ماهراً بما يكفي أو ليست لديه الخبرة. ولا يتواصلون مع الأهل أو الطفل كما يجب، وبعضهم يتعاملون مع الأهل، خاصة من قدم من بيئات ريفية ومدن وقرى نائية بفوقية ويمنون عليهم بالجلسات لأنها مجانية".
يستعد والدا صلاح لإدراج ابنهم ذي الأربع سنوات في مركز تنمية فكرية لعلاج التأخر في الوعي والتواصل لديه. بعد المفاضلة بين عدة مراكز استقر الأهل على تسجيل ابنهم في مركز بقسط شهري يبلغ 30 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل خمسين دولار تقريباً. يبلغ راتب والد صلاح حوالي 80 ألف ليرة سورية، مائة وأربعين دولار تقريبا، يعمل بعض الظهر عدة ساعات على سيارة أجرة تؤمن له مبلغ 60 ألف ليرة أخرى، أما والدة صلاح، فهي متفرغة للعناية بابنهما الوحيد.
بعض الأمل
في المركز أيضاً، مراهق في السادسة عشرة من عمره، يعاني من تأخر ملحوظ في الوعي، ويمشي بصعوبة ويكاد يفقد توازنه عند كل خطوة، لكنه يمشي. يأتي إلى المركز أسبوعياً من أجل العلاج بالرياضة لتحسين توازنه وحركته. والد الطفل المرافق في الأربعين من عمره، ينظر إلى ابنه ببعض الارتياح، وتبعث هذه الحالة بعض الأمل في نفوس الأهالي المتواجدين في نفس الوقت، ربما يكون هناك هامش للتحسن والتكيف ولو بعد وقت طويل ورحلة مجهدة من العلاج والإحباط.
نسبة لا يستهان بها تلك التي تمثل الأطفال المصابين بإعاقات عصبية، خاصة في السنوات الأخيرة، تحتاج إلى إمكانيات كبيرة ووعي مجتمعي وخلق بيئة داعمة تكاد تكون معدومة للأطفال وأهلهم في سوريا.