اعتدت على الذهاب إلى سوريا، ولا سيّما في الآونة الأخيرة لقضاء أمور تتعلق بالعمل وأخرى عائلية. هذه المرة فقط تمنيت لو أنّي لم أذهب.
ترعرعت في تلك المنطقة، وفي كل مرة أذهب إلى هناك أرى تدهور الحالة أكثر من سابقتها من أبعاد عدة.
تبدو وجوه الناس مختلفة عن أولئك المقيمين في تركيا أو عن الأتراك أنفسهم. حتى البنى التحتية من أبنية وطرقات وأرصفة ومدارس تبدو مختلفة، حيث نقص الخدمات يزداد، مثل مزودات الفيول واحتياجات السوق والخدمات الطبية... قد يقول قائل: الحالة مفهومة بعد مضي ثمانية أعوام من الحرب، ولكن مارأيته كان أبعد بكثير، أسوأ مما يتوقعه بشر.
طرقات تفيض بالنازحين
تم تشيد الطرقات لتتسع لأربعة مسارات، ولكن للأسف جميعها ممتلئة اليوم. يتدفق الناس من كلا الطرفين، من مدينة إدلب حيث مازالت المعارك محتدمة بجانب مدينة سراقب والمناطق الريفية الأخرى المحيطة بمدينة إدلب، ومن جهة مدينة حلب، من مدينة الأتارب وريفها، حيث يهرب الناس من الموت المحتم.
نزح الناس في عجالة من أمرهم محاولين إنقاذ أرواحهم. كان هناك جميع أنواع الآليات بما فيها الدراجات النارية. كل آلية تحمل ما يمكن حمله من الناس والاحتياجات الأساسية. إنه ليس فقط نزوح غير لائق أو غير إنساني، ولكنه الأكثر بؤسا على وجه الأرض. تكمن الأساسيات التي يحملها الناس معهم أو يستعينون بها، بوسادات وأغطية وبعض الملابس الكافية لمدة أسبوع وبعض المتفرقات.
حالة المشهد من شرفة منزل والدي لايمكن وصفها، لايوجد كلمات كافية لوصف ما ترى عيني.
بينما كنت عابرا في منتصف الشارع، نظرت حولي، للجوار، للسهول التي لم تخضّر بعد... مضت خمس دقائق من أحلام اليقظة كانت كافية لاسترجاع ذكرياتي وروحي. كنت أخرج في الربيع إلى الطبيعة الأم و أدرس خلال أيام الثانوية. حيث اعتدت أن أرى المزارعين في الطرقات وكانت تعبر سيارة كل ثلاثة.. خمسة دقائق. الكثير من الذكريات الجميلة ولكن جميعها تبخرت، تبخرت إلى الأبد أو لعدة أجيال على الأقل.
بحثا عم مأوى
لأول مرة في حياتي أرى بعض العائلات على الأرصفة وبعضها الأخر بعيدا قليلا عن الطريق الرئيسي. نزلوا من آلياتهم، يحاولون إيجاد مكان على ضفاف الهضبات أو تحت ما يسمى الأشجار. فكرة وجود سقف لتحميهم من الشتاء القاسي صعبة التحقق. بعض العائلات جالسة على سجادات ملطخة بالتراب، بينما البعض الأخر يجلس على الصخور. وإذا أكملت الطريق إلى مدينة الدانا، تجد أن هناك عربات من نوع "بيك أب" أو شاحنات. القسم الخلفي منها مغطى بغطاء سميك "شادر" منظم، وكأنه منزل بشكل مؤقت. الحالة غير الإنسانية، هي أبعد من جميع التوقعات. أصبحت عاجزا عن الكلام بعد مشاهدة كل هذا بعيني المجردة. حيث لايوجد مكان لائق لك أو لعائلتك لتعيش أو تنام. الأمور اليومية البسيطة مثل الاستحمام أصبح أمرا مستحيلا. إذا تفحصت حالة هذه العائلات ستراهم لا يبحثون عن الطعام والملابس على الرغم من حاجتهم الكبيرة لها، بل يبحثون عن مأوى يأويهم. خيمة بسقف وثلاثة جهات، هذا كل ما هو مطلوب.
سمعت خلال دراستي الجامعية عن الحلم الأميركي، ولكن اليوم أدركت تماما أن الحلم السوري متواضع، ولكن، رغم تواضعه، لا يمكن تحقيقه.
تسونامي البرد في سورية
عندما تمشي في الطرقات ترى بعض الناس من الأطفال والمراهقين والنساء يمشون ولكن بثياب خفيفة لا تقيهم البرد. فتزرق جلودهم من البرد بسبب معاناتهم.
أحد أصدقائي النازحين حديثا من مدينة الأتارب، همس في إذني: "الجو بارد، لم نشعر بالدفء منذ يومين".
بين الشكوى والكرامة والأمل
الناس النازحون الذين ثاروا وساهموا بكل من نشاطات المعارضة وإيواء النازحين من مناطق أخرى لفترات طويلة، هم الآن نازحون من منازلهم إلى المجهول. يعانون البرد والظروف القاسية. إذا لم يشتكِ لك أحد من البرد، فاعلم أن كرامته لم تسمح له بالحديث عن ذلك. الناس بأمس الحاجة لأماكن دافئة ومأوى.