(هذه المادة بتنشر بالتعاون والشراكة بين حكاية ما انحكت وشبكة الصحفيات السوريات)
"أسمع مراراً صرخة الآنسة هدى أمينة السر: "أفينه، (شوِّه اسمي عمداً) عليك أن تحضري لي أوراقاً ثبوتية تثبت جنسيتك ومن أنتِ، وإلا فلن يُسمح لك بالتقدم للامتحانات كبقية الطلاب، ولن يُسمح لك بمتابعة الدوام في المدرسة"، في كل مرة كنت أستيقظ فزعةً فأجلس وفي حنجرتي صرخة مختنقة، ثم أتذكر أنني لست الوحيدة، فأخوتي والكثيرين من أمثالنا طردوا من المدرسة وحرموا من حقهم في التعلم كونهم مكتومي القيد، تلك الصفة التي اكتسبها الكرد إثر المرسوم الجمهوري المجحف الذي صدر بحقهم بعد إحصاء عام 1962م وجرّد أكثر من 300 ألف كردي من الجنسية السورية" هذا ما ترويه أفين لحكاية ما انحكت.
إلا أن هذا الظلم الذي تعرّضت له أفين يوسف لم يمنعها من الإصرار على شق طريقها في الحياة. ففي منطقة وطأتها الحرب السورية، تظهر نماذج إنسانية تجعلك تشعر بالمفاجأة، وتحفّزك على المضي قدماً، لا سيما في العمل الإعلامي الذي لا راحة فيه.
أفين يوسف إحدى هذه النماذج التي عُرفت في الوسط الإعلامي، فهي نموذج للصحفية التي تخبّئ داخلها بركاناً من الأسئلة الحاسمة، والمواضيع الشائكة التي لا مناص من تأجيلها في هذه البقعة الجغرافية من الأرض، وفي زمن الحرب تحديداً.
المقالة الأولى..
بيريفان خليل محررة في صحيفة روناهي، تصف لحكاية ما انحكت لقاءها الأول مع أفين وتقول: "أمٌ في العقد الرابع من عمرها، ملامح وجهها تعبّرُ عمّا في داخلها من إرادة وتصميم وصبر، ومن خلال حديثي معها، تبيّن لي أنها تمتلك الكثير من الثقافة والوعي".
وتستطرد: "كان لديها بعض الكتابات. كانت تكتب كلمات تعكس آمالها وطموحاتها على صفحات بيضاء، وتأمل أن تنشر كتاباتها يوماً ما".
من هنا بدأت أفين يوسف الخطوة الأولى في طريق تحقيق حلمها المؤجل، فحين عرفت أن جارتها تعمل في صحيفة روناهي، سألتها إن كان بالإمكان نشر إحدى مقالاتها، ولم تتوان جارتها بيريفان عن مساعدتها وقامت بنشر مقالتها الأولى في الصحيفة.
عن تلك اللحظة تقول أفين لحكاية ما انحكت: "كنت قد اعتدت على كتابة بعض المقالات والخواطر والقصص القصيرة والاحتفاظ بها في دفتري، كوني كنت بمعزل عن الوسط الثقافي أو بالأحرى كنت معزولةً عن المجتمع كاملاً، فكنت أحتفظ بهوايتي لنفسي، وبالفعل بعد عدة أيام جاءتني بيريفان بإحدى الصحف وأخبرتني أن مادتي قد لاقت استحسان هيئة التحرير وتم نشرها، ثم تم نشر مقالتي الثانية في العدد اللاحق".
بداية الحلم
بعدها بفترة عرضت بريفان عليها العمل كمراسلة بناء على مقترح من الهيئة الإدارية في الصحيفة، حيث تقول: "كنت وقتها أبحث عن عمل، لم يكن نوع العمل مهماً بالنسبة لي، بل كان كل ما يهمني هو الدخل الذي سأحصل عليه مقابل ذلك العمل، كانت أجور مؤسسات الإدارة الذاتية وقتها تتراوح بين 20/ 40 ألف ليرة سورية شهرياً، وعلى الرغم من أن المبلغ زهيد إلا أنني كنت أحتاج إليه لأستطيع توفير مستلزمات أولادي الثلاثة وتعليمهم بعدما مررنا بأوقات عصيبة وأزمة مالية على إثرها قمنا ببيع الكثير من أغراض المنزل لنؤمن احتياجاتنا".
ورغم صعوبة الأمر، حيث أنه كان عليها أن تخضع لاختبار إثبات الجدارة الذي قد يدوم لثلاثة أشهر، "لن أتقاضى راتباً طوال فترة الاختبار حتى أثبت جدارتي، وعلى الرغم من أنني كنت بحاجة للمال إلا أنني وافقت على تلك الشروط فوراً. كان العمل في الصحيفة بالنسبة لي كالحلم، حلمي الذي تأجل عقوداً من الزمن، فعندما كنت صغيرة كنت أقول لوالدي بأنني سأصبح محامية أو صحفية".
الراتب الأول.. وفرح
إلا أن أفين تمكنت من تجاوز مرحلة التدريب بسرعة قياسية، فخلال "شهر واحد فقط تم منحي راتبي الأول وكان قدره 20 ألف ليرة، وقتها سألت المسؤول: "هل تجاوزت مرحلة الاختبار؟ هل أستحق هذا الراتب؟" فضحك وأجابني: "لقد أصبحت مراسلة في الصحيفة"، كدت أطير من الفرح، وقررت أن أجتهد أكثر لأثبت للجميع أنني أستحق العمل على الرغم من عدم وجود مؤهل علمي".
هذا الراتب وقبولها بالعمل، فرض عليها واقعا جديدا سيغير حياتها تلقائيا، واقع تصفه أفين بالقول: "لم أتوقع يوماً أن يتغير نمط حياتي بهذه الصورة، بأن أعمل في صحيفة، خاصة أن زوجي كان قد فقد عمله في تجارة السيارات بعد حادثة جعلته يخسر رأس المال الضئيل الذي كان يعيننا على المعيشة".
الرئيس المشترك لاتحاد الإعلام الحر، سيبان جان, يتحدث عن لقاءه مع أفين يوسف، ويقول: "تعرفت على الصديقة أفين في صحيفة روناهي، كان معظم العاملين في الوسط الإعلامي وقتها قد اكتسبوا خبراتهم من الممارسة العملية، وكانوا يقومون بتدريب الزملاء الجدد. كانت أفين من النوع الجاد الذي يحب التعلم، فأتقنت فنون كتابة الخبر وإعداد التقارير في فترة وجيزة جداً".
وعن صعوبات البدايات، تقول أفين: "في البداية وجدت صعوبة بالغة في العمل كمراسلة، فأنا ليست لدي علاقات ولا أعرف أين تتواجد المؤسسات أو الهيئات ولا أحد يساعدني في الوصول إليهم، عدا ذلك كبر سني مقارنة بزملائي اليافعين، كنت أخرج من الصباح وأبحث عن المعلومات والأخبار بنفسي، خاصة بعدما تسلمت صفحة الاقتصاد لأكون المسؤولة عنها كاملة بعد شهرين فقط من عملي، وبعد ستة أشهر فقط من عملي كمراسلة استطعت تكوين العديد من العلاقات وحصلت على أرقام معظم المؤسسات والهيئات ومسؤوليها، لكنني كنت أتعرض باستمرار للنقد من قبل رئيس التحرير السابق لأنني كنت أتأخر بتسليم المواد والتقارير التي أعدها".
نجاحات متتالية
لم تبق أفين تعمل في قسم الاقتصاد بل سرعان ما طورت مهاراتها، وعملت في صفحة التحقيقات في الصحيفة لتثبت جدارتها مرة أخرى، دون أن يتوقف الأمر هنا أيضاً، حيث "تم تعييني في هيئة التحرير، ثم مساعدة لرئيسة التحرير، حاولت خلال تلك الفترة أن أستغل صلاحياتي للنهوض بمستوى الصحيفة، كنت أعمل ساعات إضافية مع زميلتي رئيسة التحرير سوزان علي وكنا نتعاون معاً لنرتقي بالصحيفة" تقول لحكاية ما انحكت.
طموحها قادها إلى الخوض في تجارب عديدة، وبرغم كونها تملك تجربة صحافية مع إحدى الجرائد المحلية إلا أنها كانت تريد إثبات أنّ همّ الناس، التي هي واحدة منهم، أهم بكثير من هموم العوالم الأخرى، البعيدين عن واقعٍ مأساوي يطحن أرواح البشر.
سوزان علي، رئيسة تحرير صحيفة روناهي، تصف لحكاية ما انحكت انطباعها عن أفين بالقول: "تلمست فيها الجد والجرأة، كانت تحمل كاميرتها لتنزل إلى الشارع دون أدنى شعور بالضيق أو الاهتمام بنظرة المجتمع الدونية لعمل المرأة في الإعلام، كانت تصرّ على نقل آلام هذا الشعب ورغباتهم وآمالهم إلى الرأي العام والسعي لتغيير نظرة المجتمع تلك لعمل المرأة كإعلامية".
بهذه الروح استمرت في عملها، وأثبتت ذاتها من خلال تقاريرها التي كانت شاملة من النواحي كافة، ومواظبتها في عملها، وإصرارها على تقديم الأفضل، حيث تحلت أفين بالروح الصحفية؛ الروح التي لا تخشى شيئاً أو تتذلل أمام العقبات، شغفت بالعمل الإعلامي، وآثرت أن تترك بصمتها فيه، وتأدية مهامها كامرأة وصحفية وكاتبة أيضاً، والعمل على توعية المجتمع، والسعي لاستعادة المرأة لكينونتها وريادتها.
سيبان جان يصف شغف أفين في العمل: "إنها امرأة ملتزمة بالنظام والمواعيد وهي جادة في العمل. بعد معرفتي أن الصديقة أفين لم تكمل دراستها وتحمل فقط شهادة المرحلة الإعدادية، كما أنها أمٌ لثلاثة أطفال! أدركت مغزى إصرارها على التعلم ورغبتها في تطوير قدراتها، فقد كانت تذكرني بأمي التي حرمت من الدراسة لكنها استطاعت بإرادتها القوية تعلم الكتابة والقراءة باللغة الكردية وهي بعمر الستين".
من التحرير إلى الرئاسة
وهكذا أصبحت صحيفة روناهي، كما أقول أفين "بالنسبة لي هي منزلي الثاني، فهي التي فتحت لي بوابة النجاح" الذي لم يتوقف هنا، حيث تصف بيريفان ما لمسته في شخصية زميلتها الجديدة: "تمكنت أفين خلال فترة قصيرة من عملها كمراسلة أن تثبت أن لديها إمكانات جيدة تخولها لأن تصبح محررة في الصحيفة، ومن ثم تتقلد منصب الرئيسة المشتركة في اتحاد الإعلام الحر. إنها تمتلك الإرادة والصمود والجرأة والقوة ما يخولها لتكون امرأةً رائدة في عملها".
وعن تقلدها منصب الرئيسة المشتركة في اتحاد الإعلام الحر تقول أفين: "تم ترشيحي لمنصب الرئيسة المشتركة لاتحاد الإعلام الحر خلال كونفرانسه الذي عقد في حزيران عام 2018م. لم أكن أعلم شيئاً عن ماهية عمل الاتحاد أو طريقة إدارته، شعرت بالخوف والقلق، حقيقة لم أكن سعيدة بهذا المنصب الجديد، كنت أشعر بالغربة في تلك المؤسسة الجديدة التي يجب أن أديرها، فكرت لعدة أيام ما الذي يمكنني فعله هناك، وماذا سيكون عملي؟ قرأت النظام الداخلي لاتحاد الإعلام الحر عشرات المرات، ثم قرأت قانون الإعلام، وميثاق الشرف الصحفي، كنت أبحث عن وسيلة للبدء بالعمل".
الصحفي جاندي الخالدي، يصف شخصيتها في الأزمات بالقول لحكاية ما انحكت: "هي متمردة لدرجة التماهي مع أحلك الظروف؛ تخرج دائماً من أزمات صحافية بابتسامة هادئة وهدوء رهيب لا يمكن أن يتوفر عند الجميع".
صعوبات العمل الإدراي
وعن عملها كرئيسة مشتركة، تحدث سيبان جان لحكاية ما انحكت قائلاً: "فيما يخص عملها في اتحاد الإعلام الحر، وبما أنها التجربة الأولى لكلينا في المجال الإداري والمؤسساتي، وبما أن الهدف من الرئاسة المشتركة هو التعاون بين الجنسين، كنا نواجه نفس الصعوبات بسبب عدم الخبرة، لكن من خلال التعاون والتواصل فيما بيننا كنا نتدارك تلك الصعوبات، كلنا نخطئ، وهناك أمور تصعب على المرء. لكن على الرغم من ذلك تلمست الكثير من الأمور التي حاولت وتحاول صديقتي أفين تدراكها من خلال الإصرار والبحث المتكرر عن الحلول والتعاون فيما بينها وبين الأعضاء، وأعتقد أن هذا الأسلوب كفيلٌ بأن يثبت الشخص نفسه".
وعن هذا العمل، تقول أفين: "تعاونت مع زميلي الرئيس المشترك على تقسيم الأولويات ووضعنا خطة للعمل، بدأنا بزيارة كافة المؤسسات والوسائل الإعلامية المتواجدة في المنطقة، ومن ثم التنسيق وتوسيع العلاقات بيننا وبين الهيئات ومؤسسات الإدارة الذاتية المعنية، وكذلك قمنا بعقد علاقات خارجية مع إقليم كردستان وبعض الدول العربية، وأيضاً مع الاتحاد الدولي للصحفيين، وها أنا ذي ما أزال أحاول الارتقاء بعملي والنهوض بمؤسستي التي أعمل بها، ولست أدري إن كان هذا الجهد كافياً، كل ما أستطيع قوله هو أنني أبذل كل ما في وسعي ولا أوفر جهداً فهو واجبي قبل أن يكون عملي".
يتذكر جاندي يوم تقلدها منصب الرئاسة المشتركة ويحكي: "كانت هادئة كالعادة عندما استلمت الرئاسة المشتركة لاتحاد الإعلام الحر، لكنها ورثت بذلك أثقالاً مضاعفة على كاهلها، فالإعلام في منطقتنا يعني مشاكل ومشاكل فقط".
ويستطرد: "إنها أفين يوسف التي لم تفرّق بين عضو منضوٍ في الاتحاد وبين غيره، وهي التي كانت تواجه، بهدوئها وإصرارها المعهودين، ما كان يمكن أن يجعل الانتهاكات تستمر ضد الإعلاميين في شمال وشرق سوريا. وبات معلوماً لدى الأوساط الإعلامية أنّها هي صمام الأمان بالنسبة لهم، بعد أن بات اتحاد الإعلام الحر في عهدها يصدر بيانات ويسجل مواقف ضد أية قوة عسكرية أو أمنية قد تنتهك حقوق الصحافيين داخلياً وخارجياً".
تبقى أفين يوسف نموذجاً كُردياً للمرأة الصحافية العاملة في شمال وشرق سوريا، ورغم كل الصعوبات نجحت بالصمود في وجه كل من حاول أن يفرغها من مضمونها الإنساني، عبر حصرها وحبسها في قضبان الإيديولوجية والتحزّب، ويحيدها عن الرسالة الإنسانية التي تؤمن بها وتسعى لتحقيقها في مسيرة الإعلام المتخبطة، إلى الآن، في روجآفا.