القول أنّ الأقليات الدينية المشرقية، أو بعض من فضاءاتها، هي التي مثلت بدءاً من القرن التاسع عشر الحامل السوسيولوجي لأفكار التنوير الغربي في المشرق العربي، أو قل رأس الخيط لهذه الأفكار، وبالتالي أنّ كياناتها البشرية كانت الأكثر استعداداً لـ"التعلمن" منه إلى الأكثرية المسلمة، لهو قول حقيقي ولا يمكن المصادرة عليه تاريخياً. من منا يستطيع إلى اليوم تجاهل ما كان يختبئ خلف ما أفصحت عنه المشاكسة أو "المناظرة" التي قادها صوتان مع بدايات القرن العشرين، تلك المشاكسة التي ما زالنا ندور في رحى أسئلتها واستحقاقاتها: صوت فرح أنطون، القادم من أقلية مسيحية، وصوت محمد عبده، القادم من أغلبية مسلمة، الأول: "المتعلمن" الذي حاول النظر إلى أوروبا من خارج أسوار كاهل التراث، والثاني: الشيخ الأزهري "المتأسلم" الذي نظر إلى أوروبا، وهذا صحيح، لكن من خلال نظارات تراثية (سمّها "توفيقية" أو "تلفيقية" على حد تعبير نصر حامد أبو زيد)، فلا هو كسب السؤال الأوروبي الحداثي، ولا هو استطاع الوصول إلى ما طلبه في إحياء الإسلام "الصحيح". هكذا ليبقى صوت الأزهري، وهو الصوت الغالب إلى اليوم، معلقاً في الهواء: بين حبال ما طرحه سؤال الحداثة والعلمنة وحبال إحياء اللحظة الحقيقية، لحظة التأسيس الإسلامي.
هذا بالفعل ما لا يمكن إنكاره. بيد أنّ القول أنّ أنطون يجسد مثالاً على "مسيحية" مشرقية، والآخر، عبده، يتمثل "السنيّة" الأغلبية، وبأنّ الأولى أكثر استعداداً في "التعلمن"، والثانية أكثر عناداً ضد العلمنة، لهو حُكْمٌ ينبئ بخلف تاريخي، وتحديداً حينما ينتزع هذا المثال، وغيره الكثير، من سياقه التاريخي المعقد (أقلها بعُقد الإمبراطورية العثمانية) ويطبق على سياقنا السوري الحالي، ثم لتخرج أمامنا كليشيه طائفية تقول: أنّ الأقليات المشرقية، وتحديداً السورية واللبنانية، هي العلمانية، في حين أنّ الأكثرية هي المعاندة لها وأنها مصدر التطرف والأصولية. وبصرف النظر عما تسببه هذه المقولات من ألم نفسي يصيب قطاعات واسعة من الشعب السوري، فإنها تعكس دوغما أرثوذكسية سيطرت حتى على ذهنية الكثير من المثقفين السوريين (طبعاً المتعلمنين "بالخطأ")، وتحديداً أولئك المثقفين الذين يحومون حول نظام البعث دفاعاً عنه ويؤطرون أيديولوجياً له فيما يخص اعتقادهم بتنوّر الأقليات وظلامية الأكثرية (نفكر في نبيل فياض مثلاً).
قصر العلمنة بالأقليات لا يقل طائفية وتهاتراً تاريخياً من جدل أثير بين مثقفين سوريين (مثلوا دور الكهنة على المثقف والشارع) سنة 2012، ادَّعوا أنّ الأقليات هي أكثر استعداداً للتحالف مع إسرائيل. لماذا؟ لأنّ هذا التحالف مُدوّن في جيناتهم! (كما جاء في هذا الادعاء). لقد كشف بالفعل هذا الجدل ليس فحسب ضعف الخطاب الوطني بين مثقفينا أو ضعف إمكانية بناء مثل هكذا خطاب، بل أيضاً مستوى الشعبوية في التفكير في مسألة استخدام مفردات الأقليات وربطها بالجينات وربط هاتين باحتمالات تاريخية من عدمها (وبالمناسبة تعكس طريقة التفكير هذه إحدى أهم نظائم الشعبوية في مسألة الأقليات المسلمة في الغرب وربطها "جينيا" بالإرهاب). والأمر نفسه اليوم يتكرر في سورية اليوم في ربط العلمنة في جينات ودم الأقليات، تحديداً الدينية، فقط لأنّ فضاء بعض الأفكار التنويرية انطلق من هذه البيئات (وهي أفكار غالباً ما تنتشر في الدراسات الغربية وتجد صداها الرضيّ في بعض فضاءاتنا الشعبوية السورية).
لا الإسلام ولا المسيحيات المشرقية ولا حتى أي طائفة دينية أخرى قد قبلت العلمانية على أساس ديني ينطق به المقدس أو لأن لاهوتها يقوم على التنوير.
لكن لنشر إلى نقطة أخرى هنا غالباً ما يتم التعامي عليها: لم يحدث على الإطلاق في عمليات استيعاب أفكار العلمنة من البيئات الأقلوية أنْ تم ذلك على أساس ديني أو استعداد ديني داخلي في هضم هذه الأفكار الحداثية ولتحل هذه محل الأفكار التقليدية الدينية، سواء أكانت مسيحية أم غيرها. الدين بحد ذاته كان دائماً في بنيته الناظمة اللاهوتية الداخلية ضد العلمانية. ولنتذكر أنه حتى في فرنسا اللائكية التي اتخذت دستورها العلماني نهائياً 1904 لم يحدث أنْ تعلمن "اللاهوت الكاثوليكي" من داخله. الأمر تم بسلطة الدولة، إلى أنْ حدث توافق "مؤسساتي" في توزيع السلط وإجبار الكنيسة مرغمةً حتى بدايات الربع الأول من القرن العشرين إلى الابتعاد عما شاءته الدولة؛ ثم أنّ الكاثوليك أنفسهم لم يقولوا على الإطلاق حينما تنحوا عن الدولة أنّ مسيحيتهم قد تعلمنت لصالح قيصر (أما ما ينتشر اليوم في بعض الشعبويات البحثية الغربية حول أصول المسيحية-اليهودية للعلمانية، فهذا حديث آخر ينطلق من أبعاد أخرى وله أهداف محددة لا يمكن التطرق لها هنا).
الأمر نفسه يمكن قوله في سياقنا: فلا الإسلام ولا المسيحيات المشرقية ولا حتى أي طائفة دينية أخرى قد قبلت العلمانية على أساس ديني ينطق به المقدس أو لأن لاهوتها يقوم على التنوير. فرح أنطون كان علمانياً لأنه علماني، وليس لأنه مسيحي، والرجل لم يدّع على الإطلاق أنّ خياره في الاتجاه نحو عقلانية ابن رشد قد تم على أساس مسيحي لاهوتي (أنْ ننتقد اليوم هذا الاتجاه الفكري ذاته لهو موضوع آخر). نعم يمكن المقارنة بين هذا الدين وذاك أو الطائفة هذه وتلك أيهم أخف وطأة في رفض العلمانية (ولا ننسى أنّ علمنة مصر-محمد علي، السباقة في التحديث علينا، قد انطلقت من حامل بيئات مسلمة، ولم يكن الإسلام هو المعيار في هذه العلمنة). وهنا يمكن القول: أنّ الإسلام لأنّ بناءه اللاهوتي والفقهي يحتل المرتبة الأولى في ضخامة "التسوّر" بالتراث وداخله (ذلك التسوّر الذي ما زال عصياً إلى الآن على الإصلاح)، فإنه يحتل المرتبة الأوالية في صد العلمنة، وهو الأمر الذي يجد صداه إلى الآن داخل قطاع واسع من الشعوب الإسلامية، ليس أقلها في سورية (حيث التحرج والخوف حتى من لفظ العلمنة وإردافها بالإلحاد). لكن عموماً، لم يحدث أنْ حدثتنا طائفة ما بإصلاح علماني للاهوتها الخرافي وفق ما أتى به جان جاك روسو أو ماركس! أو غيرهما أو وفق مسارات ما تتطلبه الدولة. فمعظم طوائفنا بقيت على طائفياتها القاتلة وبقيت سداً منيعاً ضد مفهومة الدولة بالمعنى الحداثي-العلماني.
وأخيراً: فإنّ إلحاق العلمنة بالأقليات، وفق تلك الأعين الجينية التي ذكرناها، لا يقل سذاجة عن تأسيس متأسطر حينما يُطالعنا الإسلامييون وأشباه الإسلاميين أنهم يقبلون بلعبة الديمقراطية التي لا يفهمونها سوى أنها "صندوق" (وهذا حديث نتعرض له لاحقاً): حيث ينظر في كلتا الحالتين بكون هاتين، الديمقراطية والعلمانية، وسائل للصعود، لا مسارات حداثية ينبغي السير بها في بناء الدولة الحداثية أي لا يتم تبنيها وفق ما يطبله السؤال الديموقراطي والعلماني-الحداثي.
تعريف الدين بالدم، أو الدم بالدين، هو من أخطر ما أتت به التوتاليتاريات الحديثة، وخاصة القومية البعثية أو من يدور في فلكها (حتى ضمن بعض الأوساط المثقفة التي تظن نفسها أنها خرجت من جلباب هذه التوتاليتاريات)، والتي تصر على عنادها، المخيالي طبعاً، في قياس شعوبنا بمسطرة الجينات وخطابات "أكثرويّة" و"أقلويّة"؛ وهو الأمر الذي يمنع أساساً بناء خطاب علماني وطني ما دامت هذه المفردات متعششة في دواخل أبنية أروقتنا الفكرية.