لابد أن تحمل أية تجربة سياسية، اجتماعية، ثقافية، بحجم الحدث السوري خواصاً جديدة للشعر المواكب لها، وقد تجلى ذلك بالإنتاج الأدبي والفني السوري منذ عام 2011. في هذه المادة أحاول تلمس بعض خواص هذه الشعرية الجديدة في قصائد مجموعة من الشعراء والشاعرات المعاصرين. فالشكل الفني ثابت، أي القصيدة، بينما يتم التركيز على الموضوعات التي تتناولها القصيدة، وعلى مستوى الأسلوبية اللغوية.
هذه قراءة في خمسة دواوين شعرية نشرت ضمن )سلسلة شهادات سورية( المنشورة من قبل (بيت المواطن(، والتي بلغت الثلاثون مطبوعة، تنوعت بين الشهادات، المقالات، القصص، والدواوين الشعرية. تمثل هذه الدواوين الخمسة كامل المنشورات الشعرية ضمن الثلاثين كتاباً الصادر عن سلسلة (شهادات سورية). وتمتد في زمن نشرها بين 2014 وحتى 2018، مما يجعلها قادرة على عكس ملامح من التجربة الشعرية السورية بتنوع شعراءها وشاعراتها.
لقد ميزت عدداً من الموضوعات والأساليب الشعرية التي شكلت محاور تكررت بين المجموعة الشعرية والأخرى، وقد حاولت أن أجد لها عناوين تسمح لها لتكون في إطار التداول الشفاهي أو النقد الكتابي، فكان منها:
- حضور السلاح (وهي تيمة سنخصص لها مادة مستقلة نجمعها مع الفن التشكيلي)
- حضور الحرب.
- الفن في وجه الحرب: يحضر الغناء، الموسيقى، الرقص كأفعال نقيضة للحرب.
- الفضول تجاه القاتل، ومساءلته أخلاقياً وإنسانياً.
- حضور الموت، وتزايد مستمر لجموع القتلى.
- السارد الميت: والمقصود هو أن الشاعر، أو الرواي في القصيدة يكتشف موته.
- حضور المجزرة.
- البدايات الجديدة محكومة بالموت، والتاريخ يضمن استمرارية القاتل.
- العلاقة الجدلية بين الحب والحرب موضوعة تكررت بتنويعات متعددة في تناولها من التضاد، إلى التكامل والإمتزاج، إلى الرابط الوجودي بينهما.
-
(لم أتمدد يوماً على سكة القطار، أحمد باشا، 2014): الموت القابض على المخيلة
مع قصائد (لم أتمدد يوماً على سكة القطار، أحمد باشا)، يقع القارئ على حضور حدث التظاهرات الشعبية التي جرت عام 2011. تتألف المجموعة الشعرية من من ثلاثة أقسام رئيسية: (مقدمة لابد منها، نثرية)، (إعتام، قصيدة تضم عدداً من القصائد)، و(رصاصات طائشة، هي قصيدة واحدة طويلة وممتدة على صفحات وعديد المقاطع).
يكثر في الشعر السوري المعاصر، وفي الأدب السوري عامةً، تيمة الموت الذاتي للسارد
في قصيدة (رسائل إلى جندي)، يذكر هذا الحدث بعبارة بسيطة، ومستقلة وحدها دون ما يتلوها أو يسبقها، يكتب الشاعر: "وحدها الشفاه القادرة على الهتاف، قادرة على القبل"، وكأن الشاعر يرغب أن يزرع في ذهن القارئ بداهةً أن المتظاهر هو ذاته العاشق. وها هو المقطع التالي يتابع سرد ما جرى، فتلت مرحلة التظاهر، مرحلة القتل: "منذ أول قتيل/ نظرنا طويلاً إلى الأعلى/ منذ أول قتيل/ فقدت الجهات معناها"، وفي المقطع التالي للقصيدة يتحدث الشاعر عن القناص، متسائلاً: "هل يميز القناص بين ضحية وأخرى؟، عم يبحث إذاً؟، عن قلب"، قلب القادرين على الهتاف والقبل هو ضحية القناص، هي القتيل الأول الذي أوقف التطلع إلى الأعلى.
تكاثر القتلى وانتشار الموت
في قصيدة (ذاك الطريق)، انتقال واضح لتصوير انتشار الموت عبر وصف الطريق الذي يأتي ذكره في العنوان. في الطريق الموصوف في القصيدة موت من نوع آخر، في الطريق أحياء يمشون على جوانبه كي لا يموتوا فرادى، وأم لا تصدق موت أولادها فتتحس بطنها. تتلالى الصور الشعرية في وصف الطريق المليئة بالموتى، ليتحول الطريق لاحقاً إلى طريق الهجرة، فيرحل الناس في القصيدة تاركين البيوت والحكايات: "غادروا كالغيم، كالماء، دون أقدامهم، كيفما تلفتوا، لا ظلال"، هنا نجد صورة الرحيل التي ترسم من خلال أجساد لا ظلال خلفها، وهي في رحلة المغادرة.
في القصيدة ذاتها يظهر الحنين، مباشرةً بعد الرحيل يطالعنا الحنين: "الحنين عندهم، يصفونه بما لا يفهمون"، لكن الشاعر يقدم صور وصفية عن الحنين، فهو الحنين إلى رائحة الخبز وصوت المؤذن ومشاجرات الجيران، وتأمل القطط عند الحاويات. هي صور نمطية ترتبط بالحنين إلى الوطن، ويتضح منها بدقة أن المقصود سورية، رغم ألا إشارة مباشرة إلى المكان في القصيدة. تنتهي القصيدة بصورة وصفية وسردية متميزة، يمكن اعتبارها نتيجةً لإنتشار الموت، ونتيجةً للرحيل والحنين: "على الطريق، عميانٌ مثلنا، كلما نظروا في المرآة، وجدوا غيرهم"، صورة شعرية متميزة تجمع الذهني والحسي، الراحلون في الهجرة كما العميان الذين ينظرون في المرآة ليجدوا إنعكاساً يدل على غيرهم.
الخراب يعم البصر والمدى
يحضر الخراب أيضاً كموضوعة استثنائية، في قصيدة (أقدام حافية تحت المطر)، المكتوبة بصوت أنثوي، يبدأ المقطع الثالث بما يوحي للقارئ بدايةً بأنه صباح يوم جديد، حيث تحضر الفتاة قهوتها، لكن القصيدة لا تلبث أن تفاجأنا بالفعل، بتلك الممارسة الصباحية التي تقدم عليها الفتاة: "على عجل، قبل أن أحضر قهوتي، أكمل رسم صورة الخراب، أجعلها أجمل، يشاركني كل أطفال الحي برسمها"، إذاً الخراب ممارسة صباحية، هو لوحة تُرسم وتُجمل أيضاً، الخراب يشارك فيه أطفال الحي.
الرحيل، الهجرة، الغربة، الحنين، كلها مرايا لموضوعة الإنتماء، والتي خصص لها الشاعر قصيدة بعنوان (كي لا أنتمي)، والتي يحاول الشاعر فيها الغوص في تأمل أنثى أمامه، يساعده تأملها على الإنتماء، لا تحمل القصيدة شعرية جديدة إلا في ذلك المقطع الذي يقول فيه الشاعر: "أنتمي إلى مفردات المذبحة، أرتل للشتات، وأقدسه أكثر"، هنا نخرج من الرومانسية التقليدية التي تسيطر على القصيدة، إلى موضوع وجودي، الإنتماء إلى المذبحة، وترتيل الشتات، هو مجاز عقلي خاص بالتجربة السورية، التي عرفت كلاً من المذابح والشتات واقترحتهما انتماءاً على أبناءها.
السارد الميت
إنه الموت مجدداً، فإن لم يكن عن الضحايا، عن المقتولين، فإنه الموت الشخصي. يكثر في الشعر السوري المعاصر، وفي الأدب السوري عامةً، تيمة الموت الذاتي للسارد. في مجموعة (أحمد باشا) يطالعنا القسم الأول المعنون (مقدمة لا بد منها) بالعبارة التالية، التي تبين من أين اختار عنوان كتابه: "لم أتمدد يوماً على سكة القطار، لكني شعرت بأني قد فعلت ذلك مراراً، كان صوت الصافرة قوياً جداً، إلى درجة أنني لم أشعر بالموت"، إن العنوان مرتبط بالموت الذاتي للسارد الذي لم يتمدد على سكة القطار لكنه يشعر بأنه فعل ذلك، يتذكر الصافرة، لكنه واثق من أنه لم يقدم على ذلك، ثم يؤكد لنا موته، هو يشعره ويدركه، بأكثر من حادثة التمدد على سكة القطار. هي إحدى تيمات الموت الذاتي للسارد التي ستكرر في الأدب السوري المعاصر. قصيدة (هكذا موتي) مثال نموذجي لذلك. في هذه القصيدة يعيش الشاعر تفاصيل جنازته، يعي موته، ويقوم بالأفعال لتحقيقه: "يرتفع صوت المآذن، لا يحتمل التابوت ضجري"، إن الشاعر – سارد القصيدة يعي موته، هو ميت، وهذا ما يتكرر مع عناوين وأشعار عديدة في الشعر السوري المعاصر كما في ديوان (الدرب مسامير، منار شهلوب)، (كمن يشهد موته، محمد ديبو)، وغيرها
حوارية بين الضحية والجلاد
يتشكل المقطع الثاني من قصيدة (حوارية مؤجلة)، من حوار مباشر بين الضحية والجلاد، حيث يقول القاتل للضحية: "منحتك، أعطيتك، وهبتك"، لكن الضحية تقاطعه: "توقف، لو أنك قادر على الحياة للحظة، لما أهديتك، صفة القاتل"، إذاً الضحية هي التي تمنح القاتل هويته، تمنحه وجوده المحدود بصفة القاتل. في القصيدة انتصار مبهج للضحية، ثم يتحول إلى انتصار منطقي، فشاهدة القبر مبتسمة حين تقول الضحية للقاتل: "لا ثأر عندي، طفلي خط على الجدران حكايتي، وأنت تماهيت مع الدماء والحديد"، إنه الضحية قانعة، لا ترغب الثأر، لأن حكايتها كتبت على الجدران، ذلك هو نصرها، بين انهزام القاتل بأنه لجأ إلى الدماء والحديد. هنا الضحية هي حكاية على جدار، والقاتل دماء وحديد، في القصيدة إعلاء من شأن الضحية، وبحث أعمق من التعاطف والشفقة هو بحث عن تلك القوة التي تمتلكها الضحية.
المخيلة براد جثث
في القصيدة الأكبر في المجموعة (رصاصات طائشة) لم يعد تتبع الحدث السياسي السوري هو الأساس، بل وصف الحال الذي آلت إليه البلاد، الأبيات الإفتتاحية ترسم الصورة بكثافة: "تعبت القبور من ساكنيها، ما أوحشنا!، ما أكثرنا نحن المقابر!، والشواهد في الذاكرة، تستحضر الكلمات، ينزح من نحبهم فجأة"، بالإضافة إلى الجمالية الشعرية الكثيفة في هذه الأبيات، فإن ما يثير الإنتباه، هو تتالي موضوعة المقابر والنزوح في ما يقارب الشطر الواحد، لم يعد هناك من تسلسل زمني للموضوعات كما في القسم الأول من الكتاب، بل أصبحت الموضوعات تتجاور في القصيدة الواحدة.
ما يثير الإنتباه في قصيدة أحمد باشا هو تتالي موضوعة المقابر والنزوح في ما يقارب الشطر الواحد، لم يعد هناك من تسلسل زمني للموضوعات كما في القسم الأول من الكتاب، بل أصبحت الموضوعات تتجاور في القصيدة الواحدة
إنها قصيدة ترثي حال البلاد بكاملها، بلاد الأنبياء الموبوءة بجثث أبنائها: "هنا حيث اخترعت اللغة، ماتت"، بلاد تدفع سكانها لحسد الأموات لأنهم لم يعودوا مجبرين على تغيير آراءهم: "طوبي للموتى قناعاتهم لا تتغير أبداً". هي بلاد مخادعة، لا تأبه بأجساد ضحاياها، بل تغويهم للموت: "يا صاح، البلاد التي تغوي ضحاياها، لا تعرف شكل أجسادهم، لم تدثر جوعهم يوماً"، هي بلاد الموت المستمر حيث تتحول المخيلة فيها إلى براداً للجثث: "عرفت عدد الشهداء دون أن أعرف حجم أحلامهم، اتسعت خياناتي أكثر، مخيلتي الآن، تصلح براداً للجثث"، لم تعد المخيلة قادرة على تخيل أحلام الشهداء، وبالتالي حولتهم إلى مجرد أرقام، فتحول الخيال إلى براد للجثث.
-
(إذا قفزت عن السياج ولم أصب بأذى، عمرو كيلاني، 2014): البدايات الجديدة محكومة بالموت
تتقاطع العديد من الموضوعات بين المجموعة السابقة، ومجموعة (إذا قفزت عن السياج ولم أصب بأذى، عمرو كيلاني)، التي يستقوفنا فيها الإهداء. يهدي الشاعر المجموعة: "إلى من صرخوا: لسنا أبطالاً، كفوا عن نعتنا بالأبطال لتلقوا عن كاهلكم عناء موتنا اليومي، نخشى أن نصدقكم، فنصبح آلهة ويموت فينا الإنسان". في هذا الإهداء يتحدث الموتى إلى الأحياء، ويطلبون منهم أن ينزعوا عنهم صفة البطولة، تلك التي يعتقدون بتكريسها تخفيفاً من الشعور بالذنب تجاه موتهم. يرفض الموتى البطولة، خوفاً من التحول إلى القداسة، الموتى يفضلون الإنسانية على التحول إلى الألوهية.
الفن في وجه الحرب، الرقص والموسيقى
هذه موضوعة أيضاً ستتكرر في عدة قصائد، في الإهداء الذي يقدمه الشاعر في بداية الديوان هناك تحية إلى نوع آخر من البشر: "إلى من كان سلاحهم تعويذة الغناء والرقص يجابهون بها إيقاع الرصاص الرتيب. إلى موسيقاهم من مقام لا الكبير"، هم أولئك الذين يجابهون قوة السلاح بالفنون، ويقابلون الرصاص بالرقص والموسيقى.
كل بداية مآلها موت جديد
لكن رغم هذا الإهداء إلى الرقص والموسيقى، إلا أنه مع ديوان (عمرو كيلاني) نتلمس حضور أعلى من اليأس والشعور بالمنفى، بإنسداد الأفق، ومعه ستظهر للمرة الأولى موضوعة استحالة البداية الجديدة التي تتحول في كل مرة إلى موت جديد. في القصيدة الأولى (لا يشبهون كلامهم) ولوج مباشر إلى توصيف قوم لا يحددهم الشاعر، ولكنه يمنحنا صفاتهم: "لا يشبهون كلامهم، هم غيرهم في الأغنيات"، ومن ثم يتابع في وصف بلاد هذا القوم، كأنه يكمل ما انتهى إليه ديوان (أحمد باشا)، في إصرار على وصف الحال الجمعية: "بلادهم صارت منافي، أهلهم صمت يسير على الطريق، نساؤهم يلبسن منذ الموت وجه الذكريات، ولا نوافذ في السماء".
ويتابع الشاعر المقطع تلو الآخر في توصيف حال هؤلاء القوم، يقول: "هم مثلنا، أبناء حزن واحد". يماهي الشاعر بينه وبين القارئ في حال الحزن، وبين هؤلاء القوم الذين يصف صوراً من حياتهم، لنتلمس صور وحالات مستجدة على الواقع السوري، مثل الفقر فتصف القصيدة أباً يفتش في الحاويات عن الحليب، بينما تُنزع الشمس من الطبيعة لتقبع في الزنازين، وهناك الطفلة المربوطة بالسلاسل حول فخذيها، مصيرها متأرجح بين الدروب والحروب، مصيرها مرتبط بالتأرجح في التاريخ بين أقنعة الهزيمة أو انتصار الخوف، وكذلك تحضر في القصيدة وصف هؤلاء القوم بالعميان، كما رأينا في إحدى صور (أحمد باشا).
هي دائرة بين رغبة البداية الجديدة وحتمية الموت المستمر "إنه الموت البداية"، والتاريخ حامل البدايات لا يسبب إلا مزيداً من القتلى، ومهما كان التوق إلى بداية جديدة تتجاوز الموت، لكن حضور القاتل يحضر بإستمرارية مع كل ضوء. بجرأة يجعل (عمرو كيلاني) البداية موت، والنهار حضور القاتل
في قصيدة (من أغاني الضياع)، يتحدث الشاعر عن مجموعة بشرية ينتمي إليها، بضمير النا الدالة على الجماعة، لا إشارة مباشرة إلى هوية الجماعة أيضاً، لكنها جماعة تمتلك سمات مشتركة عميقة مع المجتمع السوري، مثل اللهاث للوصول إلى بداية جديدة، التصادم مع التاريخ بأعداد القتلى، الأمل بالموت كبداية جديدة، ثم المفاجأة المأوساوية باللقاء مع القاتل مجدداً:
"نجري،
ونلهث كالمجانين ابتغاء بداية بدأت،
نشد الضوء أكثر، يفتحُ التاريخُ فاهُ،
فنلمح القتلى، جماعاتٍ يواسي بعضهم بعضاً، فنهمس:
"إنه الموت البداية، إنه
السر الذي نهذي به
منه الحياة تشع، من ملل، وتمضي
ثم حين تمل ثانية تعود إليه مثل صدى"
نشد الضوء أكثر، يطلع القتلة.
هي دائرة بين رغبة البداية الجديدة وحتمية الموت المستمر "إنه الموت البداية"، والتاريخ حامل البدايات لا يسبب إلا مزيداً من القتلى، ومهما كان التوق إلى بداية جديدة تتجاوز الموت، لكن حضور القاتل يحضر بإستمرارية مع كل ضوء. بجرأة يجعل (عمرو كيلاني) البداية موت، والنهار حضور القاتل.
هذه العلاقة بين البدايات، النهايات، الحياة والموت، تحضر أيضاً في القصيدة التالية في المجموعة بعنوان (للموت أشكال كثيرة). فإن كانت القصيدة السابقة ترسم عالماً جماعياً، فإن هذه القصيدة تختص بتجربة الموت الفردية، ولتقدم تنويعات على الموضوعات ذاتها: "للموت أشكال كثيرة، منها الحنين إلى الحياة، وأنت فيها راكدٌ مثل الظهيرة". الموت هو بحث الفرد عن الحياة وحنينه إليها بينما هو في صلبها، الموت مرتبط بحال نفسية وذهنية داخل الوجود إذاً، هكذا يبني الشاعر العلاقة بين الموت الحياة والوجود، لتبلغ القصيدة نهايتها بالقول: "للموت أشكال كثيرة، ما ليس منها أن تباغتك النهاية، حين تسعى للبدايات الأخيرة". إذاً الموت هو ليس تلك النهاية المباغتة، الموت أعقد من ذلك، إنه الحنين إلى الحياة بينما الفرد مايزال يمارس الوجود.
-
(الدرب مسامير، منار سهران شلهوب، 2016): صداقة الحرب، أو الجسد الممتزج بألم المدينة
حضور الحرب الطاغي
مع ديوان (الدرب مسامير، منار سهران شلهوب) تظهر تيمة جديدة، هي الحرب. صحيح، أن الدواوين السابقة امتلأت بصور القتل والدمار والموتى والقبور إلا أن موضوعة الحرب لم تظهر في أياً منها، إنه عام 2015، إن الصراع الأهلي المسلح الذي كان يدور في سورية قبل هذا العام أخذ اسمه (الثورة)، لكن مع دخول دول أخرى عسكرياً إلى الساحة السورية، بدأت مفردة الحرب تظهر، لم يكتسب القتال المسلح في سورية لقب الحرب حتى دخلت قوى دولية أخرى إلى الإقتتال الأهلي.
الفن في وجه الحرب، الغناء
في هذه المجموعة الشعرية الحرب ليست موضوعة فقط، بل هي حاضرة في الكثير من الإستعارات، والتشابيه، والأجواء العامة التي تصنع فضاء القصيدة. يظهر ذلك منذ الإهداء في الصفحة الأولى : "إلى الحرب التي شوهت أجنحتي". وبعد الإهداء تحمل القصيدة الأولى اسم الشاعرة نفسها (منار). في هذه القصيدة نتلمس تيمة ظهرت مراراً في الشعر السوري المعاصر، وهي مواجهة السلاح بالفن، فبينما تعرفنا (منار القصيدة) عن نفسها تخبرنا أنها تلك التي إذا واجهت بندقية، ستطلق فيها موال عتابا.
لكن عنوان القصيدة الثانية يعيدنا إلى عمق حضور الحرب، هي بعنوان (ابنة الحرب) وهو تعريف أوضح لشخصية الشاعرة، هكذا يدرك القارئ أن الشاعرة التي تكتب لم تكتشف الحرب وحسب، بل هي ابنتها. ولذلك فإن الحرب ليست موضوعة تطرح نفسها بجدة على ذهن الشاعرة، بل لقد قطعت الشاعرة شوطاً في الإجابة الذهنية على حضورها، إنه الحب. ففي قصائد المجموعة إصرار على أن الحب هو المعادل الموضوعي للحرب، لكن ليس بهذه البساطة، ففي بعض القصائد يتماهى الحب مع الحرب، ليصبحا شيئاً واحد في بعض الأحيان، يتطلب الأمر اكتشاف الحرب للوصول إلى الحب، والعكس كذلك.
الساردة الميتة
قصيدة (ابنة الحرب) نموذج جيد على تلك العلاقة الجدلية المركبة التي ترسمها الشاعرة بين الحب والحرب: "لأني ابنة الحرب، تعلمت منها كيف تشعل الحرائق بكلمة حب واحدة وتنتهي بالموت، لأن الجوع للحب يأكل جسدي". صور مركبة حيث الحرب تشعل الحرائق بكلمات الحب، وتنتهي بالموت، على هذا المستوى التركيبي الذهني ستطالعنا المجموعة بجدلية مفهومي الحب والحرب. لا شك أن الشاعرة تعتقد بأن الحب هو الخلاص، وها هي تعود من جديد لتحاول الحب مرة أخرى، تطرق باب الحب: "لكن هذه المرة رافعة ثوبي عن ساقيّ، كي لا ألوثه بدماء المقتولين". هنا قتلى وموت في فضاء الحب الذي تحاول الشاعرة الوصول إليه، لنكتشف أنها هي نفسها ميتة، تنتهي القصيدة حيث يمضي حبيبها إلى الحرب دون أن يلتفت إلى أنها ميتة. ها هي موضوعة السارد الميت تظهر مجدداً في عمل أدبي جديد، كما رأينا في (لم أتمدد يوماً على القطار، أحمد باشا)، (كمن يشهد موته، محمد ديبو).
العلاقة الجدلية بين الحب والحرب
يبرز الإيمان بالحب كإعتقاد ضد الموت في قصيدة (الحب فقط)، في هذه القصيدة تؤمن الشاعرة أن ليس القدر أو الرصاص أو الدروب ما يفصل بينها وبين الموت، بل هو الحب، وكذلك يعود الفن ليكون فاصلاً بين الحياة والموت: "ما يفصلني عن الموت ليس درباً أو طريقاً، مادام صوت الخلخال في كاحلي يرن، أنا أخطو، أنا أرقص، أنا أرفض الموت". الرقص رفضاً للموت، كما كان الفن سابقاً جواباً على حضور الحرب والسلاح. ومع قصيدة (حب عظيم منتصر)، تدخل الشاعرة الحب في تشبيهات مستمدة من تجارب سياسية، فيها يكون الحب كحلم المعتقل بالحرية، الحب العظيم كثورة.
لكن العلاقة الجدلية بين الحرب والحب التي تطرقنا إليها سريعاً في القصيدة الأولى، تتجلى بأبرز تعقيداتها في قصيدة (سأصادق الحرب)، تقرر الشاعرة مصادقة الحرب للوصول إلى الحب، تبدو هذه المداخلات بين الحب والحرب ممتعة للقارئ، حين يجد نقيضان كالحب والحرب بينهما تداخل شعري وحياتي في نظر الشاعرة: "سأصادق الحرب، وأجمع كل طائراتها، وأكتب على أجنحتها: أحببتك والحرب مشتعلة". بالأسلوب ذاته من الإقبال على الخطر للوصول إلى السلام، في قصيدة (وأنتظر) تنقض الشاعرة على الرصاصة، دون خوف، لتمنعها من قتل النور داخلها.
تروي الشاعرة منار شلهوب كيف أخدت الحرب عيون والدتها، وراحت تلعب بها، مثلما يلهو أولاد الحارة بالحصى، لتنتهي القصيدة بالشاعرة تواسي والدتها بالقول لها: "جميع القلاع يا أمي، في سورية تبكي، جميع القلاع تبكي"
كما الشعراء السابقين تلتصق البلاد بروح الشاعرة في عدد من قصائد هذه المجموعة. في قصيدة (خطايا) تمتلك الساردة 14 عيناً، لها العديد من الألوان، وكل لون منها يرمز إلى مدينة سورية، العين الورقاء حمص، الحمراء حلب، الصفراء درعا، والخضراء إدلب، أما الأسود فهو لون سورية، المكللة بالحزن، والتي تصفها الشاعرة في قصيدة (سكاكر) كونها البلاد التي لا تبيع سوى الرصاص، وهي المكان الذي يمكن الحصول فيه على السكاكر.
في قصيدة (جميع القلاع تبكي)، تروي الشاعرة كيف أخدت الحرب عيون والدتها، وراحت تلعب بها، مثلما يلهو أولاد الحارة بالحصى، لتنتهي القصيدة بالشاعرة تواسي والدتها بالقول لها: "جميع القلاع يا أمي، في سورية تبكي، جميع القلاع تبكي". وهكذا ستحمل الشاعرة البلاد معها بعيداً في قصيدة (ستحمل معك البلاد)، كأن القصيدة تجرب المنفى.
كثرة الموتى والقتلى والضحايا هي موضوعة قصيدة (لم يبق أحد)، حين تقترب الشاعرة من السماء تسألها "كم تريدين منا بعد؟" فتعلل السماء بأن الرب حزين، وهو بحاجة إلى الأرواح، ولأن المدينة خالية، فتضحي الشاعرة بنفسها لكي تروي نهر الدماء الذي يبتغيه الرب.
الغربة والهجرة القسرية
"أبيع قلبي، بشوارع مدينة لا أعرفها، أبيعه، بمئة دولار تقابل حرباً، وأرفع لساني عن ندوبي، أسلمه للغة أجهلها، لكني أظن أنها لن تعكس أي ألم". إن قلب الشاعرة معروض للبيع في بلاد بعيدة، تسود بها لغة عاجزة التعبير عن ألمها، هي صورة للمنفى تخوض في تفاصيل شعور المهاجر قسراً، كما رأينا في قصائد (أحمد الباشا) عن اللانتماء والحنين.
تضم قصيدة (تعب وعتب) أغلب الموضوعات الواردة في قصائد الشاعرة السابقة، ففيها الحب يُغرق الشاعرة ويمنعها الوصال للحبيب، لكنها تدير ظهرها للحرب وتتجاهل ثقوب الرصاص في ساعدها، وتعزف، مرة أخرى التأكيد على قيمة الفن أمام المأساة: "وبملء صوتي أغني، وبملء صوتي أسكت حوامات الطائرات". مرة أخرى، نحن أمام قدرة الغناء أمام الطائرات والسلاح.
الجسد الممتزج بألم المدينة
يحضر الجسد بقوة في قصائد (منار شلهوب)، فمرة ألوان عيونها هي رمز للمدن السورية، ومرة أخرى تقتلع عيون أمها كدلالة على وحشية الحرب، كما أن جناحها مصاب بالرصاص في قصائد أخرى. في قصيدة (من يدي الموت طرت) يصبح الجسد قادراً على حمل مدن الوطن، فتحمل على كتفها الأيسر حمص، وعلى كتفها الأيمن تنوح حمامات الشام. وفي قصيدة (لأجل الندم.. سقوط للأعلى) تحف الشاعرة جسدها بجسد الحرب، لأجل أن تستمر الحكاية، بيضاء ونقية كما بدأت. صورة أخرى عن ضرورة الإنغماس في الحرب، وهنا جسدياً، لأجل التطهر منها.
يحمل عنوان قصيدة (لا أتألم) ما هو جسدي، لكنه حضور جسدي غير فيزيائي، لأن الساردة رغم اعترافها بأنها مصابة بالشلل، كما لغتها، وكما هذي الحرب الرابضة خلف النوافذ، رغم ذلك فإنها لا تتألم، بل تسلم جسدها للذهول. وفي قصيدة (أتمتت العشرين) تروي الشاعرة عن ذاتها وجسدها في أعوام الحرب: "عمري عشرون وحرب، أحلامي كثيرة بعدد الرصاصات". مرة أخرى يحضر الرصاص كصورة جمالية. تبين الشاعرة أن الحرب عرفتها على مدن بلادها: "لم أعرف مدن سورية إلا بعد الحرب، لا أعرف عن الكرد إلا أغانيهم التي تحنو علي، وصور عذاباتهم التي تثقل قلبي المتعب". تصر قصائد (منار شهلوب) على الأمل، ذلك عبر الحب، عبر الفن، عبر الإصرار، وحتى عبر الحلم، هذه الصورة التي تبقى لنا مع نهاية الديوان: "أغمض عيني حتى تعود أحلامي الراحلة، لنيران الحرب أحزاني، وللحب أحلامي". في إصرار على الخلاص من الحرب بالحب، تمنح الشاعرة أحزانها للحرب، على أمل أن تكون أحلامها من نصيب الحب.