(السويداء)، العلى "الشارع المحوري" الشريان الرئيس في السويداء يدخل ناصر إلى إحدى الصيدليات، يشتري كمامة ويضعها في حقيبة الظهر التي يرتديها. ناصر غير مكترث بالإجراءات الوقائية لكورونا، وحين يقترب من ساحة السير وسط المدينة يغطي فمه ووجهه، إضافة إلى نظارات شمسية تخفي عينيه.
يقف على الرصيف ناظراً إلى ساعته التي تشير إلى الحادية عشر إلا ثمانية دقائق، منتظراً وصول عقارب الدقائق إلى الرقم 12 وهو يراقب حركة المارة بقلق وخوف من وجود السيارات الأمنية.
على رأس الساعة ينطلق في الساحة هتاف "مامنحبك، مامنحبك، ارحل عنا أنت وحزبك".
الشعار الذي كان بمثابة صرخة أعلن ولادة المظاهرة فبدأ الشباب المتفرقون عن بعضهم بالتجمع، أخرج بعضهم لافتات وشعارات كانوا أخفوها في حقائب الظهر، أو تحت ملابسهم التي يرتدونها، في حين يقف خلف الجموع شبان يخرجون هواتفهم من جيوبهم ويقومون بتصوير المتظاهرين من الخلف كي لا يتم التعرّف على وجوههم.
تتوحد الصرخات وتتلاصق الأجساد لتتحول إلى كتلة صارخة في أرجاء الساحة بشعارات سياسية تداولها السوريون في مختلف المناطق على مدار تسع سنوات مضت: "الشعب يريد إسقاط النظام"، "ما منحبك ما منحبك ارحل انتا وحزبك"...
البداية من "خنقتونا" و"حطمتونا"
المظاهرات التي أخذت شكل المطالب الخدماتية، بدأت منذ عام 2015 عندما أطلق مجموعة من الناشطين حملة على الفيس بوك بعنوان "خنقتونا" بهدف تحسين الواقع المعيشي في المحافظة، وحاولت الابتعاد عن أي شعارات تستهدف النظام، حين نفذت العديد من الاعتصامات، كان أكبرها في الثالث من أيلول قبل يوم من التفجيرات التي استهدفت حركة رجال الكرامة وقضى فيها مؤسس الحركة الشيخ وحيد البلعوس.
تلا هذه الاعتصامات حملة حطمتونا التي انطلقت في نيسان من عام 2016 استمرت إلى أيار من العام نفسه.
مع بداية العام الحالي، انهارت قيمة الليرة، وتردت الأوضاع الاقتصادية بشكل غير مسبوق، مترافقاً مع ملاحقة الأجهزة الأمنية لشركات التحويل التي لا تلتزم بسعر صرف المصرف المركزي، ما أثر على قيمة المساعدات والتحويلات التي يرسلها أبناء السويداء المغتربين في الخليج وأوروبا، وأدى هذا بالمجمل إلى تراجع المستوى الاقتصادي لشرائح سكانية واسعة في المحافظة، وعجز شبكات التضامن المحلية في المحافظة القائمة على أساس ديني وعائلي عن تقديم يد العون للناس.
هذه العوامل أدت إلى عودة حملة "بدنا نعيش" إلى الاحتجاج في شوارع المدينة التي يشكل الشباب ما دون الثلاثين من العمر النسبة الكبرى منهم، وهم غير محصورين فقط بأبناء مدينة السويداء، بل يشهد حضوراً فعالاً من أبناء الأرياف في المحافظة.
طلاب الجامعات الذين يشكلون عصب المظاهرات في السويداء الآن، لم يكن لهم أي نشاط سياسي منذ بداية 2011. وفي استطلاع أراءهم حول مواقفهم السياسية خلال السنوات الماضية، تبيّن أن معظمهم لم يكن لهم مواقف سياسية، وكان لبعضهم آراء داعمة للنظام، لكن الوضع الاقتصادي والأمني المتردّي دفعهم لتغير مواقفهم.
ناصر البالغ من العمر 21 عاماً، لم يستطع إكمال دراسته في كلية الاقتصاد لعجزه عن تسديد نفقاتها، يقول لحكاية ما انحكت: "خلال السنوات الماضية كنت أشارك في العديد من المسيرات المؤيدة، لم أكن أرى أن البلاد تمشي بالطريقة الصحيحة، كنت متأثراً بالكلام أن هنالك مؤامرة تريد تخريب البلد، الآن أصبحت أنا ورفاقي على قناعة أنه لا يمكن العيش بحياة جيدة ما لم يتغيّر نظام الحكم هنا".
الحاضنة الشعبية مع التظاهر
الأكثر أهمية من تركيبة المتظاهرين، هو مستوى القبول الشعبي الذي أحيطت به، رغم سقفها السياسي الذي بدأ بالارتفاع بداية العام الحالي، في محافظة كانت تسعى القوى المحلية فيها إلى إبقاءها على الحياد طيلة السنوات الماضية، إذ لم يتعرّض المتظاهرون، لمضايقات من الأهالي، رغم عبورهم في مركز المدينة التجاري أكثر من مرة. وقد شهد هذا المركز، محاولات متعددة للتجمع والتظاهر، ما بين العامين ٢٠١١-٢٠١٣، غالباً ما تعرّضت لمواجهات مع التجار والبائعين، ولتهجم من المارة.
عمر الذي خاض تجربة الاعتقال عدة مرات خلال السنوات التسعة الماضية وشارك في المظاهرات الحالية، يقول لحكاية ما انحكت: "من الواجب المشاركة في هذه المظاهرات السلمية ضد النظام، عندما كنا نخرج في السنوات الأولى للثورة، كان معظم الحاضنة الاجتماعية ضدنا في المحافظة، كانوا ينظرون إلينا على أننا دعاة تخريب واضطراب أو عملاء، الآن تغيرت أراء معظم الناس، أجزم القول أن معظم الناس هنا قد لا يؤيدون هذه المظاهرات لكنهم حتماً ليسوا الآن مع النظام ولا يريدون الدفاع عنه."
موقف الفصائل المحلية
الفصائل المحلية في السويداء عزفت عن المشاركة أو التدخل في هذه المظاهرات. مصادر مقربة من حركة رجال الكرامة قالت لموقع حكاية سورية ما انحكت، أن هنالك ضغوطاً روسية مورست خلال الأيام الماضية لضمان عدم تدخل الحركة في هذه الأحداث، بينما تنشغل باقي الفصائل بمهام حماية حدود المحافظة التي تتوزع على جبهتي الشرقية خوفاً من أي هجوم مباغت لتنظيم داعش المنتشر في البادية، ومن الجهة الغربية حيث يحتل الفيلق الخامس 300 دونم من أراضي مدينة القريا بعد هجومه عليها نهاية شهر آذار الماضي راح ضحيتها 10 أشخاص مدنيين.
النظام والأهالي والمتظاهرين
مظاهرات "بدنا نعيش" التي خرجت في السويداء منذ عام 2015، لم تعترضها قوات النظام. وذكرت مصادر من داخل المحافظة، بأن خروج المظاهرات التي كانت تطالب بمطالب اقتصادية، لم تثير انتباه السلطات في دمشق، ولكن ازدياد أعداد المتظاهرين مع بداية العام الحالي ورفع شعارات سياسية كإسقاط النظام والضجة الإعلامية التي حدثت، دفعت النظام إلى اعتقال الناشط رائد الخطيب بعد مشاركته في إحدى المظاهرات، تلاها محاولة النظام اعتقال رواد صادق من قبل الجهات الأمنية بعيد انتهاء المظاهرة، لكن استطاع الفرار بمساعدة الأهالي.
تغير المزاج العام في السويداء، ووقوف الناس بوجه الاعتقالات التي يقوم بها النظام، دفع الأخير إلى إجبار المنتسبين لحزب البعث بتنسيق مع أحد الزعامات التقليدية في السويداء، الأمير حسن الأطرش، إلى إخراج مسيرة مؤيدة للنظام مدعومة بعشرات من قوات حفظ النظام والأمن.
أحد الذين كانوا متواجدين في المظاهرة، والذي رفض الكشف عن اسمه قال لنا: "في العاشر من الشهر الماضي تم الاتفاق على الخروج بمظاهرة في ساحة السير رفضاً للوضع المعيشي والحلول الأمنية التي يقوم بها النظام، على إثرها قام حزب البعث بالدعوة إلى مسيرة مؤيدة للنظام في نفس المكان، قمنا بتغيير المكان خوفاً من الصدام، وهو ما يريده النظام".
تغيير مكان التظاهرة خوفاً من الصدام لم يمنع النظام من تنفيذ حملات اعتقال. ففي 15 الشهر الجاري، خرجت مسيرة مدججة بالأمن وقوات حفظ النظام، قامت بالاعتداء على المتظاهرين واعتقال 10 من المشاركين في المظاهرة.
بانتظار المعتقلين
داخل أروقة القصر العدلي في السويداء، يقف أهل وأصدقاء المعتقل بشار طربيه في بهو القصر على أمل تحويل المعتقلين إلى القضاء. يقول ربيع لحكاية ما انحكت، وهو بانتظار وصول حافلة الموقوفين على أمل أن يكون صديقه بشار بينهم: "لم يقترف المعتقلون أي ذنب، جميعنا شاهدناهم على شاشات الموبايل، لم يعتدوا على أحد. فقط طالبوا بحقوقهم بصوت عال، فتم سحلهم وضربهم واعتقالهم".
يتابع ربيع : "منذ أسبوع، ونحن كل يوم نأتي إلى القصر العدلي على أمل تحويلهم إلى القضاء، دائماً يتم تهديدنا بأنه سوف يتم أخذهم إلى الأفرع الأمنية في دمشق، لو تم ذلك يعني أن هنالك 10 شبان سيفقدون حياتهم فقط لأنهم طالبوا بحقوقهم بالعيش". ولكن تم تحويلهم إلى دمشق، فكيف يرد المتظاهرون والأهالي؟