من ملامح الشعرية السورية المعاصرة (2 من 2)

المجزرة تبتسم عميقا في الذاكرة


لابد أن تحمل أية تجربة سياسية، اجتماعية، ثقافية، بحجم الحدث السوري خواصاً جديدة للشعر المواكب لها، وقد تجلى ذلك بالإنتاج الأدبي والفني السوري منذ عام 2011. في هذه المادة يحاول الكاتب والناقد علاء رشيدي تلمس بعض خواص هذه الشعرية الجديدة في قصائد خمس من الشعراء والشاعرات المعاصرين/ات: أحمد باشا، عمرو كيلاني، منار سهران شلهوب، وداد نبي، رولا حسن.

25 حزيران 2020

علاء رشيدي

قاص، مدرب إعلامي، وناقد فني. صدرت له مجموعتان قصصتيان "اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد، 2014"، و"فانتازيات اللهو بين السحر والحكاية، 2017". مدرب على تقنيات الكتابة الصحافية والتحرير الإعلامي. يكتب في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية في مجال الصحافة الثقافية والنقد الفني.

هذه قراءة في خمسة دواوين شعرية نشرت ضمن (سلسلة شهادات سورية) المنشورة من قبل (بيت المواطن)، والتي بلغت الثلاثون مطبوعة، تنوعت بين الشهادات، المقالات، القصص، والدواوين الشعرية. تمثل هذه الدواوين المنشورات الشعرية ضمن الثلاثين كتاباً الصادر عن سلسلة شهادات سورية، وتمتد في زمن نشرها بين 2014 وحتى 2018، مما يجعلها قادرة على عكس التجربة السورية منذ العام 2011، ويسمح لنا بتلمس كرنولوجي لتمظهراتها في القصيدة السورية المعاصرة.

حاولت أن أميز مجموعة من الموضوعات التي تجلّت في عدد من القصائد، وقد حاولت أن أجد لها عناوين يمكن للنقد الحديث عنها، فكان منها:

  • الخيال المسكون بالسلاح والرصاص.
  • حضور الموت، وتزايد مستمر لجموع القتلى.
  • الفضول تجاه القاتل، ومساءلته أخلاقياً وإنسانياً.
  • حضور الحرب.
  • الفن في وجه الحرب: يحضر الغناء، الموسيقى، الرقص كأفعال نقيضة للحرب.
  • السارد الميت: والمقصود هو أن الشاعر، أو الراوي في القصيدة يكتشف موته.
  • حضور المجزرة بأنواع متعددة من الأسلحة، تبدأ بالرصاص، ثم بالطائرات الحربية، وصولاً إلى الكيماوي الذي يتسلل هواء القصائد.
  • البدايات الجديدة محكومة بالموت، والتاريخ يضمن استمرارية القاتل.
  • العلاقة الجدلية بين الحب والحرب موضوعة تكررت بتنويعات متعددة في تناولها من التضاد، إلى التكامل والامتزاج، إلى الرابط الوجودي بينهما.
  1. (الموت كما لو كان خردة، وداد نبي، 2016): المجزرة تبتسم عميقاً قي الذاكرة

    من ملامح الشعرية السورية المعاصرة (1 من 2)

    16 حزيران 2020
    لابد أن تحمل أية تجربة سياسية، اجتماعية، ثقافية، بحجم الحدث السوري خواصاً جديدة للشعر المواكب لها، وقد تجلى ذلك بالإنتاج الأدبي والفني السوري منذ عام 2011. في هذه المادة يحاول...

يحضر الموت في عنوان هذه المجموعة الشعرية وإن كان يحمل سخرية من الموت، إلا أنها إشارة أيضاً إلى تراكم الموت الكثيف في زوايا المدينة كما الخردة. وكما في المجموعات الشعرية الأخرى هناك الحديث عن الحال الجمعية، عن القوم الذين تصف الشاعرة بالحديث عنهم حال البلاد. لكن ما يميز أسلوب (وداد نبي) هو نبرة جريئة في إدانة البلاد نفسها، الثقافة التي تمجد القاتل، التوابيت التي تتطلب إذناً رسمياً للموت فيها، لم تعد البلاد تلك المفردة المثالية المنزهة بالمشاعر عن الإنتقاد، بل كل الثقافة أصبحت في موضع الإتهام: "البلاد التي منحتنا أسماء كئيبة، وأمهات قلقات، ونشيداً وطنياً يمجد القاتل، بعد ربع قرن وحرب، هل ستمنح توابيتنا تصريحات عبور؟". إنها التوابيت هاجس البشر القاطنين في بلاد يمجد نشيدها الوطني القاتل.

تبرز في هذه المجموعة، كما ليس في سابقاتها، موضوعة الرحيل، المنازل المهجورة، الأماكن المتروكة. عنوان القصيدة الثانية تكثيف دقيق لهذه الموضوعات في عبارة واحدة، عنوانها (المكان مضاء بالذكرى): "الأسى، هو أن تزور أنقاض بيتك في الحلم، وتعود منه وقد علق الغبار على يديك". إن المنازل تزور الراحلين في مناماتهم، في إشارة إلى الحنين، رحل الجيران كذلك: "الرقة، هي أن تسقي الأزهار الذابلة في حديقة الجيران لأن زهور بيتك ماتت جفافاً تحت القصف". والمنازل خلت من قاطنيها: "يدك العالقة على جرس بيتك القديم، من يخبرها: المنازل ليست لمن رحلوا عنها". والعتمة تنمو في المنازل المهجورة، كعشب نيسان، حيث المكان مضاء بالذكرى، كما هو عنوان القصيدة.

لهفة المنفي إلى المعاني الجديدة

أما في قصيدة (خمس قصائد لحزن قديم)، فكل النوافذ أغلقت، بغبار الجنود الذاهبين إلى الحرب، وحدها النافذة التي تطل على الذكرى، مفتوحة للشمس. الذكرى وحدها هي المستقبل المحتمل، إنها صورة عن الحنين المشتهى فيه أن يكون المستقبل فيه ماضياً.

(الذكرى وحدها هي المستقبل المحتمل في قصيدة الشاعرة السورية الكردية وداد نبي، إنها صورة عن الحنين المشتهى فيه أن يكون المستقبل فيه ماضياً)

تتكرر تيمة الرحيل في قصائد المجموعة كما في حياة السوريين، تحكي الشاعرة عن امرأة سيئة بلا ملامح تبيع جسدها على رصيف مزدحم في برلين، صورة تذكر بقصيدة (منار شلهوب) عن الجسد التائه في شوارع مدن جديدة، مغترب عن اللغة. في قصيدة (قبل الثلاثين بقليل، قبلني)، تجلس الشاعرة أمام حديقة صباح جديدة، لا تعرف شيئاً عن مدنها السابقة التي طحنتها الحرب. وفي (قصائد تطير بإتجاه الجنوب) ليس للشاعرة أرض لتدفن فيها، تركت أرضها وبيتها في مكان بعيد تتقاذفه الحروب، وأمراء السلاح والحاكمون بأمر الرب، على حسب تعبيرها. كذلك يطالعنا عنوان إحدى القصائد جازماً على صعوبة الإنتماء إلى مدن المنافي القسرية، لتحملها عنوان جازماً (لا قلب لك في المدن الغريبة)، فيها ترصد الشاعرة برهافة مشاعر الغريب الذي يحاول أن يؤسس مدينة جديدة، يبحث فيها عن ذكريات ومغامرات، واحتمالات جديدة، وهي صورة نفسية وذهنية لماحة، لكن بحة من الوجع ما تزال تصاحب حنجرة الغريب:

اللون الخاكي للإهانة

04 أيار 2019
عاصر جيل من السوريين حصص مادة التربية العسكرية في المنهاج الدراسي، فما الذي حفرته في أذهان السوريين؟ وأية أثار تركت؟ الكاتبة والشاعرة السورية وداد نبي، تكتب شهادتها عن "الإهانة" التي...

"تمشي طويلاً

كأي غريب يؤسس مدينة

تسرج قلبك بالمعاني الجديدة

بالغموض الكائن في بشرة الغرباء

بإخفاء بحتة الوجع في لكنتك الجديدة"

السؤال عن هوية القاتل

في (لم أتمدد يوماً على سكة القطار) يتساءل أحمد باشا عما يبحث عنه القناص، أما في قصيدة (الجنود طرائد لا تنام)، تخصص الشاعرة (وداد بني) هذه القصيدة لترسم حياة، وشخصية، أفكار وأحلام، جنود الحرب، تتساءل إن عرفوا الحنان يوماً؟ هل ولدوا أطفالاً صغاراً ببشرات ناعمة؟ هل لعبوا ألعاب الطفولة مع عائلاتهم، كيف لهم الآن أن يضغطوا على أزرار الطائرة لترمي البراميل على الأحياء السكنية والحدائق والمشافي؟ هل كانوا مراهقين يغازلون صديقاتهم في الأزقة الضيقة؟ كيف لهم الآن أن يردّدوا الموت، الموت لصديق الأمس، صديق العمل والطفولة والدراسة، كيف حوّلوا بنت الجيران الجميلة تلك التي غفت على أكتافهم في باص المدرسة إلى عدو؟، وتطرح الشاعرة في نهاية القصيدة سؤالها عن العدالة الأخلاقية: "الجنود، الذين يخوضون الحرب، بلا ذاكرة، هل سيكبرون يوماً، يصبحون عجائز وحيدين، تسقط منهم دمعة كبيرة، تدعى الندم؟"

درب الحب يعبر الحرب

تأخذ العلاقة الجدلية بين الحرب والحب في قصيدة (لا أحمل اسمك)، بعداً أوسع من كل ما حضر سابقاً، لم تعد الحرب حاضرة، والحب غاية لتجاوز نتائجها، بل للحرب غايات جديدة كما سنرى:

"لأصل إليك

ولدت الحرب الطويلة في بلادي

هربت بقلب جريح ومهجور

من كل ما أحببته هناك

لأتوسد عشب الألفة للمدن الغربية

التي تنتمي إليها

هجرت أمي

قطعت سبع دول

قشرت ملح الأجساد التي أحببتها عن جلدي

فطمت فمي عن حليب أمي والحنين

أضعت صورة أبي في البحر

لوحت للموت مراراً

بجبهتي التي أحرقتها شمس اللجوء

فقط لأصل إليك

لأعانقك مرة واحدة

بهشاشة الناجين من الحرب".

كما نرى، فإن الحب والحرب لم يعودا على تضاد، فهنا ولدت الحرب لكي تصل الشاعرة إلى حبيبها، وكل آثار الحرب وما تدفع الأفراد بالإجبار على القيام به، مثل: الهروب، الهجرة، الغربة، السفر عبر البحر والموت، هي كلها ليست أفعال إجبارية تفرضها الحرب وحسب، بل هي وسيلة للعبور نحو الحبيب، مرة أخرى تتكرر مقاربة الإنغماس في الحرب للوصول إلى الحب.

في قصيدة (الجنود طرائد لا تنام)، تخصص الشاعرة وداد بني هذه القصيدة لترسم حياة، وشخصية، أفكار وأحلام، جنود الحرب، تتساءل إن عرفوا الحنان يوماً؟ هل ولدوا أطفالاً صغاراً ببشرات ناعمة؟

تكثر قصائد التغني في الحب وقدراته وتأثيره في المجموعة، قصائد عديدة بعناوين: (لأنك معي أيها الحب)، (يحبني عشرون رجلاً)، (لا يموت الحب ككلب عجوز)، (قلبي المتسخ بالحب)، وفي قصيدة (طرد بريدي مستعجل) يظهر الحب مجدداً كوسيلة خلاص في وجه الموت: "اختبأت بإسمك، حين بحث عني القتلة، ليقنصوا الحرية من شفاه قصيدتي، كان اسمك سياجاً شائكاً أمام أقدامهم المدججة بالبارود". أما في قصيدة (حينما يكون الحب)، فللحب تلك القدرة على الخلاص من سطوة التاريخ: "حينما أحب، أخلع عباءة التاريخ، تاريخ العائلة والبلاد والحرب، وأرتدي قميصاً أبيضاً فضفاضاً".

الرياضيات وقوانين الهندسة لقياس الموت

كما في كل الشعر السوري منذ 2011، يتكاثر القتلى والموتى والجثث على مدار القصائد كما هو  الحال على الأرصفة وفي الشوارع، ويتحول الموتى إلى أرقام، تنجح الشاعرة وداد بني في تحقيق قصيدة عن تلك الهوية الرقمية للضحايا، تدمج في نص قصيدتها أرقام موثقة، ومع العلاقة المستمرة مع الأرقام تصبح كارهة للرياضيات، لأن الأرقام يعنون الآن ضحايا، أو مسافات الفراق والبعاد. تكاثر الموت حتى لم تعد الأرقام إلا إشارةً إلى الضحايا، حتى قوانين الهندسة، نجدها في لغة وداد نبي، وقد تحولت إلى قوانين وقواعد لقياس طول الموت، والجثث المستسلمة لنهش الديدان. هذه القصيدة بعنوان (الأرقام كما لوكانت ثمانين عاماً من الحب):

نساء البشتون السوريات

23 أيار 2018
بعض النساء بعد وصولهن لألمانيا رمين خواتم زواجهن في نهر الراين لينهوا بذلك سنوات طويلة من المعاناة مع زوجٍ لم يستطع يوماً أن يكون شريكاً حقيقياً

" 50 زهرة نرجس برية تفتحت قرب مقبرة

191 ألفاً و369 شخصاً قتلوا في سورية

2015 ألف سوري في معتقلات النظام

350000 لاجئ نزحوا من مدينة كوباني

365 قرية في كوباني مهجورة مع مقابرها

456 سورياً غريقاً في بحار الموت

أكره الأرقام

أيتها الرياضيات البليدة

الرقم 3

المسافة التي تبعدني عن حلب وأمي

الرقم 4

مسافة الكليومترات بيني وبين كوباني

الرقم 4

دونت سطري الثالث على باب المقبرة

وكل رقم يضيف روحاً قتيلة في بلادي

من نقطة يمر أيضاً مستقيمان:

واحد لقياس طول الموت

والآخر لقياس طول الديدان

وهي تنهش جثث القتلى".

إشكالية الحرب والذاكرة

يحمل ديوان (وداد نبي) موضوعة لم تظهر بوضوح في الدواوين السابقة، وهي إشكالية الحرب والذاكرة، تحاول الشاعرة التطرق إلى هذه الإشكالية في موضعين، في قصيدة (طرود لعناوين مختلفة)، نسمع الشاعرة تتساءل: "هل نجونا؟! لا أحد يعرف، فالحرب لا تزال مقيمة هناك في ألبوم صور العائلة". إذاً لا زوال للحرب، بل تصبح جزءاً من الذكرى. مرة أخرى ستتطرق الشاعرة للحرب والذاكرة في واحدة من أبرز قصائد المجموعة، قصيدة (المجزرة تبتسم).

تكاثر الموت حتى لم تعد الأرقام إلا إشارةً إلى الضحايا، حتى قوانين الهندسة، نجدها في لغة وداد نبي، وقد تحولت إلى قوانين وقواعد لقياس طول الموت، والجثث المستسلمة لنهش الديدان

تحمل هذه القصيدة شعرية مميزة من حيث المبالغة بالكوميديا السوداء، والقدرة في تجسيد المجزرة على أنها شخصية اجتماعية، لقد امتد حضورها في الإعلام، في وسائل التواصل، في الأخبار وفي الحياة اليومية، متروكةً لشأنها الخاص، وهي تحصي قبور الضحايا، في مقطع شعري مكثف تدمج الشاعرة التهكم، بالحقيقة القاسية، ومن ثم بموضوعة أرقام وأسماء الضحايا التي تعيدنا إلى المأساوي، فلكل ضحية اسم وحكاية:

"المجزرة تبتسم

فصورها منتشرة بكثرة على صفحات الجرائد والمجلات

نشرات الأخبار ومواقع التواصل الإجتماعي

المجزرة هاتفها مغلق

للمجزرة شأنها الخاص بوضع الأرقام على قبور ضحاياها

لكن لمجزرة كوباني أسماء أيضاً

وليست أرقاماً فقط

تدل على الضحايا

لكل ضحية اسم يبتسم

فالمدينة صغيرة والجميع يعرف الجميع

لا قتيل فيها مجهول

كل قتيل له أحبة وأصدقاء".

وكما أشرنا سابقاً في هذه القصيدة تتطرق الشاعرة مجدداً إلى العلاقة الإشكالية بين الحرب والذاكرة. في المرة الأولى تحولت الحرب إلى صورة بألبوم الذكريات، ولكن هذه المرة ستحتل المجزرة كامل ذاكرة المدينة، ورائحة الضحايا ستختلط مع أغنيات الضحايا، حتى تصبح الذاكرة عبئاً، تطلب الشاعرة الخلاص منه. فالحقيقة، أن المجزرة لا تأبه بالذاكرة، بل بالسكاكين والمقابر، وفي تكثيف موضوعاتي أيضاً، الذاكرة، المجزرة، بموضوعة تطرقنا لها عدة مرات في دواوين سابقة، وهي السارد الميت، لتنهي القصيدة مع اكتشاف المخاطب، بأن قلبه قتيل، لم يعد السارد ميتاً وحده عند نهاية هذه القصيدة، بل المخاطب، القارئ:

البقجة الناجية من الحرب

11 تشرين الأول 2019
حين يحلّ السلام وتغادر الحرب إلى غير رجعة، ستكون النساء قادرات على رواية الحكاية كاملة، الحكاية التي يخبّئنها داخل بقجتهن الحريرية، وهن هاربات من الموت والدبابات والقصف والفناء. هنا مقال...

"المجزرة تبتسم

فمن يرفع بعد اليوم عبء الذاكرة عنا؟

 

للمجزرة ذاكرة المدينة

فمجزرة كوباني تحفظ رائحة ضحاياها

أغنياتهم المحببة.

 

ليس للمجزرة أسماء وذاكرة فحسب

للمجزرة سكين حاد يقفأ قلبك

ويتركك كحجر شاهد قبر بلا اسم

أمام المقبرة

وتظل المجزرة تبتسم وتبتسم

حتى تلتقط لها صورة حزينة

حزينة

كقلبك القتيل".

  1. (الحرب مرت من هنا، رولا حسن، 2018): الوجود الغارق بالخيبة، والطبيعة بخواص المعدن:

ديوان (الحرب مرت من هنا)، عدا عن فقرة افتتاحية بعنوان (بورتريه امرأة سورية) لا تتجاوز بعض الأسطر، فإن الجزء الكامل للديوان هو عبارة عن 42 مقطعاً من قصيدة واحدة طويلة، تحمل عنوان (إحداثيات حب-حرب)، ما يحمله كجديد، هو تجلي قوي لمشاعر الخيبة، الإنكسار، كما لم نقرأ من قبل. فرغم الموت والمأساة، لم تتبلور مشاعر الخيبة، أو الخسارة في الأدب السوري بوضوح إلى في الفترة الأخيرة، وحتى وإن كانت القصائد أو الروايات لا تهتم بمعالجة موضوعة الخسارة والنصر، إلا أن حساً، وكذلك فكراً، لا يتجلى بالتعبير عن الهزيمة والخيبة مباشرةً، لكن تظهر تجلياته بالإيمان بالعبث، باللا جدوى، أو بلا أخلاقية العالم، وغياب العدالة، وهي كلها تجليات لمفهوم الخسارة أو الخيبة. لنتأمل عنوان هذا المقطع من قصيدة (رولا حسن)، (ذئاب الظل)، كائنات سوداوية موحشة، لنقرأ في المقطع الشعري، مفردات مثل: غيمة رصاص، تهدم ألفة البيوت، ذكريات محصورة في العيون، وانكسار حياة على الدروب.

(في ديوان "الحرب مرت من هنا" لرولا حسن، لا نقاش عن النصر والهزيمة، بل إحساس باللا جدوى)

المطر بخواص المعدن، والخراب بخواص الطبيعة

مع ديوان (الحرب مرّت من هنا)، لا نقاش عن النصر والهزيمة، بل إحساس باللا جدوى، لكن أيضاً حتى شعرية المؤلفة (رولا حسن)، نراها تستعمل صوراً منبثقة من تجربة السلاح، الدمار، الخراب، حتى الطبيعة يمكن لها أن توصف بالمعدنية، فالغيمة تمطر رصاصاً، والخراب سيزهر:

"وحدها غيمة الرصاص

تمطر

ألفة البيوت

التي تتهدم

تسقط

في قلبي.

الأهل يوضبون ذكرياتهم

في العيون

بينما حياتهم

تتكسر على الدروب".

هذه الصور الشعرية لا تحمل فقط شحنة مشاعرتية، بل أيضاً فلسفة تشاؤمية. في قصيدة لوداد بني يصبح الوقت خادماً للموت، وهنا في قصيدة (رولا حسن) الوقت هو خادم للخراب، في قصيدة (حب في دمشق القديمة)، يظهر سؤال اللا جدوى، واليأس بوضوح:

الفن والمجتمع في سورية.. ملامح أولية

28 شباط 2019
دفعت الحالة السورية الاستثنائية، منذ ربيع 2011، إلى طرح السوريين، ومن بينهم الفنانون، أسئلةً جذرية حول معاني الهوية والانتماء والعمل الفني. أتت هذه الأسئلة مرفقة بسيرة الفنان الشخصية وصلته الحياتية...

"المدن تتسع

وقلوبنا تضيق

إلى أين نمضي

والخراب

يزهر في الوقت".

لقد انتصر الخوف، والشك بالذات وقدرتها على المتابعة، في الفقرة التي تختارها الشاعرة لتكون على الغلاف الخلفي للديوان، تفقد الخطوات إمكانية قدوم الجديد أو اكتشاف المغامرة، أي خطوة هي خوف من انكسار جديد:

"وأنا أحصد بيادر الخيبة

كأني

خرجت من الحرب

للتو

أخاف في كل خطوة

أن أنكسر؟".

هذه المشاعر ليست أحكاماً عقلية يستشفها القارئ من آراء الشاعرة، بل التواصل بين القارئ والقصيدة أقرب للبوح، يحمل صدق البساطة، وبالتالي تمكن من القارئ تلمس حقيقة التجربة التي تعيشها الشاعرة، دون أن يشعر بأنها تقدم له استنتاجاتها. بين الحين والآخر، تعيد الشاعرة وصف تجربة الحرب على جوانيتها وبواطنها، ومع الفقرة 7 من القصيدة يمتلك الرصاص خواصاً من الطبيعة، فينبت كأنه كائن حي، ينبت تحديداً كالعشب:

الفن السوري: روايات عن الأمل واليأس والثبات

17 كانون الأول 2016
تحلل نتالي روزا بوخير في هذا المقال رحلة الفن السوري من زمن الاستبداد إلى زمن المنفى اللبناني، معرجة على حكايا الفنانين في ظل الاستبداد قبل عام 2011 وفي ظل الثورة...

"الحرب

طاحونة دائمة الدوي

في رأسي

الرصاص

حولي ينبت

كالعشب".

الذاكرة صدئة تنشر الموت

تحرص الشاعرة على وصف تفاصيل الحياة اليومية، في نهارات الحرب الشاسعة، تغيب الشمس، بين الراغبين بالتواصل ألف حاجز حاجز، وموت ورصاص، يفقد سكان الحرب بيوتهم، ذلك متخيل، لكن لا أماكن للذهاب إليها، ولا مواعيد مع الزمن: "لا بيوت لنا، ولا مواعيد، شرعتنا الحرب على العاصفة والإحتمال". تشرع الحرب على الفوضى على التشرد، وبالتالي على الإحتمالات، توضحها الشاعرة كأنها احتمالات محايدة لتنهي الفقرة بإحتمالات. لا تأخذ هذه الإحتمالات منحىً كارثياً بالضرورة، بمقدار ما هي احتمالات حكائية.

الصور التي توظف الزمن لخدمة الموت والخراب، مؤثرة بقدرتها على تصوير العبث واللاجدوى ولا إمكانية للخروج

الصور التي توظف الزمن لخدمة الموت والخراب، مؤثرة بقدرتها على تصوير العبث واللاجدوى ولا إمكانية للخروج، فرأينا سابقاً: الوقت في خدمة الموت، الوقت في خدمة الخراب، ومرة أخرى : "أمسح غبار الوقت، عن الوجوه، أراقب الموت، وهو يعلب الحياة، في ماركته المسجلة". ومع هذه التجارب الوجدانية، تزداد احتمالية إفراغ الحقد ومشاعر الكراهية في المدينة-البلاد، بعد أن كانت المدن البلاد في الدواوين السابقة شبه مقدسة، دوماً تشعر لها القصيدة بالعواطف المثالية، هنا مع (رولا حسن)، يمكن للحقد أن يُفرغ في رصاصة في صدر المدينة-البلاد.

في المقطع 30 من القصيدة، بعنوان (ذاكرة من الحرب)، نتابع مع رولا حسن موضوعة بدأت تتشكل مع القصائد السورية المعاصرة، وهي العلاقة بين الذاكرة والحرب، وبينما في القصائد السابقة كان ألم الحرب يماحك الذاكرة، فإن الذاكرة هنا هي الصدئة، والضباب الذي يتسرب منها هو جالب الموت، الموت يصور هنا على أنه وجوهاً بلا عيون، وأعناق تطفو على الماء:

"الذاكرة

صدئة

كذاكرة سمكة

الضباب يتسرب

من الشقوق.

 

يترك وجوهاً

بلا عيون

وأعناقاً تطفو

على الماء

مدن

مسورة بالقلق

تموت في النهار".

العيون المكتظة بذكريات مدن منهوبة

تنتهي الفقرة رقم 30، بوصف المدينة بالقلقة الميتة نهاراً، مباشرةً يليها وصف للمرأة بما هو مماثل من حيث إظهار القباحة، القسوة، فالمرأة لم تعد صورة للعشيقة، إنها تلاحق الشاعرة، جعلت الحرب لصوتها رائحة البارود، وامتلأت عيناها بتجارب تأمل المدن المنهوبة: "تلك المرأة، تلاحقني، لصوتها رائحة البارود، في عينيها مدن منهوبة، وأغنيات، لم حولي تدور؟". هذا النفور من التواصل مع امرأة تلاحق الشاعرة، يشير إلى نوع من العزلة التي تحكم العلاقات الإنسانية. وهذا ما تختم به الشاعرة (رولا حسن)، إحداثياتها حب-حرب. تعيدنا إلى يوميات الأنثى العاشقة، تؤكد لنا ماهو مدرك مسبقاً، ففي الحرب لاوقت للتزين، وبالتالي لا قبلة على الرقبة، لنصل إلى نهاية تلك العلاقة الجدلية بين الحب والحرب، فالشاعرة (رولا حسن) تجزم: (في الحرب، الحب وحيد، وخاسر كجيش مهزوم)، كل التنويعات السابقة بين الحرب الضرورية للحب، والحب النجاة الوحيدة أمام الحرب، تنتهي عند (رولا حسن) بالجزم بصورة حتمية الحب يأخذ صورة الحرب، وينهزم كجيش.

هل النهاية بهزيمة الحب أمام الحرب هو خيار رولا حسن؟ لا يمكن لنا الجزم، لأن الفقرة الأخيرة رقم 41، تحمل إشارة يصعب الجزم بالأمل بالمستقبل الذي تحمله، فهي إن تعد بمستقبل لكنه غير مؤكد الآثار. تقول الشاعرة لحبيبها: "وحدها ملامحك، تنبت على جسدي كالعشب، وحدها ملامحك، تماماً كبلاد خرجت لتوها من الحرب". لتتركنا القصيدة بتردد الحسم: هل سينبت الحب على الجسد كالعشب ؟ أم أن البلاد الخارجة لتوها من الحرب هي تشبيه عن اليأس واستحالة التعافي. تكشف لنا هذه القصيدة إذاً، علاقة جديدة بين الحب والحرب، حيث الحاجة إلى التعافي المتبادل.

خاتمة

حاولنا من خلال التعرف على قصائد خمسة دواوين شعرية سورية منشورة بين عامي 2014- 2018 على الموضوعات الأساسية التي تشغل القصيدة السورية في المرحلة الراهنة، وتلمس بعض الخواص الشعرية التي تشكل عنصراً جامعاً بين أكثر من تجربة إبداعية. كما حاولنا الإضاءة على أسلوبية شعرية تشكلت استعاراتها، تشابيهها، وصورها الشعرية تحت ظل التجربة التي تعيشها البلاد منذ عام 2011. ولابد من القول، بأن (سلسلة شهادات سورية) تشكل مادةً هامة لتتبع التجربة الإجتماعية، السياسية، الثقافية، والفنية التي تعيشها سورية.

مقالات متعلقة

تركيا تكتشف الفنانين السوريين

08 كانون الثاني 2017
هجرة السوريين (أو تهجيرهم) الكثيفة نحو الخارج خلقت واقعا جديدا في عدد من دول اللجوء، حيث حمل هؤلاء خبراتهم إلى أراض جديدة وبدؤوا من الصفر. الفنانون السوريون، جزء من الشعب...
السينما السورية: الصورة في زمن التحولات (11)

14 نيسان 2020
الوعي والإحساس بأهمية الصورة ـ الوثيقة، في المأساة السورية، كفعل مقاوم ضد الزمن، هو الذي سيحررها لاحقاً من الضرورة التي جعلتها طرفاً في الصراع، لتصبح شهادة تساعد في فهم نشأته...
اغتراب السينما السورية (8)

10 شباط 2020
لعل ما هو أكثر إحباطا فيما يتعلق بالسينما السورية، هو أن الجمهور الأكثر صلة وقرابة لهذه السينما لدرجة التماهي، هم آخر من سَيتسنى لهم فرصة المشاهدة. كما أن تلك الفرصة...
"إلى سما" وصناعة الأفلام السائدة (١٣)

14 أيار 2020
إن فيلم "إلى سما" هو النموذج المثالي لفيلم فني هادف تمكّن من استقطاب الجمهور العالمي ونجح على شباك التذاكر. ولكن لماذا إذن، يتركني هذا الفيلم غير مقتنعة، لا بل باردة...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد