(ملف "أصوات كويرية". بإداة وإشراف المحرّر الضيف، فادي صالح، وينشر هذا الملف بدعم من مؤسسة: Hannchen-Mehrzweck stiftung)
في ظل قرابة عقد من الثورة وما تلاها من نزاعات وحروب، ما زال الفضاء العام السوري بكافة أطيافه يعاني من الشح في الكتابة، التوثيق، الأرشفة والعمل السياسي الجدي في المواضيع المتعلقة بالحريات الجنسية والجندرية للمثليين (gay)، المثليات (lesbian)، مزدوجي/ات الميول الجنسي (bisexual)، العابرين/ات جندريا أو الترانس (transgender)،[1] وثنائيي/ات الجنس أو متعددي/ات الخصائص الجنسية(Intersex) ،[2] والكويريون/ات (Queer)، ما نشير إليه في دوائر المجتمع المدني الكويري في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجتمع الميم – عين.[3]
وفي خضم المحاولات الكثيرة وغير المسبوقة للعديد من منظمات ومبادرات المجتمع المدني لبناء ذاكرة بديلة ومراجعة التاريخ السوري الذي تلقناه في مدارس وشوراع وإذاعات وشاشات وصحف وكتب وجامعات نظام الأسد، ما تزال المواضيع المتعلقة بالجندر والجنس والجنسانية والرغبة أكثر من ثانوية، لا بل لا تزال مغيّبة كليا عن مشروع تذكر الماضي بشكل مختلف وبناء أرشيف بديل. وبالنظر إلى القراءات والتحليلات التي تعالج الحاضر والمعاصر والآن، يبدو أن الحاضر ليس لنا نحن أفراد مجتمع الميم – عين، حيث أن أي محاولة لطرح فكرة سياسية كويرية، أو انتقاد للسياسات القائمة من منظور كويري، أو الاحتفاء بنجاح صغير أو الكتابة عن الحياة الشخصية، أو الإعلان عن هوية جنسية أو جندرية، أو مشاركة علم قوس قزح أو حتى الحزن العلني والترحم على ميت من أفراد الميم - عين تقابل بأقسى أنواع الاستقصاء، فمكانك ليس هنا، ووقتك ليس الآن. ولما كنّا غير مرحّب بنا في مشاريع إعادة سرد الماضي، ولا مكان لنا في أيّ من مقاربات الحاضر، فمن البديهيي لنا أن نحلم ونتأمل ونتوقع أن يكون لنا مكان في المستقبل. ولكن مسحة صغيرة للعديد من التخيّلات الموجودة لبناء دولة سورية مستقبلية ترينا أنّ المشكلة ليست فقط في أنها لا تشمل الميم – عين، بل في عدم قدرتها على تفكيك كل ما تعلمناه عن الجنس والجندر والجنسانية كظواهر أساسية في المجتمع وإعادة تخيّل الخطابات والحقوق الجنسية والجندرية كون جميع أطياف المجتمع وأفراده معنيون بها، من دون استثناء وعلى اختلاف انتمائاتهم السياسية والدينية والاقتصادية والعرقية والإثنية واللغوية.
ولما كنّا غير مرحّب بنا في مشاريع إعادة سرد الماضي، ولا مكان لنا في أيّ من مقاربات الحاضر، فمن البديهيي لنا أن نحلم ونتأمل ونتوقع أن يكون لنا مكان في المستقبل. ولكن مسحة صغيرة للعديد من التخيّلات الموجودة لبناء دولة سورية مستقبلية ترينا أنّ المشكلة ليست فقط في أنها لا تشمل الميم – عين، بل في عدم قدرتها على تفكيك كل ما تعلمناه عن الجنس والجندر والجنسانية كظواهر أساسية في المجتمع وإعادة تخيّل الخطابات والحقوق الجنسية والجندرية
وإذا أخذنا هذا التحليل العام لمكان الحريات الجنسية والجندرية في الفضاء السوري العام كنقطة بداية للنقاش، فلنا أن نسأل: كيف يمكن لنا أن نضع الجندر والجنسانية في وعلى خارطة الخطابات السياسية، الإجتماعية والثقافية القائمة، لا كإضافات متأخرة أو كظواهر "جديدة"، ولكن كجزء لا يتجزأ من التاريخ السوري، قبل وخلال وبعد انطلاقة الثورة والنزاعات القائمة إلى حد الآن؟ كيف ستبدو ذاكرة سوريا البديلة إذا ما أخدت على محمل الجد تجارب وقصص و آراء وتحليلات ومقاربات أفراد مجتمع الميم – عين في سوريا وفي الشتات؟ كيف لنا أن نقارب الحاضر بطرق تسمح لنا برسم تخيّلات لمستقبل دولة سورية يكون مجتمع الميم – عين وكل ما ومن يعتبر "لا تقليدي" و"لا نمطي" و"لا ثنائي" جزءا لا يتجزأ من هذا التخيّل؟
في هذا الملف، نحاول كأفراد من مجتمع الميم – عين السوري بانتماءاتنا وخلفياتنا الأخرى المتعددة، إلقاء الضوء على هذه التساؤلات والقضايا من خلال مجموعة من المقالات القصيرة المكتوبة بأساليب ومقاربات مختلفة، منها السردي الشخصي، ومنها ذا طابع تحليلي، ومنها ما بين بين. ولكن ما يجمع المقالات رغم هذه الاختلافات هو كونها وليدة السياق السوري بشكل لا لبث به، نبتعد فيها قدر الإمكان عن قوالب خطاب "الضحية" الغربية المهيمنة التي غالبا ما تهمّش خصوصية وتفاصيل السياق، ونفرض فيها أنفسنا وقصصنا وآرائنا وتحليلاتنا وأوجاعنا وآمالنا (التي تتقاطع أحيانا وتختلف أحيانا أخرى) على الخطابات الحقوقية، التحليلات السياسية والتواريخ الشفوية المعيارية المهيمنة على الفضاء السوري العام.
ولما كان موضوع اللغة مهما وجوهريا في الحديث عن الجندر والجنسانية، يقوم المشاركون/ات في هذا الملف باستخدام كلمات ومصطلحات مختلفة للتعبيرعن تجاربهم/ن أو تقديم التحليلات. فالبعض يكتب عن المثلية الجنسية والبعض يتطرق إلى العبور الجندري وعدم الانتماء إلى الثنائية الجندرية المعيارية المفروضة (رجل/ امرأة) أو الأدوار وطرق التعبير الجندري المتوقعة منها. البعض يعيد استخدام كلمات مثل "شاذة" و"طنط" و"سحاقية" لوصف ذاته/ا تحدّيا لعنف هذه الكلمات في السياق السوري وكوسيلة لتفريغها من سلبيتها المجتمعية ودلالتها المهينة، بينما يلجأ البعض الآخر لاستخدام "كوير/ Queer" كمصطلح يشير إلى كل شخص غير نمطي ذو تعبير جندري أو "جسد" خارجان عن المتعارف عليه أو ذو هوية جنسية أو جندرية خارجة عن الغيرية الجنسية/ heterosexuality والثنائية الجندرية القمعية من ناحية، وكأداة نقدية تحليلية لتفكيك الخطابات الثورية والمجتمعية السائدة المبنية على ثنائيات مضادة (رجل/ امرأة، طبيعي/ غير طبيعي، معارضة/ موالاة، إلخ) من ناحية أخرى. ونأى آخرون عن استخدام أي مصطلحات أو كلمات للتعبير عن ذواتهم/ن مكتفين بتوصيف وسرد تجاربهم/ن من دون تأطيرها في إطار مصطلح أو هوية معينة.
كيف يمكن لنا أن نضع الجندر والجنسانية في وعلى خارطة الخطابات السياسية، الإجتماعية والثقافية القائمة، لا كإضافات متأخرة أو كظواهر "جديدة"، ولكن كجزء لا يتجزأ من التاريخ السوري، قبل وخلال وبعد انطلاقة الثورة والنزاعات القائمة إلى حد الآن؟
وفي أوقات عصيبة كالتي تعيشها سوريا والمنطقة بشكل عام حاليا، قد تبدو مشاريع الكتابة عن المثلية أو العبور أو الجنس والجندر ترفا فكريا وثقافيا، وقد تتوجه لها أصابع عديدة متهمة إياها بعدم التركيز على ما هو "أهم". ولكن بالعودة إلى سنوات عديدة من الإنتاج المعرفي في/عن سوريا، فيبدو أنّ الكتابة عن المواضيع المتعلقة بأفراد الميم – عين والحريات الجنسية والجندرية وما يترتب عليها من مراجعة وإعادة النظر جذريا في أكثر الخطابات الثورية والفكرية "التحررية" ما زالت تقبع في أسفل هرمية القضايا المهمة للسياق السوري بكافة أطيافه المتنازعة على اعتبار أن "الوقت المناسب" لم يأت بعد، في حين يبدو أن هذا الوقت قد أتى لعدد كبير من القضايا الأخرى التي لم تواجه نفس الحدية في خطاب أولوية القضايا المهيمن على السياق السوري. ولكن يقينا منّا أن هذا "الوقت المناسب" كما تتخيله الخطابات السائدة والمهيمنة لن يأت أبدا، نأمل أن يشكل هذا الملف إضافة جديدة لما سبق من كتابات أفراد الميم – عين السوري في معالجة قضايا مهمة لطالما تم إهمالها وتهميشها، ونأمل أيضا أن يخلق هذا الملف وقتا ومكانا مناسبين لإعادة صياغة الحريات الجنسية والجندرية لا كقضايا على الهامش، بل كمواضيع مركزية ذات أبعاد اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية وصحية لا تخص فقط أفراد الميم – عين، بل مستقبل الدولة السورية وكامل أفرادها من دون تمييز أو استثناء.
هوامش:
[1] عابر/ة جندريا (من العبور الجندري) هو آخر المصطلحات المتعارف عليها والشاملة لأي شخص لا تتناسب هويته الجندرية مع الهوية المفروضة عند الولادة (بغض النظر عن إذا كان هذا الشخص قد أقدم على أي نوع من "العمليات" أو التغييرات الطبية أو لم يقدم). بعض الترجمات الأخرى الموجودة بكثرة في الإعلام والكتابات المتداولة هو "عابر/ة جنسيا" و لكنه يشير أكثر إلى فكرة العبور المربوط بالإقدام على عمليات أو تغييرات طبية. ولكن مازال النقاش في مجتمعات الترانس الناطقة بالعربية قائما حول أفضل المصطلحات وأكثرها شمولية وقدرة على التعبير عن كافة أشكار العبور.
[2] هناك ترجمات متعددة ل Intersex ولا يوجد ترجمة واحدة متفق عليها بشكل واضح بعد. بعض الترجمات الأخرى الموجودة تشمل: البين-جنسية وحاملي/ات صفات الجنسين.
[3] الاختصار المقابل لل ميم – عين والمتعارف عليه باللغة الإنكليزية هو LGBTIQ