رحلة الزيت والشتاء

من زيت عفرين وزيتونها أكلنا معا


لا يمكن لأي نص يتحدث عن عفرين، وإن كان موضوعه الزيت وأشجار الزيتون وطقوس مواسم القطاف، أن يتجاهل احتلال المدينة الذي يستفز الحاضر، مثلما يوقظ الذاكرة ويتسلّح بها. ولهذا، هذه مطالبة مشروعة بإنهاء احتلال المدينة وعودة أهلها لها، كي يعود الزيت يجري بيننا، لا الدماء، وتعود الأغنيات جميلة كما عفرين وزيتونها الذي أطعمنا معا، عربا وكردا.

06 تشرين الثاني 2020

(فينسنت فان غوغ)

لا أعرف تماما ما الذي يدفعني للكتابة عن شيءٍ لم يعد موجودا وليس له أي تأثير أو فائدة على شكل حياتنا اليوم. ولا أعتقد بوجود معنى قيّم يمكن الاستفادة منه في هذا النص. لكن موسم قطاف الزيتون وقضية عفرين وحاجة نفسية لتسجيل موقف سياسي، أشياء لا أعرف كيف يجمعها العقل ويشكّلها دافعا قويا للكتابة.

هذا النص لا يحب الاقتباسات ولا يريد أن يستعرض أي أقوال أو حكم يونانية أو إسبانية عن الزيتون. هو فقط، يحتفي بالبسطاء وذكرياتهم، أحاول فيه بمساعدة عائلتي تذكر بعض صورٍ من طقس قديم طواه الزمن.

عفرين.. الزمن الجميل

عفرين على طريق التعريب واتهامات بالتغيير الديموغرافي الممنهج

04 آب 2018
بعد عملية "غصن الزيتون" التي بدأت العشرين من يناير 2018، والتي انتهت في الثامن عشر من آذار بسيطرة القوات التركية والفصائل السورية المعارضة والمسلحة المرافقة لها على مدينة عفرين، وّجهت...

كانت عفرين في كل موسم قطاف زيتون تجذب مئاتٍ من العمال من خارجها، قد تصل للآلاف في المواسم الوفيرة، وذلك بهدف العمل في جني المحصول، لأنّ عدد أشجار الزيتون الهائل فيها لا يتناسب مع عدد أهالي عفرين، وبالتالي يتحتم طلب مساعدة الريف المجاور والبعيد. وكان لريفنا الحلبي الجنوبي الحصة الأكبر من هذه العمالة. كما أن هناك أسباب أخرى لعدم عمل أهالي عفرين، منها التعليم الذي أبعد الفئة الأكبر منهم عن الأعمال الزراعية.

من يذهب منّا هم العائلات بكامل أفرادها، كبارا وصغارا، نساءً ورجالا. تترك بيوتها مغلقةً وراءها وتذهب للتخييم في كروم الزيتون في عفرين. وعادة ما تتفق كل عائلة مع مالك محدد، تتفق معه وتتردّد سنويا على حقول زيتونه لقطافها في المواسم.

رحلة "الزياتة"

"الزياتة" هو المسمّى الشعبي لهذه العائلات التي تنقلها باصات الهوب هوب في طقسٍ احتفالي، له نغمة أبواق الباصات المميزة والحمولات على ظهرها. كانت بعض هذه الباصات تعود محملة بما ذهبت به بعد أيام قليلة أو في اليوم نفسه بسبب خلاف بين أفراد العائلة. وكان هذا يُعتبر مدعاةً للعار في عرف القرية.

إن ما يجعل هذه الرحلة تترك أثراً عميقاً في داخلي لم يستطع إلا أن يُعبّر عن نفسه في هذا النص، قد يكون سببه أخذ العائلات لجميع أبنائها، حتى من هم على مقاعد الدراسة، حيث لم تزل مفرداتهم يتردد صداها في أذني:

-وينو فلان؟

-راح مع الزياتة

لتخيّم الزياتة في الكروم لمدة شهر تقريبا، تقطف خلاله الآلاف من الأشجار. كما أن هناك طرقا مختلفة لتقاضي أجور القطاف يحدّدها اتفاق مسبق بين المالك والقاطفين؛ منها أجر مقطوع أو نسبة من الزيت بعد العصر أو عدد من أكياس قياسية من حبّات الزيتون.

العودة كطقس احتفالي

من "روضة" دمشق إلى "آينشتاين" برلين.. خفقة قلب

20 آب 2020
"لا تقترب المدن من قلبي ويصبح لها مساحة خاصة به، ما لم أجد فيها مكانا يألفه القلب، وهذا المكان ليس إلا المقهى. إذ لا أعتبر المدينة "مدينتي" ما لم يكن...

وبعد انتهاء عمل القطاف تعود الباصات من عفرين تباعا على نفس منوال الطقوس الاحتفالية التي ذهبت بها، إلا من تعثر في العمل ولم يجنِ ما يستحق الفخر.

حجم ما يعود به الزياتة بالغ الأهمية في صون صورتهم الاجتماعية كعائلة نشيطة ومتكاتفة، ويعزّز أيضا من فرص بنات العائلة في الزواج. وبهذه المناسبة، قد يتفق للعائلات المتجاورة في عملها، أن تعقد الخطبات والزواج أثناء شهر القطاف.

بين أوراق الزيتون، دقّت قلوب مُجدّة وابتدأت قصص الحب الجميل في زمن ما قبل اللايك والريتويت، حين لم يكن العشاق يكترثون للأيقونات المُفلترة ولا الآراء السياسية.

شهر القطاف في عفرين كان موسماً أيضاً لاستعراض الأصوات الغنائية الشابة. ففي الجبال تلك، تُنتخب الأصوات التي ستربح جائزة الغناء في أعراس القرية عند العودة إليها، وفيها أيضاً يتعلم الشباب فنون الدبكات الكردية. 

جسر للتواصل مع الآخر

يعود الزياتة لأريافهم بجرارٍ، هي في الواقع صفائح تنك، معبأة بالزيت والحكايا عن عفرين وأهلها، يصلون إلى جانب البلوط الرديء الذي لا يتجرأ أحدٌ على الاعتراف بمدى سوء طعمه ويبدؤون سرد رواياتهم عمّا رؤوه واستعادة ما حدث معهم.

من روايات الزياتة، عرفنا لأول مرة في طفولتنا عن "مسلمين وبيشربوا!"، "إي والله وما بيتحجبوا إلا ليكبروا أو لما تولد المرأة أول ولد لها!" (ونتعجب!). كما يتفق الزياتة على روايةٍ محددة: زيتون عفرين متروك لكبار السن، لأن فتيتهم في المدراس المحلية أو جامعة حلب.

ما انتهى إليه حال عفرين اليوم لا يمكن تجاوزه في أي نصّ يتناولها (بصراحة يمكن عند عديمي الضمير) مهما كان موضوعه وتاريخه. ومثلما يستفز احتلال عفرين الحاضر، فإنه يوقظ الذاكرة أيضا ويتسلّح بها.

هذه ليست نوستالجيا، هذه مطالبة مشروعة بإنهاء احتلال المدينة وعودة أهلها لها لكي يعود الزيت يجري بيننا، لا الدماء، وتعود الأغنيات جميلة كما عفرين.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد