هي الحرب، إنها قذرة بكل المقاييس. فما إن تحل في مكان ما حتى يحلّ معها الخراب والهلاك، هي من تشرّد الناس، توقع الضحايا، تدمر كل ما حولها من بشر وحجر. وإن ما نشاهده من صور مؤلمة للمصابين والقتلى والدمار، وقد يكون الزمان كفيلاً بتجاوزها ونسيانها، إلا أنّ مالا نشاهده ولا يمحوه الزمن، هو الأثر النفسي الذي ستتركه هذه الحروب داخل كل من عاصرها وعايش الرعب والقلق، كل من فقد عزيزا أو قريبا أو منزلا يستظل بظله ليجد نفسه في العراء، فالسلاح الأشد فتكاً في هذه الحروب هو التدمير النفسي الذي يدمر التوازن النفسي للمدنيين وعلى وجه الخصوص الأطفال.
أثرت الحروب والصراعات السياسية في العديد من دول العالم، بشكل كبير على الكثير من المؤسسات الحيوية ومنها المؤسسة التعليمية، التي تعاني اليوم من مشكلات وأزمات متنوعة، منها الاستهداف المباشر من قبل الأطراف المتحاربة، كما إنها أصبحت، وفي ظل تفاقم خطر وانتشار الفكر المتشدّد مركزاً مهماً لجذب وتجنيد الأطفال، وهو ما أثار قلق ومخاوف العديد من الجهات والمنظمات الدولية التي تخشى من استمرار وتفاقم هذه المشكلات، حيث قالت منظمة الأمم المتحدة لشؤون الطفولة "اليونيسيف" في وقت سابق، إن الصراعات في مختلف مناطق العالم تحرم 25 مليون طفلاً وشاباً من فرص الوصول إلى المدارس.
تؤثر الحرب على انعدام تركيز الأطفال على دروسهم في المدرسة، وتجعلهم عدائيين، وتخلق عدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة لدى الكثير منهم
وأكدت المنظمة، في تقرير صادر عنها، أن الصراعات المسلحة طويلة الأمد في مختلف مناطق العالم تتسبّب في أضرار ثقافية أوسع أثراً على المستوى البعيد. وتشير المنظمة إلى أن 20 في المئة من التلاميذ في سن المرحلة الابتدائية لا يمكنهم التوجه إلى المدارس بشكل عام في مناطق الصراع في 22 دولة حول العالم. وإذا لم يتلقى هؤلاء الأطفال تعليماً مناسباً فسيدخلون على الغالب في حلقة مفرغة من العمالة غير العادلة والفقر، كما قد يكونون عرضة للانتهاكات الجنسية والانضمام لجماعات متشدّدة. وقالت المنظمة أيضاً إن هناك نحو 8850 مدرسة في العراق وسوريا واليمن وليبيا، دمرت أو تضرّرت بحيث لا يمكن استخدامها، وهي تأوي الآن عائلات مهجرة أو أنها احتلت من قبل أطراف النزاع. وأضافت أن تعرّض المدارس والبنية التعليمية للهجمات هو سبب رئيسي وراء عدم ارتياد الأطفال للمدارس. كما أشارت إلى أن الخوف دفع آلاف المعلمين لترك وظائفهم، أو منع الأهالي من إرسال أطفالهم للمدرسة بسبب ما قد يحدث لهم في الطريق أو في المدرسة، وحذرت المنظمة من أن الفشل في إيجاد حل للصراع الذي تتزايد وحشيته في بعض المناطق يهدد جيلاً كاملاً من الأطفال، والنظام التعليمي يدفع ثمناً باهظاً. ودعت الـيونيسف المجتمع الدولي إلى تقديم المزيد من الدعم لأنظمة التعليم الوطنية في دول النزاع والدول المضيفة للاجئين وتدريب المعلمين وتوفير أدوات التعليم.
ففي سورية كان جميع الأطفال تقريباً قبل الحرب مسجلين في المدارس الابتدائية وكانت نسبة التعليم 95% للأعمار ما بين 15 حتى 24 عاماً. أما في ظل الحرب فقد ظهرت آثار كارثية ووخيمة على التعليم، ففي مارس عام 2017 قامت لجنة الإنقاذ الدولية باختبار آثار الحرب على تعليم الأطفال بسوريا، وهنا ظهرت فجوة كبيرة في مهارات كثيرة من بينهم الرياضيات والقراءة والكتابة. حيث أظهرت تلك الدراسة أنّه طوال فترة النزاع السوري، تم تعطيل تعليم الأطفال بسبب النزوح وانعدام الأمن. كما وُجد أن 5.8 مليون طفل ما بين سن الـ 5 و 17 سنة في سوريا يحتاجون إلى المساعدة في مجال التعليم، وحوالي 1.75 مليون طالب من الأطفال والمراهقين قد تركوا المدارس بالفعل، هذا بجانب الكثير من الأشخاص الذين يواجهون خطر الانقطاع عن الدراسة. وإن أكثر من 150000 العاملين في مجال التعليم قد تركوا المنظومة التعليمية بالفعل، وثلث المدارس مهدمة ومحطمة وغير قابلة للاستخدام. وخلال الاختبارات التي أجرتها لجنة الإنقاذ الدولية، وُجد أن 59 ٪ من طلاب الصف السادس، و 52 ٪ من طلاب الصف السابع، و35٪ من طلاب الصف الثامن لم يتمكنوا من قراءة قصة بسيطة تتكون من 7-10 جُمل، أي ما يعادل مهارات القراءة للصف الثاني.
يبقى الطفل هو الضحية الأولى والحلقة الأضعف في مجتمعات تمر بصراعات محتدمة وظروف سياسية واقتصادية غير مستقرة
تؤثر الحرب على انعدام تركيز الأطفال على دروسهم في المدرسة، وتجعلهم عدائيين، وتخلق عدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة لدى الكثير منهم، علاوة على الخوف وانعدام الشعور بالأمان والبكاء والاستيقاظ ليلاً من الكوابيس، وربما ترافق الطفل خاصة في المرحلة الابتدائية تهيؤات معينة. وإذا لم يكن هنالك وعي من الأهل ومتابعة من اختصاصيين قد تؤدي إلى تفاقم الحالات، وربما في بعض الحالات تصل إلى توقف النطق حتى دون سبب عضوي، إنما بعامل نفسي، فضلاً عن إصابة الأطفال بالاكتئاب. كذلك فإن هناك شريحة من الأطفال الإناث قد أخرجن من المدارس وتم تزويجهن وصرن أمهات، وتعرض البعض منهن للعنف الجسدي والجنسي.
ولمواجهة هذه المشاكل والحالات النفسية لدى الأطفال لا بد من تفعيل التعاون، ووجود آلية عمل متكاملة أثناء وبعد الخروج من الصدمة أو من أجواء الصراع والحرب بين الأسرة والمختص النفسي والاجتماعي وبين المؤسسات التربوية والمنظمات الأهلية والدولية ووضع سلسلة برامج مشتركة لمساعدة الأطفال في تخطي وتجنب المزيد من الآثار السلبية للحرب. كذلك لا بد من حماية الطفل وتقديم الدعم النفسي الإسعافي، والمقصود منه العمل الجاد والحثيث من قبل المؤسسات الحكومية والمجتمع الأهلي وممارسة كافة المسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال وتوفير بيئة حاضنة وتأمين الأمن ومتطلبات الحياة الأساسية، وتعليمه كيف يتعامل مع من حوله، وتعليم الاختصاصيين في المدارس كيف سيتعاملون مع الطفل الملتحق بالمدرسة والمشوّش فكرياً والمضطرب نفسياً، وأهم خطوه في كل ما تقدّم هو امتصاص الصدمة وتوفير برامج الرعاية الصحية للأم والطفل، وضمان الأمن الغذائي والصحي والتعليمي للأطفال.
وفي الختام: يبقى الطفل هو الضحية الأولى والحلقة الأضعف في مجتمعات تمر بصراعات محتدمة وظروف سياسية واقتصادية غير مستقرة، الأمر الذي ينعكس على حياته، ويجعله يمر بظروف أسوأ من تلك التي يعيش في ظلها نظراؤه في باقي دول العالم، لذا لا بد من إيلاء أقصى الاهتمام بقضايا الطفولة في الدول التي تعاني من الحروب كونها قضية بالغة الحساسية تتعلق بجيل المستقبل.