(النص الأصلي بالإنجليزيّة موجود على هذا الرابط)
تمتد طبقة رماديّة سميكة لا يُمكن اختراقها فوق ماريانكا دي سوس(1)، ومن الصعب التمييز ما إذا كانت الدنيا نهارًا أو كان المساء قد حلّ. تتكون القرية من خطين متوازيين من البيوت، يفصلها صفٌ من الحقول. وخلف كلّ خط، تمتد حقولٌ لامتناهية من الذرة والبطاطا، تؤطّر السماء الضبابيّة بلون الحصاد البني. أثناء السير على طول الطريق الرئيسي، والذي يبلغ طوله حوالي كيلومترين، لا يمكن عدّ سوى اثني عشر منزلًا، يقف أغلبها وحيدًا، تحاذيه أراض فارغة، ربما كانت تقف عليها أبنيّة أُخرى ذات يوم، أما الآن، فإنّ الأبقار ترعى فيها، إلى جانب الدجاج والإوّز والكلاب. عدد الحيوانات يفوق عدد البشر بكثير، ولهذا كان من المدهش أن أصادف بيوتر فيلير، آخر ألمانيّ في القريّة.
حتى الحرب العالميّة الثانيّة، كانت قرية "ماريانكا دي سوس" معروفة باسم مارييفكا. تأسست القرية في العام 1892، واحدة من المستوطنات الألمانيّة في منطقة بيسارابيا، ولاحقًا أصبحت جزءًا من الإمبراطوريّة الروسيّة. بعد أن هزم القيصر الروسي "ألكسندر الأول" الجيش العثماني في الحرب الروسيّة التركيّة الخامسة عام 1812، أصبحت المنطقة الواقعة بين نهري بروت ودنيستر تحت السيطرة الروسيّة. سعى القيصر إلى ملء أراضي السهوب الواقعة على مقربة من ساحل البحر الأسود، والفارغة من البشر على الأغلب، وذلك رغم خصوبتها، بالبشر. تعد اليوم هذه السهوب جزءًا من أراضي دولتي مولدوفا وأوكرانيا.
من أجل تعزيز التنمية الاقتصاديّة وللمساعدة في تحديث المجتمع الزراعي في بيسارابيا، اختار القيصر دعوة مجموعة من الألمان لتوطينهم في المنطقة(2)، مع منحهم امتيازات خاصة مثل الحريّات الدينيّة والإعفاء من التجنيد، بالإضافة إلى منح كلّ منهم قطعة أرض زراعيّة كبيرة. جاء معظم الألمان من منطقة شفابيا الواقعة في جنوب ألمانيا، حيث رأوا في تلك الفرصة مهربًا من المشقّة والتمييز الديني(3) الذي يعانونه في وطنهم الأم. كانت الأجيال الأولى تكافح ضمن ظروف قاسيّة، لكن المجتمع أصبح مزدهرًا بشكل أفضل على مرّ السنين، فحتى عام 1940 تمّ إنشاء حوالي 150 قرية في جميع أنحاء المنطقة، يسكنها الألمان. لكن، وعلى الرغم من العيش في المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، كان اتصال الألمان بالشعوب غير الألمانيّة مقتصرًا على العلاقات التجاريّة، حيث تقوقع المستوطنون في الغالب على أنفسهم، حتى إنّهم استمروا في التحدث بلهجتهم الألمانيّة، لهجة جنوب ألمانيا.
في أوقات الذروة، كانت هناك أكثر من خمسين مزرعة في قرية مارييفكا، حتى أنّه قد تمّ بناء قريّة جديدة تقع على بعد كيلومتر واحد إلى الغرب وسُميت بـمارييفكا الجديدة(4). لكن، وعلى الرغم من ذلك أصبحت كلّ تلك المزارع فارغة بحلول العام 1940. وفي ضجة السنوات بين الحربين العالميتين أصبحت رومانيا هي المسيطرة على بيسارابيا، لكن عهد الاتحاد السوفيتي الجديد لم يقبل خسارة تلك الأراضي المهمة استراتيجيًا.
في بروتوكول سريّ تكميلي لاتفاقية مولوتوف-ريبنتروب(5) قرّرت ألمانيا النازيّة والاتحاد السوفيتي مصير بيسارابيا: في تلك المرحلة، دعا هتلر ما يقارب من مئة ألف شخص من عرق ألماني يعيشون في المنطقة إلى العودة إلى وطنهم الأم، كي يتمكن الاتحاد السوفيتي من دمج تلك الأراضي إليه. ولتبرير رحيل الألمان الذين عاشوا في تلك الأراضي على مدى أجيال وبنوا حياة مزدهرة من لا شيء، أطلقت البروباغندا النازيّة حملة سُميت "عائد إلى الرايخ" (Heim ins Reich). لكن، لم يكن من مخططًا أن يعود ألمان بيسارابيا إلى موطن الرايخ الثالث، بل كان هتلر يخطط لاستخدام تجربتهم الزراعيّة لتعبئة الأجزاء التي تمّ السيطرة عليها مؤخرًا في غرب بولندا وللاستيلاء على مزارع المزارعين البولنديين، والذين سيصبحون عاملين لدى الملّاك الجدد، أو سيتم ترحيلهم على الفور.
في بيسارابيا، بين ليلة وضحاها، تمّ التخلي عن المزارع المزدهرة. ترك الألمان أغراضهم وماشيتهم في ما كان يسمّى وطنهم لأكثر من قرن ورحلوا. بعد فوضى الحرب العالميّة الثانيّة، عندما كانت المنطقة تحت الحكم الروماني لبضع سنوات، أصبح الجزء الشمالي من بيسارابيا تابعًا للجمهورية الاشتراكيّة السوفيتيّة المولدافيّة، والجزء الجنوبي تَبِعَ النظير الأوكراني. استولى سكان محليون، ممن لم يملكوا أيّ أراضٍ زراعيّة سابقًا، على أجزاء من مزارع الألمان، بينما تمّ نقل أجزاء أخرى إلى ملكيّة الكولخوز والسوفخوز، وهي مزارع جماعيّة مملوكة من قبل الدولة السوفيتيّة. في وقت لاحق، استقر الألمان في مناطق أخرى من الاتحاد السوفيتي، ومن ضمنها بيسارابيا.
أحدهم كان بيوتر فيلير. "لقد أتت عائلتي من سيبيريا في العام 1963. جدتي الكبرى كانت تعيش هنا، ومن ثمّ قرّر والدي وأخوه أنّ علينا جميعًا الاستقرار في ماريانكا دي سوس، مثلما كانت تُسمّى القرية فيما مضى" قال بيوتر، وهو يتصفح الصور القديمة وكروت البريد في غرفة المعيشة في بيته. زوجته، ليديا، انضمت إلينا حاملة القهوة وهي تقول مازحة: "انظر، حتى قهوتنا ألمانيّة" مشيرة إلى العلامة التجاريّة الألمانيّة على العبوة. "في الستينيات من القرن الماضي، عاشت العديد من العائلات الألمانيّة هنا، لكنها غادرت إلى ألمانيا، الواحدة تلو الأخرى" أضاف بيوتر. على الرغم من جذورهم، لم يتمكن معظم القادمين الجدد إلى ماريانكا دي سوس من التحدث باللغة الألمانيّة. جدة بيوتر علمته اللغة حين كانوا يعيشون في سيبيريا، لكن العائلة توقفت عن استخدام الألمانيّة بمجرد وصولهم إلى منزلهم الجديد، فنسى اللغة بسرعة.
قصة بيوتر ليس قصة متفردة حسب شرح د.دورين لوزوفانو. أجرى عالم الجغرافيا المولدوفي بحثًا عن القرى الألمانيّة الواقعة اليوم في مولدوفا، وفي منطقة ترانسنيستريا الانفصاليّة المجاورة. "في أعقاب وفاة ستالين، تمّ السماح للعديد من أصحاب العرق الألماني، والذين تمّ ترحيلهم إلى سيبيريا خلال سنوات الإرهاب الكبير(6)، بالعودة إلى وطنهم" يقول لوزوفانو. ومع ذلك، لم تُمنح العائلات تصريحًا بالعودة إلى قراها السابقة، كما يشير الباحث لاحقًا في حديثه: "في بعض المقابلات التي أجريتها، كانت العائلات الألمانيّة تتحدث عمّا يسمى بقاعدة الكيلومترات؛ وهذا يعني أنّ الناس عليها اختيار قرية تقع على بعد خمسين كيلومتر على الأقل من منزلهم الأصلي" وفقًا لبيوتر فيلير، على سبيل المثال، فإنّ أسلافه ينحدرون من مكان ما يقع الآن في غرب أوكرانيا.
في خريطة إثنوغرافيّة جغرافيّة لمنطقة بيسارابيا أنشأها د.لوزوفانو، تظهر العديد من القرى الألمانيّة السابقة وقد اختفت ببساطة بعد الحرب، وتمّ إعادة توطين القرى المتبقية في الغالب بمزيج من المولدوفيين والروس والأوكرانيين والبلغاريين وبعض الألمان.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1991، واجهت القرى الألمانيّة السابقة مشاكل مماثلة لبقية أجزاء البلاد: هجرة سكان الريف إلى المدن أو البحث عن حياة أخرى خارج البلاد. بالنسبة للباحث دورين لوزوفانو فإنّ هذا التطور يشكل تناقضًا "في القرن التاسع عشر، أناس من ألمانيا والنمسا، وحتى سويسرا، استقروا في مولدوفا. اليوم يحدث العكس تمامًا، السكان المحليون، وبغض النظر عن العرق، يغادرون إلى أوروبا الغربيّة وإلى روسيا".
تبدو هذه الظاهرة واضحة للعيان خلال المشي في ماريانكا دي سوس مع ليديا زوجة بيوتر. حتى أساسات البيوت التي كان يزيد عددها عن ستين منزلًا لم تسلم، فقد قام المُدمرون المحترفون(7) بإزالة المباني حتى آخر حجر وأعادوا بيع مواد البناء مرة أخرى. "هل ترى هذين العمودين الخرسانيين؟ هنا كانت الكنيسة" تشير ليديا إلى تل مغطى بالأعشاب على الطريق الرئيسي حيث تستريح بقرة. كانت ليديا تعمل سابقًا في متجر صغير بجوار الكنيسة. في الخلف، توجد المقبرة المختبئة خلف شريط صغير من الأشجار، والتي تروي تاريخ القرية الحافل بالأحداث. في الجزء الأمامي، توجد قبور جديدة وأنيقة تتموضع عليها أزهار، وصلبان من الحقبة السوفيتيّة محفوظة بشكل جيد. في النهاية، تنتشر شواهد القبور القديمة فوق إحدى الحقول. معظم نقوش هذه الشواهد لا يمكن فك شيفرتها، لكن يمكن قراءة بعض الكلمات الألمانيّة القديمة هنا وهناك. يعود تاريخ هذه الشواهد إلى مطلع القرن الماضي.
الآن يعمل معظم أقارب وأولاد فيلير في ألمانيا أو روسيا. وعندما سئل عن سبب بقائه هنا أجاب بيوتر بعزم: "مثلما تعرف، أنا آخر ألماني يعيش في ماريانكا دي سوس. اعتدت على هذا المكان، وسوف أكون حزينًا لو اضطررت إلى مغادرة بيتي وترك ممتلكاتي ورائي". الحياة في هذه القرية صعبة. ليديا وبيوتر مزارعين مكتفين ذاتيًا، معظم طعامهم اليومي يأتي من حديقتهم الخاصة وحقولهم وماشيتهم. باقي نفقاتهم الأخرى تُغطى من خلال راتبهم التقاعدي الشهري والذي يبلغ حوالي خمسين يورو. "تزايم Zaim"، هي أقرب قرية، تبعد مسافة خمسة كيلومترات يقطعونها مشيًا، وفي القرية متجر صغير ووسائل نقل عامة. يقول بيوتر: "أعيش هنا منذ 56 سنة، الآخرون يغادرون، لكنني لا أستطيع ذلك. جذوري هنا".