سنحاول أن نطرح العديد من الأسئلة في هذا الملف، وليس الأجوبة الجاهزة، أسئلة حول التغيير الذي حصل ويحصل في السرديّات السوريّة بعد نصف قرن من التبدّل العميق الذي أصاب المجتمع السوري، منذ بداية زمن الديكتاتوريّة العسكريّة مرورًا بهزّات كثيرة، كانت آخرها الثورة والحرب والتهجير، وربما لن تكون الأخيرة! التغيير الأشبه بسلسلة ذهبيّة طويلة مليئة بالحلقات المتشابكة، كلّ حلقة تؤثر على الحلقة التي تليها، وكلّ حلقة مهمة وفاعلة في زمانها وظرفها. لذلك سنحاول الوقوف على إرهاصات التغيير وبداياته التي سبقت الهزّة الأخيرة، وكيف كانت ثورة السرد، أو الثورة الثقافيّة إن صحّت تسميتها، سابقة بشكل أو بآخر للثورة السياسيّة والاجتماعيّة. ثورة على صعيد الشكل والمضمون، ثورة التقنيات السرديّة/ الروائيّة المستخدمة والمعنى المقدّم. ثورة على صعيد الازدياد الكميّ الكبير لحضور الكاتبات، سواء أكانت كتاباتهن نسويّة أو لا نسويّة، تصاعد الحديث عن الأقليات بكلّ أشكالها، إثنيّة أو جنسانيّة أو دينيّة/ طائفيّة، وعن التعدّديّة بمفهومها الديمقراطي التكاثري، الأمر الذي كان شبه محرّم الخوض فيه بسبب من تأثيرات جملة من الإيديولوجيات العديدة والمسيطرة.
هل كان الأمر مجرّد "انفجار كلامي"، أو ما قد نسميه "شهوة الكلام"، بعد عقود من الصمت والكبت، والاضطرار إلى استخدام تقنيات الترميز والتوريّة من باب التقيّة؟ أم إنّها أشبه بشهوة لسرد الحكاية المعتّم عليها، المقموعة، حكاية الظلّ التي بقيت حبيسة الحلوق والقلوب لعقود طويلة؟ أم إنها تأثيرات السياسة المباشرة على الأدب، من حيث أنّ السياسة في بلاد الديكتاتوريات ترتبط بشكل موضوعي علائقي مع السرديات؟ فقد كانت محاولات السرديات السوريّة كسر التابو السياسي ثورة حقيقيّة قبل الثورة في العام 2011 حين بدأ ما يسمّى (أدب السجون)، والكتابة عن المجازر وعن تفاصيل حكايات البشر الشخصيّة والمؤلمة في ظل الديكتاتوريّة. وبعد العام 2011 راح التغيير السردي يتعملق ويتعملق، ليتبدّى في تبدّل كنه الشخصيات المكتوب عنها، في سيطرة التوثيق ومحاولات حفظ الذاكرة من النسيان، وفي تبدّل المضامين واختلافها جدًا، بناء على انقلاب جذري طال المجتمع برمته عموديًا وأفقيًا، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا. ولكن هل كان هناك بالمقابل تغيّر كبير موازٍ في بنى الشكل الفني-التقني الأسلوبي؟! هذا سؤال من أكبر الأسئلة التي يمكن طرحها.
ربما مازال الوقت مبكرًا للإحاطة بكلّ التغييرات التي طالت السرديات السورية مؤخرًا، وربما احتاج النقد فترة من الزمن لتفكيك الكم الهائل من السرديات التي راحت تُكتب في السنوات الماضية، لكنه الإبداعي كذلك دومًا، يبقى تغييره بطيئًا وكذا فهمه الجواني بطيئًا، مقارنة بالحركة السريعة لتغييرات السياسي وأحكامه.
بناء على ذلك لا تكفي المعارضة، بالمعنى السياسي، لتقديم منتج إبداعي بالتأكيد، كما لا يعني أن يكون أي معارض مبدعًا قادمًا بجديد، لكن المعارضة فعل حريّة، أن تقول "لا" في الوقت الذي يُنتظر منك فيه أن تقول "نعم". على هذا فالمعارضة، بالمعنى الإنساني العميق وليس السياسي فقط، هي نوع من أنواع الإبداع، لكنه ليس كافيًا لإنتاج سرديات جديدة بالمعنى الإبداعي! إذاً ما الذي خلق التفارق بين نتاجات مبدعي السرديّة بناء على توجهاتهم وآرائهم ومواقفهم؟! وهل هناك أصلاً تفارق حقيقي في المنتج السردي السوري؟!
مع مرور الوقت، وبعد العام 2014 أضيفت سرديّة جديدة مريرة إلى السرديّات السوريّة، تتعلّق بالرحيل والتهجير واللجوء، واحدة من أكبر الهزّات التي تطال الحكاية الإنسانيّة، وبدأت أسئلة جديدة تتمدّد وتحتل المشهد، تتعلّق بالهويّة والانتماء والواقع المستجد، أسئلة المنفى والبلاد الجديدة، تناقض الثقافات ووجهات النظر، وكيفيّة إعادة طرح الأسئلة/ البديهيات في مرآة الآخر. ومن هنا، من فكرة النظر إلى أنفسنا في مرآة الآخر، أعيد طرح السؤال القديم/ الجديد: ما هي الحدود الفاصلة بين الخصوصيّة والعالميّة؟ سؤال كانت قد بدأت بوادره قبل عقود قليلة حين طغيان موجة الترجمة إلى اللغة العربيّة وانفتاح الأدب العربي والسوري على الترجمات العالميّة. سؤال يضعنا أمام تحدّيات مختلفة، كيف يمكن أن نحافظ على خصوصيّة سردياتنا دون أن نتماهى في سرديات الآخر، وبالمقابل ألا نكون منفصلين عن المتلقي الجديد/ الآخر وحركة الإبداع العالمي؟! كمن يسير على حبل مشدود فوق هاويّة!